أخيرًا أمنيتي اتحققت؛ واستلمت وظيفتي في ورشة جرَّارات.. الحقيقة الوظيفة دي كانت بالنسبالي فرصة متتعوَّضش، أصل أنا رفضت أعمل زي زمايلي؛ اللي راحوا يقدموا في شركات خاصة، وقالوا إن مهندسين الميكانيكا بياخدوا رواتب كويسة في القطاع الخاص، بس كان ليا رأي تاني، وهو إني أشتغل في ورشة من ورش هيئة السكة الحديد، عشان القطاع الخاص دايمًا بيخليك حامل هم بُكره، لكن لما تكون مصلحة حكومية الواحد بيبقى مطّمن، وبيحط في بطنه بطيخة صيفي، وربنا يديم علينا نعمة الأمن؛ والعَجلَة تفضل ماشية بأمان ليوم الدين.
أول يوم في الشُغل كنت تايه، وهو دَه الطبيعي لأي شخص بيدخل مكان جديد، بَس في اليوم دَه اتعرَّفت على مهندس قديم في الورشة، اسمه المهندس نبيل؛ ولما لقاني تايه من أوِّلها قال لي:
-بُكرَه تتودِّك يا بشمنهدس وائل.
أول فترة ليا كانت فترة تدريب، وبما إني كنت مسؤولية المهندس نبيل، نزلت معاه على صيانة جرار هينشيل ألماني، وساعتها قال لي:
-الهينشيل أكتر حاجة هتقابلك في الشغل، يعني لو عاوز تثبت جدارتك في الشُّغل، لازم تركّز فيها وتفهمها، عايزك تصاحب جرَّار الهينشيل عشان يصاحبك وميعذّبكش.
استغربت طريقة كلامه معايا، طول دراستي وأنا فاهم إن المعطيات بتوصَّل للنتايج، يعني أشوف إيه المشاكل اللي قدامي، عشان أقدر أعرف العُطل فين بالظبط، لكن المهندس نبيل بيتكلم معايا بطريقة ميكانيكي بيشتغل في عربيات الفيات، لكن بَلعت الكلام وقُلت في نفسي: الواقع دايمًا غير اللي في الكُتب، وأكيد هو دلوقت بيكلمني بطريقة الشغل العملي؛ بعيد عن النظريات والكلام الأكاديمي، عشان كده ابتسمت وأنا بقول له:
-متقلقش يا بشمهندس؛ أنا والهينشيل هنبقى أصحاب، ومش بعيد تلاقيني قاعد مع الجرَّار على القهوة كمان.
ساعتها بَص لي وضحك وقال:
-تعجبني يا وائل.. أنا بحب الشاب المدردح، وكده أنت مش هتتعبني في الشغل وهتفهمني بسرعة.
بدأنا نشتغل، فصلت دماغي عن كل حاجة؛ عشان أركز في كل حاجة المهندس نبيل بيعملها، بصراحة محسِّتش بالوقت غير لما لقيته بيقول لي:
-البريك بدأ يا وائل.
أخدنا بعضنا ودخلنا استراحة مهندسين الورشة، قعدت مع المهندس نبيل؛ أصل كلها نُص ساعة وهنبدأ شُغل من تاني، يعني يادوب نشرب اتنين شاي، وفعلًا جيبنا اتنين شاي وقعدنا ندردش، وبدأ يحكي لي عن أيام ما كان مهندس صغيَّر في الورشة، وقال إني بفكَّره بنفسه، حكى لي عن مواقف كتير، والكلام بدأ ياخدنا لحد ما لقيته بيحكي كلام مش قادر أفهمه، وده عرفته لما بدأ يقول لي:
-الجرَّارات طول ما هي ماشية في طريقها بتشيل حكايات، وبيبقى معاها من كل بلد حكاية، بس حكاياتها غير حكايات البَشر، لأنها بتحكي الحكاية بالنيابة عن ناس معادش ينفع يحكوا حكايتهم.
بصراحة؛ كلامه طيَّر مفعول كوباية الشاي من دماغي، حسيت إني قاعد مع جدّي قدام الباب؛ وبيحكي حواديت، مُش مع مهندس ميكانيكا المفروض إنه بيعرَّفني الشغل، عشان كِدَه الفضول أخدني وسألته:
-يعني إيه جرَّارات حديد تقدر تحكي عن ناس معادش ينفع إنهم يحكوا؟!
