لطالما اعتدت بذل قصارى جهدي لكي أثير إعجابها علها تراني يوما ولكن لا لم تفعل ولن تفعل يوما! أعرف أن البعض يرى أن في التحدي وسيلة لدفع أطفالهم للنجاح ولكنها ليست طريقة ناجحة مع جميع الأطفال، لن أنكر لقد كانت أكثر من ناجحة معي، ولكنها في المقابل حطمتني تماما حتى بت كمرآة مكسورة كلما نظرت إليها لن تر سوى التشوهات.
منذ نعومة أظافري لم أنعم بحضن واحد منها وهو كل ما تمنيته يوما، لم أسمع منها كلمة طيبة ولا حتى كلمة تشجيع مهما تفوقت على أقراني، دائما كانت تطمع بالمزيد تضغطني أكثر ربما لمعرفتها أن بإمكاني الوصول، ولكنها بالحب كانت ستفعل ذلك بل وأفضل.
كل عام في يوم توزيع النتائج السنوية ذات المشهد يتكرر بلا أي تغيير؛ كانت أخواتي يعدن للبيت يتعثرن بأقدامهن والخوف يكاد يقتلهن من ردة فعلها، وكل عام كنت أشعر بذات الخوف، ليس لأنني ذات علامات متدنية بل لأنني أعرف أنها لا تقنع، وكل مرة مهما تدنت علاماتهن شجعتهن بكلماتها الحانية وهي تقول: لا تقلقن ستعوضنها في المرة القادمة، فترتخي أساريرهن وينصرفن للعبهن جذلات.. أما أنا فنصيبي كان التوبيخ دوما؛ لماذا حصلتِ على اثنان وتسعون وأنت بإمكانك الحصول على تسع وتسعون؟ فقط لو تتوقفين عن القراءة وتهتمين بدراستك أكثر! ماذا ينقصك لكي تحصلي المجموع المثالي؟ لو أنك تتركين القصص التي تغرقين بها وتنسين نفسك وتلتفتين لمذاكرتك لحصلتِ على مجموع أفضل......
أحاول الدفاع عن نفسي ولكنني لا أجد سوى الصمت لمواجهة غضبها وإلا قد ينالني ما هو أكثر من التوبيخ، كنت أخفض رأسي نحو الأرض متهدلة الكتفين والدموع تترقرق في عيني وقلبي يكاد ينفجر ألما، ألوذ إلى سريري دافنة رأسي في وسادتي باكية وبعد انتهاء نوبة أنهار عيني ألجأ إلى حضن كتبي التي تحتضنني بصفحاتها وتجعلني أهيم في عوالم أخرى يملأها الحب والحنان اللذان أتوق إليهما.
هن يلعبن طوال العام وضحكاتهن تملأ أركان البيت ويقضين أوقاتا سعيدة، وأنا أمضي عمري في الكتب حتى أنني بالكاد أذكر أي شيء عن طفولتي سوى الكتب ومع ذلك أنا من أوبخ!
ربما كانت ترى فيّ نفسها لذلك تكرهني؟ فالذكاء ورثته عنها وحب العلم رغم كثرة المغريات المحيطة بي أيضا، كانت تحاول جعلي أحقق حلما لطالما حلمت بتحقيقه ولكن الظروف منعتها.. والآن؛ عندما حققت حلمها بل وأكثر منه بات كل ما فعلته حطاما تذروه الرياح فلم يأت بأي ثمرة حب تغنيني عن سنيني العجاف التي قضيتها بلا حبها.
كبرت وليتني ما كبرت، بت أفعل كل شيء جاهدة لكي أرى ابتسامة على شفتيها أو نظرة فخر تعتلي وجهها بسبب نجاحي، وكل ما أراه هو تمننها علي بأنها من دفعني للنجاح رغم أنها لم تحاول ولا حتى لمرة واحدة أن تساعدني في حل مسألة ما.
