كيف تُشرَّحُ المشاعرُ للوصول إلى مكنون الألمِ النفسي لأي إنسان؟ الطبيبُ هنا ليس خريجَ طبٍّ! إنَّه يشرَحُ بالقلمِ ويصِفُ التشريح بكلِّ دقةٍ في سطورٍ يحتار فيها صاحب العِلَّةُ الذي يعجَزُ عن وصفها، إنَّه الكاتب؛ سواءً كان شاعرًا أو روائيًّا أو صحفيًّا، هو وحده من يملك مهارة وصفِ الشعور وحالة القلب.
هنا تتحوَّل غرفة مكتبه إلى غرفة عملياتٍ معقَّمةٍ، ومِشرطُه هو قلمُه، وسطوره هي الخيوط الجراحية، ومهارته هي وضع يده على مكان الألم ووصفه والتحدث عنه بدقةٍ. من أين أتته تلك المهارة؟! أهي هبةٌ ربانيةٌ أم دراسةٌ واجتهادُ؟ أم أنَّ هناك مدارسَ تعلُّمِ هذة المهارة؟!
أعتقد أنَّها في الأصلِ هبةٌ من عند الرحمن، نعمةُ الإحساس بمجرد نظرةٍ لحرف،
فعندما كنا نشاهد حفلاتِ السيدةِ أمِّ كلثوم التي كان يذيعها التليفزيون المصري كنَّا نرى صورًا لبعض الجالسين من حضور الحفلة في حالةٍ من الانسجام والانفعال التام، فنرى من تسرحُ مع الكلمات وتسيلُ دموعها وأخرى تتنهَّد بحُرقةٍ، وآخر يبتهلُ ويطلبُ إعادة مقطاعٍ من الأغنية، التي كتبها شاعرٌ عظيمٌ ولحَّنها عبقريٌّ وتغنَّت بها كوكبُ الشرق، فجاءت وعبَّرت عن البعض بشكلٍ دقيقٍ، فاختلفت ردودُ أفعالهم بين هذا وذاك، ولكن هذا ليس هدفي الذي أريد وصوله من وصف بعض الكتَّاب بكلمة «أعظم دكتور تشريح» ووصف بعضهم الآخر بأنَّه «غوَّاصٌ في بحور أعماق البشر».
كيف وصل لهذه المكانة؟ بتمكُّنه من فنون اللغة.
هنا لنا الوقفة الأولى،
فلا يمكن أن أصل إليك بكلماتي دون أن أعبِّر لك عنها بحروف؛ فنجد أنَّ الباب الذي سيدخلنا إلى غرفة الكاتب هو اللغة.
حلَّل الباحثون الكلمات التي تصف المشاعر في ٢٤٧٤ لغةٍ منطوقةٍ باستخدام مبدإ التضافر اللغوي - وهو أحد المصطلحات المستخدمة في علوم تصنيف المعاجم - فيهتمُّ بالكلمات التي تعبِّر عن معانٍ مختلفة، فنجد أنَّه فحصٌ للكلمات التي تحمل معانٍ مختلفة في أكثر من لغة.
تتَّسم بعضُ المشاعر بالعالمية، لكن لماذا في كل الكتابات يرتبط القلب غالبًا بالمشاعر وخاصةً الحب، كيف إذا كانت المشاعر تنبع في الأصل من الدماغ، فمنذ متى بدأ هذا الربط التاريخي؟
فالشعور جزءٌ مهمٌّ وأساسيٌّ في تكويننا البشري، وفي اللغة البشرية كثيرٌ من الاستعارات التي توظِّفُ أعضاء الجسم لوصف المشاعر كالحب، ويظهر فيها القلب بشكلٍ خاصٍّ، مثل: «انكسار القلب - وجع القلب»، ويأتي في وصف الأشخاص قول: «طيب القلب - قاسي القلب - كلامه من القلب ودخل القلب»، ويقال عندما يكون الإنسان متردِّدًا: «منقسم القلب».
وقد وُصِفَ القلبُ عبر التاريخ بأنَّه مركز إقامة المشاعر، والنفس، والروح. وهذا المفهوم مشتَركٌ في ثقافات كثيرة، كالصينيَّة، والفرعونيَّة. فوفقًا للطبِّ الصيني فإنَّ القلب هو مركز الوعي والنفس والروح. وتكاد تُذكر في هذا السياق حكمة الحبِّ في الكتابة الصينية التي تحوي إشارةً تشبه القلب.