حَط كوباية الشاي من إيده وبَص لي بصة صامتة مفهمتهاش، لكنه اتكلّم بعدها وقال:
-طريق الجرَّارات مُش مجرَّد زلط وقُضبان ومزلقنات، كل حتة الجرَّار بيعدّي عليها بيكون فيها حكاية، والجرَّار بيشيل ريحة الحكاية معاه، لو بتقعد مع ناس كبيرة في السِّن، أو ناس ساكنة على شريط السكة الحديد، هتسمع منهم حكاوي ياما، اللي منهم هيقول لَك شُفت شبح فلان اللي القَطر داسُه من كام يوم، واللي هيقول لَك لمحت حد بيجري بين القُضبان واختفى فجأة، وده بسبب إن حوادث القَطر اللي بتاكل البَشر في طريقها بتبقى من أفظع الحوادث، واللي أغلبها الجرَّار بيكون جزء منها؛ لأنه راس القَطر، سواء بقى الجرَّار داس الضحية بالخطأ، أو الضحية انتحرت تحت منُّه، المهم إن كل حادثة بتسيب مكانها حكاية، والجرَّارت وهي رايحة جاية من عليها بتشيل الحكاية معاها.
بعدها بلع ريقه وكمل كلامه...
-أو عشان تكون فاهم الكلام كويس، أرواح الناس اللي ماتت في الحوادث؛ واللي دمّها اتعلَّق بأي مكان في الجرَّار، بتحاول تحكي لأكتر ناس بتتعامل مع الجرَّارات، وساعتها مبيكونش قدامهم غير اتنين مفيش غيرهم، يا إما سواق الجرَّار، يا إما المهندس اللي بيكون مسؤول عن صيانته لما بيدخل الورشة.
معرفش ليه كنت عاوز البريك يخلص بأي شكل، أصل أنا هنا عشان أشتغل في مجال عملي؛ وأكوِّن مستقبلي وأحقق طموحي.. مُش عشان أسمع كلام ميتقالش غير في أفلام قديمة، وميتسمِعش غير على المصاطب وفي الحواديت، لكن مُش كل حاجة بتمشي زي ما الواحد عاوز، الوقت كان بطيء وكأن الزمن وقف بيا في فترة البريك، حرفيًا النُّص ساعة دي وكأنها اتمطَّت وبقت يوم كامل، ساعتها خطر في بالي أستأذن المهندس نبيل، وأقوم بحجة إني رايح الحمام، لكن اتفاجئت إنه بيكمل كلامه...
-بالك أنت يا وائل؛ في مرَّة كنت سهران عشان أتمِّم على جرَّار هينشيل خلَّص صيانة وهيرجع للخدمة، مكانش معايا غير مساعد واحد، وساعتها تليفونه رن وكانت مراته، بلَّغته إن ابنهم تعبان وحرارته عالية، وإنه لازم يروح المستشفى، ساعتها طلبت منه يروح يطمّن على ابنه، وإني هكمّل الشُّغل الباقي، أصل يادوب كان فاضل كام حاجة أشيِّك عليهم وتبقى الدنيا تمام، ولما بقيت لوحدي، بدأت أسمع صوت حد ماشي جنبي، بصّيت حواليا وملقتش حد، وبعد كام ثانية الصوت بدأ يظهر أكتر، ساعتها بس عرفت إني رجعت لحاجة كنت مفتقدها، الحكايات اللي الجرَّارات بتحكيها، وده عرفته لما اتضح لي إن الخطوات اللي سامعها خطوات حد ماشي بين قضبان القَطر، أصل ودني عمرها ما تتوه عن دوسة البني آدم فوق زلط السكة الحديد.. افتكرت إني من شهور طويلة مسمعتش حكايات من دي، وقُلت في نفسي أكيد في حكاية الجرار كان شايلها للوقت المناسب، وهو الوقت اللي بكون فيه لوحدي، والحكاية استغلَّت الظروف اللي حصلت للمساعد وبدأت تعلن عن نفسها..