في كثير من الأحيان كنت أختلس السمع عليها وهي تتحادث مع من يزرنها، تجلس مشدودة الظهر شامخة الرأس وتطريني بفخر وهي تذكر علاماتي العالية وإنجازاتي التي لا تتوقف، ليتها كانت تقول ذلك أمامي! لجعلني ذلك أطير فرحا.
الآن أصبحت في العقد الرابع من عمري الوحيدة التي تحمل شهادة جامعية من بين أخوتي، والوحيدة الموظفة في وظيفة محترمة وتفوقت في كل مجال دخلته، وما زلت حتى الآن أسعى لرؤية الفخر على وجهها وكل ما تفعله هو كسري أكثر، بنظراتها التي تقطر حقدا وكلماتها المؤلمة التي تطعنني بحروفها المسننة فتدمي قلبي وروحي وتحيلني حطاما كلما حاولت النهوض.
في كثير من الأحيان تكاد عيناي تخرجان من محجريهما تعجبا عندما أسمعها وهي تلقي نصائحها للأمهات بكيفية تعاملهن مع أبنائهن لتربية جيل واعد، وهي تخبرهن عن أهمية الاستماع لهم وضمهم وعدم ضربهم وتوبيخهم والصراخ عليهم، لا أستطيع التصديق أن هذه هي أمي التي ما ضمتني يوما ولا شجعتني حتى!
والأغرب هو رؤية تأثرها أمام القصص التي تشاهدها على التلفاز لفتيات تعرضن للظلم من أمهاتهن، وسخطها وشتمها لأمهاتهن لأنهن لم يمنحنهن الحنان، بل ودموعها المنهمرة وهي تروي تلك القصص.
بل والأعجب من ذلك؛ أنني حينما أراها وهي تعامل الحيوانات أشعر بالغيرة تأكلني كما تأكل النار كومة من القش الجاف في عصر قائظ الحرارة، أسمعها وهي تدللهم وتحتضنهم وأرى الخوف يلمع في أعينها والدموع تترقرق قلقا عليهم إن أصابهم مكروه، وما رأيت ربع ذلك الخوف وهي تلقي بي بين يدي معذبي، أحاول الاختباء في حضنها في محاولة لرفض العودة إلى سجنه، وهي تدير وجهها جانبا وذراعيها تتدليان على جنبيها ولا تحرك ساكنا ولا تحاول ضمي لطمئنتي بل وتدفعني بعيدا عنها، وكأنها تلقي بي بيديها عن حافة الجرف لأسقط في جحيم بلا قرار، لكم تمنيت لو أنني حملا وديعا أو قطة مشردة ربما حينها ستراني وتضمني وتشملني في بحر حنانها.
الأمهات اللواتي قرأت عنهن كانوا يغرقون أطفالهن بالحنان والحب، يضحون ليروا ابتسامة صغيرة ترتسم على قلوب أبناءهن والأم التي كانت من نصيبي هي أم لا تعرف للأمومة معنى سوى توفير الغذاء والكساء أي كانت نوعيته ومهما كان رديئا المهم أن توفره والأهم أن تعايرك فيما بعد أن لا أحد حصل على ما حصلت عليه، والأكثر أهمية بلا منازع أننا مهما فعلنا لن نعوضها حقها فيما فعلته لأجلنا، هي دائما مظلومة ونحن الطغاة قساة القلوب الذين نكيل لها الآلام، ناكري الجميل والجاحدين لمعروفها الذي ليس سوى واجبها الطبيعي تجاه من أنجبت. لن أنكر أنها تحملت الكثير من الظلم للحفاظ على زواجها من والدي، ولكن هذا لم يكن ذنبنا لتقتص منا عن أوجاعها.
