ضجيج الحياة متواري خلف تلك الاحجية، الصمت يداعب أمواج البحور والأنهار، لكن تلك الكلمات تعلن العصيان، كلمات تختفي وتبهت في سجلات الوطن، دموع وبكاء متدثر بعيون البراءة.
_"أبي".
تنطقها الصغيرة وهي تنظر بالسقف لتذهب بعدها في دوامة النوم: "لمَ ذهبت وتركتني وحيدة أعاني".
ليرد عليها الصمت وهو يراها تخرج من عتبة البيت بزيها المدرسي: "لا تقلقِ صديقتي فأنتِ تعاني مثله، طُعن أباها الذي دفن بدمائه، وهي تبكي الزمن الذي جرح لقبه المحبب".
تظل تستمع لكلمات من يلقاها يحاول أن يواسيها بكلمات تكاد تخرج واهية أو تحمل مرارة الألم:
_ "طفلتي لا تخافي الوطن يزهر بدموعك التي تذرفينها بصمت ".
ينطقون الأحاديث وكلمات التآزر وهم لا يعلمون ماهيتها، ولم تختلف تلك الأحاديث في جلسة تجمع أبناء الموتى ويدافعون بهم لتقبل فقدان أباءهم، فكانت مديرة جلسة السادس عشر من أبريل لعام ألف تسعمائة ستة وسبعون تختلف بحديثها:
_(ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً) نعم أطفالي الأحباء هي تلك الآية أعلنت لكم عظمة أباءكم، إنهم معكم في رباط مقدس ليوم الدين، فأرفعوا رؤوسكم بالعنان فأنتم أبناء الشهيد، حمل السلاح فداء الحرية والوطن والعرض فأعراضكم ليست مستباحة.
الساعة العاشرة صباحاً
الثاني والعشرون من أبريل.
الهواء يحمل معه زوابع الحر الناتجة من أجواء الخريف الذي يحمل بوادر الشتاء القادم، فأختلط العرق من الحرارة بجبين الشاب الخمري اللون ذا الملامح العربية الحادة وهو يقف أمام محل العم بهاء يمد له بورقة طلبات الشراء من (شاي وجبن وكيس مغلف بداخله الخبز) بينما تستمع من راديو يقبع بزاوية المحل أغنية لسيدة الغناء تبث من إذاعة الشرق الأوسط، يعلو مع المقطع الثاني صوت بهاء العجوز الذي يكاد يستند على جسده إثر الزمن، بمقولة: قول يا زمان…..
يبتسم الواقف أمامه ابتسامة باهتة على طبيعة الرجل المرحة وهو يسأل: كم الحساب يا عم بهاء؟
خرج من المحل يسير بالشارع القديم الذي يناقض وسامته لكن يناسب لمعة الانكسار بعينه البنية التي تناقض سواد شعره، يستمع لأصوات الأطفال يركضون ويمرحون، صوت سيارات المارة في منتصف الشارع يصدر ضجيجه، لكن يلفت انتباهه صوت المعدن الصادر من اهتزاز سلسلة معدنية، خطوة ثم ثلاث فيلمح مصدر الصوت، شاب مراهق أشعث الشعر مكبل القدم بسلسلة المعدن بداخل البيت، يتحرك لم يكد يعرف بوجوده لولا أن الباب مفتوح بسبب حرارة النهار المشوب من تلك الرياح الموسمية التي تزيد نسبة الرطوبة، اختنقت انفاسه وهو يزدري ريقه فتظهر النقاط الغاضبة الحمراء ببياض عينه، تذكر لمحة عن سرير أبيض ومراهق مكبل به من اليدين والقدمين وتعلو صرخته: اتركوني، فكوا تلك القيود…إنها تؤلمني!
يبهت صوته بكل دقيقة على أثر إبره تم حقنها بذراعه: تؤلمني... تؤلمني.
لم تكن صرخته تعني الممرضين شيئًا إلا أنه يغوص في بحرٍ لجي من الظلام، يجعله يستقبله بسكينه لا يكاد يفقه فحواها، إلا أنه يعلم أن الأمر أشبه باللعبة التي أخبره بها والده سابقًا: "عندما يرهقك المرض، سيعطيك الطبيب دواء يسحبك للحلم".
ظل سنوات عدة يعرف كيف يكون عالم الحلم وهو يجتذبه بشراهة، لكن لم يعلم والده ما هو العالم الذي كان يجتذبه بقسوة أفلتت منه الإرادة لمواجهته.
أعاد النظر للسلسلة المعدنية يحاول أن يعرف هل هي حقيقية أم هي الضمير يعذبه، جعله يتيقن النتيجة نطق حارس العقار بملامح جامدة: هل تريد شراءه؟
نظر إلى الحارس وهي يحمل علامات استفهام بعقله لينطق بضعف: اشتري ماذا؟!