كان بيحكي بلسان حد واثق من الكلام اللي بيقوله، كلامه كان مترتّب ومفيهوش أي ارتجال، زي ما أكون قدام حد شاف حاجة واتحفرت في ذاكرته وبيحكيها بكل تفاصيلها بدون ما ينسى حاجة، وده اللي لاحظته لما كمّل كلامه...
-لما الخطوات وقفت لاحظت إن صوتها اختفى عند وِش الجرَّار، عيني راحت على هناك، ساعتها شُفت عيِّل عُمره حوالي 12 سنة، وقبل ما تقول لي إنه أكيد عيّل كان بيلعب ودخل الورشة والكلام ده، أحب أقول لَك إن تخمينك غلط، لأن في حاجة نسيت أقول لك عليها؛ وهي إن الحكايات اللي بتحكيها الجرَّارات بتكون صوت وصورة، عشان كده شُفت العيّل اللي قُلت لك عليه.. كان واقف بين القضبان ومبحلق في الجرَّار، ملامحه مكانتش واضحة بدرجة كفاية، عشان كِدَه محفظتش تفاصيله، بس اللي لاحظته إن هدومه كانت متبهدلة وكان لابس جزمة مقطَّعة.. بدأ يقرَّب من الجرَّار ووشُّه مرفوع ناحيته، في اللحظة دي كشَّاف الجرَّار نوَّر وسارينته اشتغلت، السارينة اللي بيعملها أي سواق قَطر بيكون داخل على مزلقان أو محطة، وبخبرتي فهمت إن ده هو اللي حصل قبل الحادثة اللي بيحكيها الجرَّار.
لحد هنا أخد نفس طويل؛ فعرفت إنه لسَّه هيكمّل، وفعلًا قال:
-كل حاجة رجعت زي ما كانت، الجرَّار كان صامت والعيِّل اختفى، وفي اللحظة دي عرفت إن أطراف الحكاية اتجمَّعت، لأني سمعت صوت واحدة بتصرخ وبتقول: أنت مُش ناوي تفوق بقى؟ إيه يا أخي! الهِباب اللي بتبلعه ده بقى عاميك ومبقتش عارف راسك من رجليك، كُل فلوسك رايحة على الهِباب دَه وكأن مفيش وراك بيت، وأخرتها لقيت رُبع شريط في إيد الواد، لو أخد منه حبَّاية هيكون إيه الحل؟!.. بعدها لمحت نفس العيِّل تاني قدام الجرَّار، بَس مكانش واقف على حيله، دَه كان مَرمي قدام الجرَّار بين القضبان وأطرافه مفصولة عن جِسمه، وراسه كانت منطورة بعيد، المنظر كان بَشع ومكنتش قادر أتحمّله، غمضت عيني؛ لكن فتحتها على صرخة نفس الست وهي بتقول ابني راح، ساعتها الجثة كانت اختفت، بعدها المكان رجع للهدوء من تاني، أخدت بعضي ورُحت عند وِش الجرَّار؛ في المكان اللي كان فيه الجثة، وساعتها لمحت دَم في المكان.. الدَّم كان عبارة عن قطرات جنب بعضها وعاملين شَكل غريب، ولما دقَّقت فيه لقيت إن الشَّكل عبارة عن كلمة، ولما قرأتها افتكرت إنها اسم منطقة في بلد جنبنا.. وكالعادة بعد ما بسمع حكاية وبتكون سايبة دليل على مكانها؛ أخدت بعضي في يوم راحتي ورُحت على هناك، ومُش عايزك تنصدم لما تعرف إن وأنا هناك عرفت إن في عيّل القَطر داسه وهو مش في وعيه، وإنه أخد حبايه من الهباب اللي أبوه بيبلعه بدون ما حد ياخد باله، ولأن بيتهم كان قدام شريط القَطر، وقف على الشريط ومكانش مستوعب إن القَطر داخل عليه وهيدوسه، وأجله انتهى لحد هنا، ومن بعد الحادثة دي أمه انفصلت عن بوه اللي اتسجَن بسبب التعاطي، وهي دي آخر حكاية سمعتها هنا.. عرفت بقى إن الجرَّار بيشيل الحكاية من على الطريق؛ ويجيبها لحد عندك!