لم أر في حياتي أما تدعو على أبناءها كما أمي، دوما تدعو بالفشل والوجع وحرقة القلب لنا رغم كل ما نفعله لسعادتها، يكفي أن تسمع كلمة واحدة من أي كان في حقنا لتلغي كل الخير الذي فعلناه وتتمسك بالخطأ الوحيد الذي ربما لم نقترفه وكان وشاية لا أكثر، لا تمهلنا حتى للدفاع عن أنفسنا، نحن دوما متهمين حتى بعد أن تثبت براءتنا.
لا أعرف حقا لماذا أنجبت كل هذا العدد من الأبناء إن كانت ليست قادرة على الحب؟ ولماذا تسعى دوما لزرع بذور الحقد بيننا وأكثر ما يقتلها هو انسجامنا معا؟
أذكر في الأمس القريب فرحتي الغامرة التي جعلتني أقفز كأرنب مبتهج عندما تلقيت اتصالا من وزارة التربية والتعليم وهم يهنئونني على نجاحي الباهر وتفوقي، ويدعونني لحفل أقيم خصيصا لتكريم أوائل الجامعات.. لم تكد تسعني الدنيا لشدة فرحتي، كنت أسير وكأنني أنهب الأرض نهبا لكي أخبرها وأرى الفرحة تلمع في عينيها، ولكنها بدل ذلك أطفأت فرحتي وتركتني في ظلام دامس.
ففي يوم التكريم بدأت منذ الصباح سلسلة الطاقة السلبية التي تبثها في جسدي كالسم، والدعوات والشتائم التي تنثال من بين شفتيها كنهر طيني أسود لا يتوقف عن الانهمار حتى يغرق روحي بوحله، جميع الأهالي فرحين فخورين بأبنائهم وهي تجلس كمن يجلس على رأسها الطير وعقدة تلتصق في جبينها وأكاد أسمعها وهي تدعو علي، وبدل دموع الفرح انهمرت من عيني دموع الألم ولكنها هذه المرة انهمرت للداخل، فلا يجوز لي البكاء في مثل هذا الحفل، كانت تكويني تنهك روحي وتذيبها وجعا.
ليتها تشعر بأن كل ما فعلته لم أفعله إلا لأجلها، لأجل ضمة صغيرة تعوضني بها عن سنين الحرمان والتفرقة بيني وبين أخوتي والتي كانت تزيد جرحي اتساعا وتضيف ملحا فوق ندوبي التي لم تشف ولن تشفى يوما.
يا ترى هل سيأتي يوم ونعيش أنا وهي لحظات كأم وابنتها؟ تضمني وتريح رأسي في حجرها وتطبطب على رأسي بحنان وهي تطالع التلفاز، كلما لاح لي هذا الخاطر أرسم حوارا وهميا يدور بيننا وأنا أناقشها فيما ترتديه تلك البطلة الشقراء ذات الصدر النافر وهي تهمس لي بحنان: لو أنك ترتدين فستانا مثله ستفوقينها جمالا، أو لو أخبرتها كم تعجبني قصة شعر تلك الممثلة التي تؤدي دور المديرة الناجحة، وهي تجيبني ونظرة فخر تملأ عينيها: بأنني أفضل منها بمراحل.. صدقوني لا أتمنى أكثر من ذلك، ولكنها لا تزال حتى الآن ورغم ابتعادي عنها تطاردني بلعناتها التي لا تنتهي، وكأنني من قتل والديها ويتم أبناءها، تدعو علي بالجحيم الحارق وتحاول سد طرق الأمل في وجهي، أي أم هي هذه؟؟
لقد تعبت حقا من مداراتها وإخفاء مشاعري الحقيقية تجاهها، لا أكرهها حقا ولكنني أكره ما تفعله بي، سأحبها دوما وسأسعى دائما لأكون مثار فخرها حتى لو لم تقدر ذلك، فلن أخذلها يوما ولن أسيء لها ففي النهاية ستظل أمي التي أنجبتني رغم بؤس الحياة التي أحضرتني إليها.