على مقعدي المفضل بيدي هاتفي الحديث، يمكنني التحكم بالإضاءة كيفما شئت سواء اردتها خافتة أو قوية، مخيلتي تعج بصور الأطفال، التلفاز ينقل بكل وضوح القصف المتواصل على غزة، كل دقيقة تمر تزداد أعداد الشهداء، جُل الشهداء من الأطفال والنساء والشيوخ، أكتب عن فلسطين عن غزة عن دماء بريئة أُريقت دون ذنب أو جناية، صور الهدم والأشلاء لا تفارق مُخيلتي، أطفال تبكي وتئن وترتعش مسكونة بالرعب والفزع، رجل يحمل أشلاء أطفاله داخل أكياس بلاستيكية، غابت رائحة الخبز لتحل محلها رائحة الدماء.
هنا لم أتمالك نفسي، أخذت أردد كأي عربي من المحيط إلى الخليج، بالروح بالدم نفديك يا أقصى، أرواحنا فداء للقدس ولك الله يا غزة، تناولت بعض الرشفات من كوب الشاي، عدت مرة أخرى لأكتب ولكن هذه المرة لأندد وأشجب وأستنكر فالوقود على وشك النفاد لا مياه لا كهرباء، المشافي على وشك الخروج من الخدمة أو خرجت بالفعل، لا مأوى للنساء أو الأطفال، نزوح يليه نزوح، مخطط التهجير يجري على قدم وساق، خطة السفاح والمجنون أصبحت أمر واقع لا صوت يعلو فوق صوت التهجير، لا يوجد شبر واحد على أرض غزة يمكن أن يكون أمنًا فالموت يطارد الجميع، يحتضن الجميع، المصاب والمسعف والطبيب كلهم مشاريع شهداء تمشي على الأرض، لذلك وجب علي أن أشجب وأندد وأستنكر بأقسى وأشد عبارات الإستنكار والإستهجان، وها أنا قد فعلت كل هذا قبل وبعد الأكل قبل وبعد النوم أثناء مشاهدة الأخبار وبين شوطي المباريات، وبعد إيصال أطفالي إلى مدارسهم، أصبح هذا روتينًا يوميًا أفعله ليرتاح ضميري ويغط في نوم عميق.
عندما أفعل كل هذا لا أدري لمَ يعتريني وقتها شعور غريب أنني عربي تأصلت داخله جينات العروبة، نعم أنا عربي بامتياز مثلي مثل كل عربي من المحيط إلى الخليج إلا من رحم ربي، نعم للأسف أصبحنا كعرب وكأننا روبوتات تمت برمجتها وتهيئتها فقط لتهتف وتندد وتشجب وتستنكر، نفعل كل هذا وكأنها مسكنات لترتاح ضمائرنا من ثم يعود كل منا لحياته.
اللهم قد بلغ عجزنا مداه وانقطعت بنا وبهم كل الأسباب فلا ناصر أو معين من أهل الأرض وقلوبنا توجهت نحو السماء، اللهم إنا نستودعك غزة بكل ما فيها ومن فيها.
لك الله يا فلسطين ومعذرة إن كان يجوز لنا الإعتذار يا غزة.