أخدت نفس عميق لما خرج من الاستراحة لأن البريك انتهى، مكانش عندي القدرة إني أتحمّل كلامه أكتر من كده، ومن حظي إني وقعت في إيد واحد شايف الورشة من منظور تاني، وإنها اتحوِّلت من مكان لصيانة الجرَّارات لمكان بيأوي أرواح الناس اللي ماتت على شريط السكة الحديد وأشباحهم، وإذا كان بيقول لي الكلام ده في أول يوم، يبقى مُش بعيد بعد كام يوم هيبدأ يحكي عن عفاريت بتطلع في الورشة وكلام من الخرافات دي!
خرجت من الاستراحة وأنا ناوي إن دي أوّل وآخر مرَّة أسيب لُه وداني وأسمع الكلام ده، بدأت أشغل نفسي بإني أتعلِّم كويس، ورميت خرافات المهندس نبيل برَّه دماغي، ويوم ورا التاني؛ بدأت أعرف الناس ويعرفوني، انتظرت حد يفتح معايا كلام ويقول إنه بيشوف حاجة، أو يحكي عن أي أحداث غريبة بتحصل في الورشة، لكن مفيش حاجة من دي حصلت، الموضوع ده حصريًا كان تأليف وإخراج المهندس نبيل وبس!
لما البريك كان بيبدأ، كنت باخد بعضي وأروح لأي مكان تاني غير الاستراحة، ومع الأيام بدأ المهندس نبيل يلاحظ إني بتصرَّف بالطريقة دي عشان أتجنّب الكلام معاه، لحد ما في مرَّة لقيته بيمسكني من إيدي وبيقول لي:
-البريك بدأ.
بصّيت في ساعتي لأن ضغط الشغل كان واخدني ومكنتش منتبه للوقت، بعدها بصيت ناحته وأنا بقول:
-فعلًا؛ الوقت فات بسرعة!
لما بدأت أتحرَّك من مكاني؛ لقيته بيشدّني ناحية الاستراحة وهو بيقول:
-بتتهرَّب من ساعة ما حكيت لَك حكاية الجرَّار في أول يوم.
-مُش بتهرَّب ولا حاجة؛ كل الحكاية إن جَو الاستراحة مش جاي على هوايا.
-جوَّها مُش جاي على هواك؛ ولا كلامي اللي مُش على هواك؟
لمَّا لقيت الكلام رايح ناحية الجِدال؛ قُلت ما بدّهاش بقى، عشان كِدَه حطيت فرق السن اللي ما بينا على جَنب وقُلت:
-بصراحة يا بشمهندس؛ حكاية إن جرَّار حديد يحكي حكاية، أو ينقلها من مكان لمكان دي مش داخلة دماغي؛ اعذرني أنا من جيل وأنت من جيل، أكيد في فرق في التفكير، يعني أنت مثلًا ممكن تقتنع إن في عفاريت وأشباح بتظهر في الأماكن اللي بتحصل فيها حوادث، لكن أنا مُش هقتنع، حتى ولو ده كان بيحصل أيام زمان، لكن دلوقت الدنيا بقت عَمَار ومفيش مجال إن حاجة من دي تظهر، يعني صَعب إن الكلام ده يدخل دماغي، وبعدين لو شغلت تفكيري بحاجة زي دي مش هركّز في شغلي الأساسي وده هيأثر على مستقبلي.
كان بيبُص ناحيتي بطريقة غريبة، كلامي مكانش على مزاجه، والنظرة دي أنا عارفها، وشُفتها كتير في عيون ناس كبيرة في السن بتحاول تفرض آراءها وأفكارها على حد من الجيل الجديد، وتقريبًا كان مجهّز رد على كلامي وكأنه توقَّع اللي هقوله، لأنه قال لي:
-أنت مش بتؤمن بكلام ربنا؟
كنت فاهم سؤاله وبرغم كده استفزّني، عشان كده جاوبته:
-ونعم بالله، مؤمن بكلام ربنا طبعًا، وعارف إنك هتقول لي الجِن والعفاريت والشياطين مذكورين في القرآن، وإن إنكارهم كفر، وإننا لازم نؤمن بيهم وأنا فعلًا مؤمن بوجودهم، لكن مش مؤمن بإن حد يموت ويندفن وروحه تفضل موجودة في مكان الحادثة اللي مات فيها، وإنها تكلِّم حد وتتعرَّض له، كل ده ما اتذكرش في القرآن عشان أؤمن بيه، دي ثقافة اكتسبناها من أفلام ومسلسلات وحواديت قديمة بتتقال من قرون مش أكتر.