نظر الحارس إلى البيت خلفه وهو يعيد النظر له: البيت.... أنه مهجور منذ عشر سنوات.... غادر أصحابه للخارج ووكلوا الأستاذ فريد المحامي ببيعه.
استنفذ الصبر منه وهو يبتعد بعد أن عرف الواقع ليتمتم مبتعدًا: لا... لست بحاجة له.
انطلق يجذب قدميه بجزع فها قد عاد الخوف يطارده ولا يعلم ماذا يفعل، يأكل درجات سلم البيت بسرعته التي تفر منها الريح هربًا، يطرق باب شقته بجزع أحسته شقيقته الصغرى من ملامحه التي خبت باصفرارها، وضع المشتريات على مائدة الطعام وهو يتجه لغرفته متجاوزًا ذات الشعر الكستنائي بفضولها.
لم تتقبل الفتاة هربه فانطلقت خلفه وهي مصرة على معرفة ما أصابه فهي ليست بحاجة ان يعود شقيقها مبتعدًا من جديد ويتم إدخاله المشفى وهم الذين فقدوا أباهم بمحاولة اغتياله لوقوفه بوجه رجلٌ ظالم استحل الغدر شعارًا، فصنفوه شهيدًا برتبة نجوم ترتكز على زيه العسكري.
فتحت الباب لتجده يقف أمام النافذة بتوتر، يحدق بنقطة ما بالحي، لتهمس خائفة أن تكسر عزلته:
ماذا حدث يا أخي؟
التفت لها بضياع رغم سنواته العشرون يرد بهمس لا يسمعه سواها: عادوا مجددًا...
اقترب منها وجلس على الفراش وهو يكمل بجزع: عادوا ليأخذوني.
جلست بجواره كما لو أنها الأكبر سنًا وليست تصغره بتسع سنوات، تربت على كتفه تنطق بتوتر لتزيح قلقه: من عاد!
رفع يده يشير بسبابته للخارج: هناك... مربوطًا بالسلسلة المعدنية!
وقفت بجوار النافذة وهي تنظر باتجاه ما يشير لتلمح بيتًا طغى عليه الزمن بتشققاته رغم بنائه الذي يعود لحقبة أثرية غنية بتفاصيلها الهندسية، لتعلم ماذا يحدث لتخفت بشكوكها: هل سألت الحارس؟!
أومأ برأسه وهو ينطق بجزع: نعم.... البيت مهجور منذ عشر سنوات.
نطقت ما جادت به قريحتها من ثرثرة الجيران بجلسات السمر لتصل لهم وهم يلعبون بالشارع: يقولون قتل به فتاة، وأخرون يقولون أنه قتل الجميع وجن!
نفي برأسه وهي يفيد القول لها بخوف من أن يسمعونه ويعود المشفى مريضًا: بل كان مريضًا وقاموا بربطه بالسلسلة حتي لا يهرب.
_ هل عرفت اسمه؟
_ لا... لكنه خائف منهم.
_ فلنزره حين يهدأ الطريق، حتى لا تظل هكذا.
نظر لها وهو مشتت، فهل هي تعرف شيئًا عنه: أنا لست مجنونًا.
ابتسمت وهي تقترب منه وتجلس بجواره: أعلم أنك لست مريض... أنت شخص مُنح هبة لا يستطيع الأخرون فهمها.
حل الليل يحمل السكون طواعية، تسلل الشقيقان ليقتربا من المنزل يحاولان الهرب من تحت أعين الحارس الساهرة، تسلقوا السور بخفة، أضاء الشاب مصباح اليد متجهين لداخل المنزل، أوقفهم أنين من غرفة احتلت الجانب البعيد اقتربا منها لمح الشاب الفتى نفسه مقيدًا بركنٍ بعيد.
تحدث بتوتر يحاول إنجاز مهمته ليهرب بعيدًا، لم يكد ينطق إلا وجد لسان شقيقته ينطلق بكلمات جعلته مصدومًا: مرحبا.. أنا داليا وهذا شقيقي راغب، ما اسمك؟
نظر لها وهو يتمتم بتوجس: هل ترينه؟!
ابتسمت له وهي تنظر للفتى مجددًا: فقط حين تكون بجواري أراهم مثلك.
_ "حين أكون بجوارك"، كيف؟
_ لا استطيع التعامل معهم ولا أرى احدٌ منهم إلا أن يكون بجواري شخصٌ ذو هبة.
أعاد النظر للفتى المراهق وهو يتساءل: من أنت؟
_ أنا الماضي الذي مات ولم يعرفه انسان، أنا الضمير حين يصرخ لينهي المأساة... أنا الحاضر الذي سيظل يطاردهم لأخر الزمان.
نظر لهم بعنف: أعلنوا للعالم انه كان وقت صحوة الضمير النائم ليدفعوا ثمن كل ما فسد منهم.