كنت مازلت في الثانوي حين بدأت ماما تسمح لي بالتسوق وحدي، كنت قبلها وانا طفلة اذهب معها او مع (لولا) ابنة عمة والدتي والتي اعتبرها بمقام اختي الكبيرة او خالتي الصغيرة، والتي لا تأمن ماما لغيرها أن تخرج بتلك الصغيرة السارحة في ملكوت الله،
فتسمح لي بالذهاب معها وتوصيها ألا تفلت يدي لأني طول الوقت(سرحانة) ولا انتبه لصوت (كلاكس) السيارات.
كنا نذهب للتسوق في مول رمسيس هيلتون او الزمالك، حيث بوتيك مارجريت بشارع متفرع من شارع ٢٦ يوليو ونكمل جولتنا في شارع مظهر وغيره من الشوارع التي كانت تعتبر حكرا لسكان الزمالك وبنات الجامعة من ساكنات وسط البلد والمهندسين والدقي والعجوزة وشبرا.
كنا نسكن حي شبرا بمنطقة اغاخان على كورنيش النيل لمن لا يعرفها اما جدتي فكان بيتها في روض الفرج بالقرب من القسم وكنيسة العدرا في شارع مسرة❤
، لذا كانت الزمالك ووسط البلد ورمسيس هيلتون هم الأقرب لبيتنا
وحين وصلت للثانوي، بدأت ماما توافق على خروجي مع صديقتي فيروز او فدوى فقط لأنهما من البنات الواعية ومن أسر محترمة .
كان بوتيك مارجريت هو الوصف الحقيقي لكلمة hidden gems
تدخل شارع ٢٦ يوليو ثم تتجه لشارع على جهة اليمين ، شارع قصير لطيف هادىء غير ملحوظ، مليء بالأشجار يتفرع في نهايته القريبة لشارعين ،
في هذا الشارع وعلى اليمين بوتيك مارجريت ، الاجنبية العاشقة لمصر والتي تسكن بنفس الشارع، خمنت انها فرنسية ومع توطد علاقتي عرفت ان لها أصولا نمساوية وصرنا من وقت لآخر نتبادل الحديث بالألمانية.
مارجريت، سيدة لطيفة شقراء، ذات شعر فضي قصير وملامح حادة وعيون زرقاء ضيقة شديدة الذكاء،
قليلة الكلام ذات نظرة فاحصة وجمل حاسمة.
عرفتني مع الوقت وصارت تتركني اتفحص الملابس براحتي واقيسها وفي النهاية وحين تشعر بحيرتي تشير لي إلى قطعة بعينها وتقول جملتها المميزة ( انتا تاخد ده عشان انتا صغير وسيمباتيش)
ظلت علاقتي بمارجريت تتوطد، وأصبحت تحب الحديث معي وتضحك كثيرا على ملاحظاتي،
حتى اخترت ذات مرة جيب سوداء من قماش(الشاش المستورد) كانت الجيب مختبئة حرفيا على ستاند مخصص للبنطلونات وهو ما استغربته اذ ان مارجريت تهتم جدا بتنسيق بضاعتها المستوردة،
لكني استخرجتها بهدوء ونظرت لها بحب واستغراب،، وضعتها على صدري لارى انطباع اللون علي أمام المرآة وسرحت، فقالت لي ساعتها، لك ذوق عال جدا، لم يفهم احد سر هذه الجيب وأناقتها الا انت وفتاة أخرى تسكن بجوار البوتيك،،
هذه( الجيب) لم اشتر منها سوى قطعتين لأنني لم أحب أن يرتديها الا من يقدر ذوقها،..
وبالفعل اشتريتها،
قالت مارجريت لي يومها،( انتا تصدق لو قلت لك اني نقلت لنفسي اكيد انك واخد من البنتين(واحد من البنتين) دول؟
اصدقك مارجو، اصدقك فانت لا تكذبين.
ابتسمت مارجريت ثم استدارت وعادت لمكتبها الصغير المنزوي في كورنر ضيق وفوقه شباك يطل على الشارع الجميل، ظلت ترقبني من تحت نظارتها التي تسندها على (ارنبة) أنفها الدقيق وانا اقف امام المرأة بعد ان ارتديت الجيب غير مصدقة لجمالها وذوقها.
كنت أرتدي فوقها بلوزة بلا اكمام لونها كشمير فاتح يميل الروز كانت جدتي تسمي هذه الدرجة (بوا دو روز) وهي اختصار (poissieure de rose)
اي تراب الورد.
اشتريت الجيب ومشيت ادندن اغنية الشوارع حواديت لصلاح.جاهين(الشارع ده شفتك انت ملشية فيه لابسة جيب وبلوزة وردي وعاملة ديل حصان وجيه)
وأصبحت بالفعل ارتدي هذا الطقم وارفع شعري ذيل حصان!
كان هذا الطقم كفيل بأن أتوقف في كل مكان لتسالني البنات عليه وعيونهن ممتلئة بالاعجاب او الحسد، فاجيب ببساطة من عند مارجريت واتبرع بذكر العنوان، وهو ما كان غريبا على البنات إذ يخفيه اي مكان يجدن فيه ملابس شيك عن باقي البنات وبعدين انهزمستورد او انها نسيت من اين اشترته
الغريب أنني في كل مرة اذهب لمارجريت احاول كعادتي انتقاء ابسط قطعة ورغم أن مجموعتها كانت كلها رائعة ومميزة الا أنني كنت في كل مرة اتعمد ان اختار الأبسط فاكتشف انها القطعة الأغلى،
و..دخلت كلية الألسن لتتحول حياتي مرة أخرى ناحية مصر الجديدة وضواحيها التي تسكن فيها معظم صديقاتي، وهكذا انتقلت وجهة تسوقي لمصر الجديدة، بطرس غالي، الكوربة، إسماعيل رمزي والحجاز، ونادي الشمس، لكن شيئا ما بقلبي صار يناديني للزمالك ووسط البلد من وقت لآخر.
، لذا عندما تمت خطبتي في عامي الجامعي الرابع نزلت مع نشوة صديقتي لاختيار فستان وجزمة من الزمالك، وأذكر اننا دفعنا مبلغا لا يصدق ساعتها ثمنا أكرمكم الله (باردون) يعني لجزمة !
ثم تزوجت وانتقلت لمدينة نصر التي لا أحبها وان كنت اعتدت عليها ككل ما نعتاده مرغمين.
بعد اعوام، واعوام مررت من امام مارجريت، لأجد البوتيك مغلق، اتقبض قلبي، وخفت خفت حتى ان اسال البواب عن سبب إغلاق البوتيك،
يومها شعرت أن حدثا ما كبيرا سيهز حياتي، وان صفحة تنغلق واخرى سوف افتحها، صارت لدي قناعة كبيرة بأن الله سبحانه وتعالى يرسل لي إشارات خفية يعدني بها لاستقبال حدث ما يغير دفة حياتي، وكانت مارجريت اول اشارة التقطها من الله سبحانه، وفي كل مرة استشف الإشارة أتذكر مارجريت وأدعو لها بالرحمة.