من بعد الحوار ده؛ والتعامل بيني وبين المهندس نبيل مبقاش أحسن حاجة، كلامنا بقى مقتصر على الشغل وبس، حتى صباح الخير كنا بنقولها لبعض من باب الروتين مش أكتر، لكن جيت على نفسي وقُلت أصبر؛ كلها شوية وقت وهيطلع معاش، وبرضه مش ناسي إنّي اتعلّمت منه حاجات كتير، مكنتش هعرفها بنفسي غير بعد سنين طويلة، يعني في الأول والآخر هو له فضل عليا ومقدرش أنكر حاجة زي دي.
الأيام فاتت بسرعة، لحد ما المهندس نبيل طلع معاش، واتعمل له حفلة على الضيَّق في الورشة، من بعدها وبقيت مسؤول لوحدي عن صيانة جرَّارات الهينشيل، بعد ما بقيت حافظها زي اسمي، صاحبتها زي ما المهندس نبيل الله يمسّيه بالخير طلب منّي، لكن صاحبتها بطريقة تانية، الصحوبية اللي بينا كانت صحوبية شُغل، بعيدًا عن الخرافات والأساطير اللي كنت بسمعها.
الأيام فاتت بهدوء من بعد ما بقيت لوحدي في الشغل، يوم ورا التاني وجرَّار ورا جرَّار، لحد ما في ليلة انطلب منّي أسهر عشان أشيِّك على جرَّار المفروض هيرجع الخدمة.. في الليلة دي كان معايا فنّي اسمه ربيع، الوقت اتأخر وكنا لسَّه مخلَّصناش، بس لقيته بيقول لي إنه رايح الحمّام وراجع.. كمّلت شغلي لحد ما يرجع، وبعد شوية سمعت خطوات بتقرَّب، ساعتها ندهت وقُلت له:
-ربيع، معلش تعالى عاوزك في حاجة.
انتظرت شوية لكنه مجاش، ناديت عليه تاني بصوت أعلى؛ قُلت جايز مسمعنيش، برغم إني كُنت سامع الخطوات قرّيبة منّي، بصيت ورايا وملقتوش، والغريبة إن صوت الخطوات كان لسَّه مستمر، كان في حد بيتحرَّك حواليا ومُش قادر أشوفه، معرفش إيه اللي فكّرني وقتها بحكايات المهندس نبيل، خصوصًا إني شُفت ربيع جاي من ناحية الحمامات، يعني الخطوات اللي سمعتها مكانتش خطواته!
لمَّا ربيع قرَّب منّي سألته:
-أنت جيت ومشيت تاني؟
نظرته كانت بتقول إنه مستغرب سؤالي، لكنه جاوبني:
-من ساعة ما سيبتك يا بشمهندس ولسه راجع قدامك، بس بتسأل ليه؟
-لأ أبدًا مفيش.
في الوقت ده؛ الورشة مكانش فيها حد غيرنا، يعني فكرة إن حد كان فايت من جنبي دي مش واردة خالص، وطبعًا مقدرتش أحكي له عن اللي سمعته ليقول إني بهلوس أو حاجة، بَس أنا متأكد إني سمعت صوت الخطوات، ومكنتش عارف أصدَّق وداني اللي سمعت، ولا أصدَّق عيني اللي بصَّت ومشافتش حد ماشي!
كمِّلت شغلي لحد ما الوقت اتأخَّر زيادة عن اللزوم، وده اللي خلاني قُلت لربيع:
-بقول لَك إيه، ما كفاية كده أنا معدتش قادر أركّز، وبُكرة الجمعة راحة، نكمّل الكام حاجة اللي فاضلين يوم السبت، وكده كده الجرَّار قدامه لنُص الأسبوع على ما يرجع الخدمة.
ساعتها ساب اللي في إيده وقال لي:
-اللي تشوفه يا بشمهندس، فعلًا الوقت اتأخر جدًا.
