لم تنس زميلة الدراسة التي كانت تتشارك معها نفس الاسم ودائما تتجاوران في لجان الاختبارات.
لم يشغلها تفوق زميلتها في النشاط الفني و اتقانها لآلة الأوكورديون الصعبة. فقد كانت هي الأخرى من البارزات في النشاط الفني والرياضي لما تملكه من حنجرة ذهبية وجسم رياضي مرن رشيق جعل منها بطلة المدارس في رياضة الجمباز لإتقانها مهارات اللعبة بنفس درجة اتقان أداء الأغاني الفلكلورية القديمة.
إلا أن هناك ما تفوقت فيه منافستها عليها رغم انهما لم يتنافسا يوما وكانتا محبتين لبعضهما لكن المحيطين هم من كانوا دائمي المقارنة حتى اوجدوا تنافسا بين الاثنتين لكنه رغم ذلك لم يَعدُ أن يكون تنافسا شريفا.
فلم تملك أن تباريها في كونها من عائلة ارستقراطية معروفة بالثراء في مدينتهم الساحلية الصغيرة. بينما هي تنحدر من أسرة ذات أصول عريقة رغم أنها متوسطة الحال. و لكن عوضا عن ذلك قد حباها الله جمالا يلفت الأنظار و عقلا راجحا كان محط انبهار الجميع.
لم تهتم يوما للفروقات المادية بينهما رغم الملابس الراقية بتوقيع أشهر المصممين والسائق المخصوص والسيارة الفارهة التي كانت تأتي بها زميلتها يوميا إلى المدرسة. فقد كان هذا آخر ما يشغل تفكيرها لا سيما أنها تمتلك ذوقا رفيعا و طموحا كبيرا و قناعة راسخة مما جعلها تبدو كفتاة ثرية أنيقة رغم بساطتها.
كان السوار الذهبي في معصم زميلتها بما يحمله به من دُمى صغيرة تتدلى من حلقاته المجدولة هو الامر الوحيد الذي كان يلفت نظرها دائما. كم كانت ترمقه بطرف عينها فيتعلق به قلبها عندما تسمع خشخشات اللعب وهي تهتز وتحتك ببعضها و بحلقات السوار فيصدر رنين اصطكاك المعدن بالمعدن صوتا يخفق له القلب وتتسارع نبضاته.
لم تكن تعلم ثمن هذا السوار وهي التي لا تملك إلا أقراطا صغيرة بحجم حبة الحمص لم تخلعها منذ أن ارتدتها وهي طفلة بعمر الأربع سنوات. أمرا ما دار بعقلها جعلها في إحدى المشاوير مع والدتها تدخل أحد محلات بيع الذهب لتسأل عن ثمن هذا السوار فقد لمحت شبيها له في إحدى الفترينات.
هالها الرقم الذي اخترق أذنيها وقد أوحى إليها ثمنه كم هو بعيد المنال. وعلى الرغم من ذلك خرجت وهي عازمة على شراء هذا السوار يوما ما ، لكن كيف؟ ومن أين لها شراؤه؟ و كيف تقتنيه؟ هذا ما قضت يوما بليلة تعد الخطة له. حسبت كل قرش يمكن أن يصل إلى يديها. هذا هو المصروف وهذه العيدية أما عيد الميلاد فلن يحضر أحد هدايا بعد اليوم لكن سآخذ ثمن الهدية لأكمل ثمن السوار حتى لو اضطررت لبيع أقراطي فأنا لا أهوى لبس الأقراط. كما سأنظم حبات اللؤلؤ الصغيرة وأصنع منها عقدا وأتمم لوحة الكانفاة وأعقد خيوط المكرمية وأبيع ما تصنعه يدي. حسبت و حسبت وجمعت و طرحت و تخلت عن الحلوى و الملابس الجديدة كل ذلك من أجل هذا السوار الذي ملك قلبها. لكن تفاجأت أن كل ما ستتحصل عليه لن يكفي و لو جزء ضئيل من الثمن و لن تتمكن من شرائه إلا بعد خمس سنوات على الأقل. لم تتساءل هل استطيع التخلي عن كل شيء من أجل حلمي. فقد كانت متخذة للقرار الصعب بكل قوة و عزيمة بل و أقسمت ألا تدخل الجامعة إلا وهذا السوار يزين يدها هو و الدمى المتراقصة على حلقاته الذهبية .
مرت أجمل سنوات عمرها وهي في رحلة تحقيق الحلم رغم الحرمان من بعض المتع في انتظار المتعة الأكبر. وذهبت لنفس المكان الذي رأت فيه السوار منذ سنوات. دخلت بكل ثقة هذه المرة. لكن أمران مهمان قد تغيرا وكادا يعصفان بالحلم. أولهما أن السوار لم يعد موجودا بالطبع فهذا أمر متوقع فقد مر وقت طويل، لكنه لم يثنها عن هدفها فقد قررت أن تقوم بتصميم سوارها الخاص باختيار كل جزء فيه على حدة و بعد اختيار سوارا رقيقا و دمى متميزة مرحة فاجأها أمر ثان. كان البائع يزن كل شيء اختارته ليسعره لكن السعر قد تغير وارتفع الثمن و تخطى كل مدخراتها فما كان منها إلا أن خلعت أقراطها وقدمتها إلى البائع. وبالفعل اكتمل ثمن السوار.
كانت تنتظر بفارغ الصبر أن ترتديه. ظنت أنها ستخرج وهو حول معصمها لكن البائع أخبرها أن هذا مستحيل فلابد أن يقوم بفك حلقات المعلقات الصغيرة ويقوم بلحامها مرة أخرى بعد إدخالها في حلقات السوار وهو الأمر الذي سيستغرق على الأقل يومين. خرجت مطأطأة الرأس فقد كانا أطول يومين في حياتها. كانا بطول كل السنوات الماضية ولكنهما رغم ذلك مرا بصعوبة. وأخيرا ارتدت السوار. كانت تنظر إليه بعينين دامعتين فتختفي الدمى و تظهر خلف حبات الدموع وسرعان ما تمسح دموعها فيشرق مرة أخرى نور السوار الذهبي وتلمع أشعة براقة من حركة الدمى.
رأت كل من مرت به في طريقها ينظر إليها و يغبطها على هذا السوار الغالي الأنيق أو هكذا خيل إليها. باتت ليلتها تختضنه داخل علبته الشفافة الطويلة وكلما تقلبت فتحت عينيها تملي نظرها بجماله وعندما تغمضهما يأتيها في الحلم يؤنس وحشتها حتى يأتي الصباح. كان فخرها أكبر من سعادتها فلم يكن الأمر سهلا، بل عانت وضحت من أجله بالكثير. فعلت ذلك عن طيب خاطر. رأت الأم سعادتها فسألتها ألهذه الدرجة؟ أجابت إجابة غير متوقعة، فقد كانت من العمق ما جعل لهذا السوار قيمة أعلى و أغلى بكثير من قيمته الكبيرة. قالت لأمها: هذا السوار سأهديه لابنتي عندما أتزوج و أرزق بطفلة و أعلمها كيف كانت عزيمة أمها. سأغرس فيها الإصرار على تحقيق الأحلام مهما كانت عظيمة. سأعلمها أن مع الإرادة لا شيء مستحيل. و سيكون هذا السوار الإرث الذي تتوارثه الأجيال.
أرادت أن تخلد تجربتها و ترسخ مبادئها في نفوس ذريتها التي لا تزال في علم الغيب.
لكن حدث ما لم يكن في الحسبان...