أخدنا بعضنا ومشينا، ولما وصلت البيت أخدت دُش عشان أغسل رحة الزيوت والشحم اللي لازقة في جسمي، وبعدها اترميت على السرير زي القتيل، غمضت عيني وكنت سامع صوت الخطوات في وداني، لدرجة حسيت إني نايم في الورشة مش في سريري، لكن مع الوقت رُحت في النوم، ولقيت نفسي صاحي بدري على غير عادتي يوم الأجازة، حتى أمي استغربتني، بس لما قُمت مكانش عندي رغبة في النوم من تاني.. فطرت مع أمي، ولقيت نفسي بفتكر اسم البلد اللي المهندس نبيل قال عنها في حكايته الأخيرة مع الجرَّار، معرفش إيه اللي خلَّاها تيجي في بالي، ولقيت نفسي بفكّر في فكرة مجنونة، وهو إني آخد بعضي وأروح البلد دي!
بلَّغت أمي إني خارج وهتأخر شوية، وأخدت بعضي وركبت مواصلة لحد هناك، ولما وصلت سألت عن محطة السكة الحديد، وصلت عندها وبدأت أتمشّى جنب البيوت اللي عند شريط القَطر، أصل المهندس نبيل قال إن العيّل اللي مات من البيوت دي، فضلت ألِف في المنطقة لحد ما شُفت ست كبيرة؛ كانت قاعدة على ناصية وبتشوي ذُرة، قُلت أروح أشتري منها، وبالمرة أدردش معاها وفي السكة أسألها إن كانت الحكاية دي حصلت ولا لأ، وفعلًا؛ اشتريت منها كوزين ذُرة وقعدت آكلهم جنبها، وبدأت أتكلم معاها عن السكة الحديد، والكلام جاب بعضه لحد ما هي بنفسها قالت عن العيِّل اللي القطر داسُه وهو عنده 12 سنة تقريبًا، بسبب إنه أخد حباية من الهباب اللي أبوه بيبلعه، دي حتى كمان شاورت على بيتهم؛ اللي كان مقفول وواضح إن مفيهوش حد، وطبعًا السبب كنت عارفه من بدري، زي ما المهندس نبيل قال لي إن أبوه اتحبس بسبب التعاطي، وأمه انفصلت عنه، دي حتى الست قالت إنها قالت الحكاية دي لواحد من سنين طويلة، كان غريب عن المنطقة وجاي يسأل عنها بالتحديد، وكان قاعد في نفس مكاني، ولمّا وصفته عرفت إنه المهندس نبيل!
حاسبتها ومشيت وأنا بقول لنفسي: كل حاجة طلعت بجد، الجرَّار حكى الحكاية والمهندس نبيل راح البلد اللي حصلت فيها، وأنا بنفسي رُحت واتأكدت منها!
رجعت البيت وأنا دماغي عاملة زي البركان اللي هيثور، قضيت اليوم وأنا ساكت مبنطقش، وتاني يوم في الورشة كنت حاسس إني في عالم تاني، لحد ما اليوم انتهى واضطريت أسهر أنا وربيع نكمّل شُغل عشان نلحق نخلص.. مكانش في الورشة حد غيرنا، وبعد شوية لقيت ربيع بيبلّغني إنه رايح الحمام، ومفيش دقايق وسمعت الخطوات ورايا من تاني، بَس المرَّة دي لما بصّيت لقيته المهندس نبيل، استغربت إيه اللي جابه في وقت زي ده ودخل ازاي، ولقيتني بقول باستغراب:
-مهندس نبيل؟ إيه اللي جابك في وقت زي ده؟ ودخلت إزاي وبوابة الورشة مقفولة!
بَص لي وهو بيبتسم وبعدها قال:
-أنت نسيت إني قضيت عمري هنا والناس كلها حبايبي، وفرد الأمن على البوابة حبيبي، وبعدين الورشة وحشتني قُلت آجي أطُل عليها وعلى الجرَّارات.
-عمومًا الورشة نوَّرت، بَس لو كنت جيت بدري عن كده كنت سلِّمت على الناس.
-ملحوقة؛ الزيارة هتتكرر كتير.
كان بيكلمني وعينه على الجرَّار، وساعتها قال لي:
-يااه؛ الجرَّار ده يا ما عملت له صيانة، حتى فاكر رقمه، "ونطق الرقم اللي مكتوب عليه"، دَه له معايا حكايات ياما، حتى أهم حكاية في حياتي كانت معاه.
كنت لسه هسأله إيه هي أهم حكاية في حياته، لكن سمعت صوت ربيع من ورايا بيسألني:
-بتكلّم مين يا بشمهندس وائل؟
بصيت ناحيته وأنا مستغرب سؤاله، وبعدها شاورت ناحية المهندس نبيل، لكن لقيت إيدي تِقلت ولساني اتكلبش في بوقّي، لأن المهندس نبيل مكانش موجود، كنت بشاور في مكان فاضي، ساعتها لساني اتلجلج وأنا بقول له:
-المهندس نبيل؛ كان هنا دلوقت!
بَص لي وهو مستغرب وقال:
-مهندس نبيل مين بس يا بشمهندس، دَه خرج معاش وكل سنة وأنت طيّب، استعيذ بالله وخلينا نركّز في شغلنا، الوقت متأخر ومتنساش إننا لوحدنا في الورشة.
معرفش ليه كنت شامم في كلامه ريحة خوف، زي ما يكون بيلمَّح لحاجة ومش عاوز يقولها بصراحة، عشان كده حطيت لساني في بوقّي وفضلت ساكت، لحد ما خلصنا شغلنا وخرجنا، وعلى البوابة؛ وقفت أتكلم مع فرد الأمن، وكنت بعمل الحكاية دي لأول مرة، بَس كنت عاوز أتأكد من حاجة في دماغي، ساعتها هزَّرت معاه وقُلت له:
-أوعى يكون حد دخل الورشة وأنت نايم ومش دريان.
في اللحظة دي رد عليا فرد الأمن وقال:
-عيب عليك يا هندسة، مفيش نملة دخلت من وقت ما البوابة اتقفلت!
ردُّه كان واضح، مفيش حد دخل الورشة، ولو كان المهندس نبيل دخل كان جاب سيرته، وكان ربيع شافه وهو بيكلمني!
مكنتش فاهم إيه اللي بيحصل معايا بالظبط، ليه شُفت المهندس نبيل قدامي واختفى؟ ولا هو المكان مسكون بجد والحاجات دي حقيقة؛ واللي ساكنين فيه بيشتغلوني!
دماغي فضلت تودّي وتجيب لحد تاني يوم، كُنت شغال في نفس الجرَّار وتقريبًا كل حاجة فيه كانت خلصت، لحد ما جه وقت البريك، سيبت اللي في إيدي عشان أروح الاستراحة، وقبل ما ألتفت سمعت صوت المهندس نبيل من ورايا بيقول:
-الله ينوَّر يا بشمهندس، تعليمي جاب نتيجة أهو.
جسمي ارتعش لما سمعت صوته، ولما بصيت ورايا حسيت بذهول، اللي شُفته مكانش المهندس نبيل، دَه كان شخص تاني أول مرةأشوفه، وده اللي خلاني أسأله:
-مين حضرتك؟
خبط كف على كف وهو بيضحك وقال:
-مين حضرتي؟ أنا اللي علِّمتك صيانة الهينشيل، عشان خرجت معاش هتنساني ولا إيه، أنا المهندس نبيل يا وائل.
الدنيا لفَّت بيا، اللي كان بيكلمني شخص بشوفه لأول مرة، واللي زوّد الدهشة اللي أنا فيها، إني لقيت الناس بدأت تتجمّع وتسلّم عليه وبتقول له: منوّر يا بشمهندس نبيل؛ لَك وحشة والله!
بعد ما اللمة انتهت واللي بيقولوا إنه المهندس نبيل مشي من الورشة، لقيت ربيع قرَّب مني وهو بيقول:
-بقى كده يا بشمهندس؛ تقابل الراجل اللي علّمك بالطريقة دي؟
مكنتش فاهم حاجة، عشان كده قُلت له:
-مُش دَه المهندس نبيل يا ربيع.
قُلت كلامي وبدأت أوصف في شكل المهندس نبيل اللي أعرفه، كُنت كل ما أوصف أحِس إن عيون ربيع بتوسع والخوف باين فيهم، لحد ما لقيته بيحُط إيده قدام وشّي عشان أبطّل كلام وقال:
-متكمّلش يا بشمهندس، عشان كده كنت بقول لَك استعيذ بالله!
صوته كان مهزوز وهو بيطلب منّي أسكُت، وبعدها بدأ يكمّل كلامه...
-ناس هنا قالت إنهم بيشوفوه، وإنهم اتعاملوا معاه لفترة وبعدها اتفاجأوا إنهم بيتعاملوا مع شخص تاني، زي ما حصل معاك كده بالظبط، بيحكي عن الجرَّارات والحكايات اللي كانت شيلاها، وروحه ساكنة في المكان هنا، لكن مبيصدَّقش الحكاية دي غير اللي بتحصل معاه، زي ما أنا مصدَّقها لأنها حصلت معايا من كام سنة.
كنت عارف كل اللي بيقوله، بس اللي مكنتش فاهمه هو يُقصد مين بكلامه، عشان كده قُلت له:
-تقصد المهندس نبيل؟
ساعتها بَص لي وبلع ريقه وقال:
-المهندس نبيل اللي كلنا نعرفه كان قدامك من شوية ومشي، اللي أقصده هو المهندس حلمي، اللي أنت كنت بتشوف مهندس نبيل في هيئته، واللي أكيد حكى لَك عن حاجات المهندس نبيل نفسه ميعرفش عنها حاجة، أصله كان مهووس بحكايات العفاريت والأشباح، ودايمًا يحكي عن الحوادث اللي بتحصل على شريط السكة الحديد، لحد ما حياته انتهت تَحت جرَّار هينشيل كان بيتصلَّح في الورشة، كان نايم تحت منَّه بيربُط خراطيم الزيت، والأمان بتاع الجرَّار فَك من نفسه، وساعتها اتحرَّك وداس عليه، ومن وقت الحادثة دي وروحه موجودة وبتظهر من وقت للتاني، وميعرفهاش غير الناس القديمة اللي زي حالاتي، لأنها حصلت من سنين طويلة، ومحدش بقى يتكلم فيها عشان يتجنّب المشاكل.
مكنتش مستوعب اللي بسمعه، بس لقيت ربيع بيطلب منّي عشرين جنيه، ولما سألته عاوزها في إيه، قال لي إني هعرف بعدين، وبعدها عرفت إنه حطها في جيب الساعي وطلب منه يجيب ملف المهندس حلمي لما مكتب شؤون الموظفين يكون فاضي، وبالفعل، بعد شوية ربيع جاب ملف قديم وطلب منّي أبُص فيه؛ عشان الساعي يرجّعه مكانه قبل ما حد ياخد باله.. كنت مذهول وأنا بقرأ أول صفحة، واللي كان فيها صورة قديمة للمهندس حلمي، اللي كُنت فاكر إنه المهندس نبيل، والذهول الأكبر، هو إن آخر ورقة كانت تقرير عن الحادثة، وكان فيها رقم الجرَّار اللي مات تحت عجلاته، وللأسف؛ كان نفس رقم الجرَّار اللي بعمل له صيانة، واللي روحه ظهرت لي بشكل صريح وأنا بشتغل فيه؛ وده خلاني فهمت كلامه؛ لما قال إن الجرَّار ده اللي حصل معاه أهم حكاية في حياته؛ لأنه الجرَّار اللي اتسبب في موته!
قفلت الملف وناولته لربيع عشان يرجع مكانه، ومعاها قفلت حكاية المهندس حلمي؛ زي ما ربيع طلب منّي، عشان أركّز في شُغلي وأحافظ على أكل عيشي ومستقبلي.. والأيام مشيت، بس بعد ما قناعتي اتغيَّرت تمامًا، وفهمت إن زي ما روح المهندس حلمي قالت لي: إن الجرَّار بيشيل معاه الحكايات في الطريق، أو روح الشخص اللي مات تحته بتستغله عشان تحكي حكايتها، وفهمت إن زي ما في جِن وعفاريت وشياطين، فهمت برضه إن في أرواح بتفضل ساكنة في المكان اللي دمها بيسيل فيه، ومش بيصدّق حاجة زي دي غير اللي بيجرَّبها بنفسه، وهو دَه اللي حصل معايا، ولسَّه بيحصل، لأني اتعوِّدت أشوف المهندس حلمي؛ كل ما نفس الجرَّار ييجي عندي الورشة عشان يتعمل له صيانة!
تمت...