حباني الله منذ صغري بمحبة العلماء الربانيين الصادقين، وعلى قدر حبي لهذا الصنف الطاهر، كان بغضي العنيف للعلماء الخونة المرتزقة الذين يتاجرون بدينهم وضمائرهم.
وإن كل شيخ من الشيوخ الصادقين الأتقياء الأنقياء، أعتبره شيخا لي حتى وإن لم ألتق به أو أقابله أو أشرف بالجلوس تحت قدميه.
ولقد كان حبي وتقديري للعلماء الربانيين على موعد مع هذا البركان الثائر من المشاعر التي تدفقت على أقلام تلامذة هذا العالم النجيب ومحبيه، والتي عكست ما يكنونه من مشاعر غامرة ومودة صادقة للراحل الكبير، العلامة الدكتور محمود توفيق سعد.
التلاميذ العظام انهالت علينا كلماتهم بما يثير العجب ويُعرف برجل نجزم أمام ما قرأناه عنه أننا أمام رجل ليس من عصرنا، وأمام نمط مختلف من الناس والهمم والطبائع..
قلت في نفسي: لعلهم يبالغون أو أنها لوعة حزين يتجاوز في القول والتعبير.. فأقبلت بنفسي على سماع الرجل، فإذا بي أجد نفسي أمام طاقة هائلة من العلم والتواضع وسمو الروح والنفس، بل إنني أمام رجل صادق، يفوح هذا الصدق من كل عبارة أو جملة أو معنى يريده وينطق به.
وهنا أدركت مع كل ما كُتب عن الراحل الكريم وأمام هذه المشاعر المتدفقة والأخلاق المبهرة التي حاول تلامذته أن يترجموها للعَالَم من حولهم، ليعرَّفوا الدنيا ماذا خسرت مصر؟ وماذا خسر الأزهر الشريف؟ بل أيقنت أن هذه الكتابات الرثائية العاطرة، من الجحود الهائل أن لا يجمعها جامع، ومن الخسران الكبير أن لا يضمها كتاب أو تهمل وتضيع، وتكون بمثابة دمعة على خد حزين سرعان ما جفت وتبخرت، فإذا بهمة عملاقة تتولد في نفسي وتنبعث في أعماق ذاتي، لجمع هذه الدرر الغوالي، وبدأت الاتصال والحديث مع كل من كتب عنه من تلامذته ومحبيه الكرام لاستئذانه فيما كتب أن نضعه في السفر المرقوب، بل تواصلت مع الكبار من أئمة اللغة والكبار ممن صحبوه وعرفوه لاستكتابهم في الموضوع، فما حدثت أحدا من الكرام إلا وأجاب وارتضى، ورأى هذا واجب يفرضه عليهم وفاؤه للشيخ الكريم.
حتى استطعت جمع عدد لا بأس به من المقالات الرائعة، التي تفوح بحب عالم جليل، وتحلق بأجنحة الوفاء لشيخ كان لهم مربيا ومهذبا وملهما قبل أن يكون معلما ومدرسا، ولقد تكونت لدي صفحات أجزم أن كل من يقرأها، لن يتركها حتى يفرغ منها لشدة جذبها، وبريق صدقها، وأن الشوق والحماسة فيما يطالعونه من شمائل الشيخ وإنسانيته العالية، يمكن أن يجعلهم يعيدون قراءة هذا الكتاب مرات ومرات، بل يمكن أن يجعله أحدهم كتاب تربية، او كتابا يمكن تقزيره على طلبة العلم، فيما يدرسونه من أخلاق العلماء، والصورة المثلى التي يتحلون بها ويكونون عليها، بل فوق هذا أجزم أن كل من تصفحه، يشعر أنه أمام نموذج من الصحابة وُجد في عصرنا الحديث، وأمام رجل أبي النفس، عفيف الروح، مترفع الهمة، جسور الرضا.
نعد القراء ونعد الأزهر ورجاله، ونعد طلاب العلم، ونعد كل محبي الراحل الكريم وأبنائه البررة، أن نقدم لهم عملا طيبا يشعرهم بأن شيخهم ما زال أثره يرن في الدنيا، واخلاقه تشنف الأسماع.
وكل الشكر والتقدير لتلاميذه البررة النجباء وأبنائه وبناته من لبوا طلبي وامتثلوا لرغبتي، في تخليد ذكرى شيخهم ووالدهم، وكل الأسف لمن خذلونا في الطلب، وكنا نتمنى أن يقدموا لنا ولو كلمة عزاء أو سطرا من رثاء.. ألا يدرون أنها شهادة للزمان، وكتمان الشهادة عاقبة سوء. ؟!
بل كان بعضهم يشعرني بأنني أتسول منه وأتطفل عليه، أو أطلب حسنة كما يطلبها شحاذ مسكين، ولولا الصبر والجلد على سبيلنا الذي أردناه والغاية التي ارتضيناها من خدمة الشيخ الجليل، لوليت ظهري لهذه النفوس الهاوية، وما رخصت نفسي وكبريائي أمام الذوات التي تحتاج أن تتعلم قدرًا ولو يسيرًا من الذوق.
وعلى الوجه المقابل أقدم شكري الخاص لنفر من أخلص تلاميذه ولله در أحدهم حينما قال لي: اجعلني جنديا وخادما لك في هذا الكتاب.. يقول هذا وهو ذو المقام الرفيع والمكانة العالية… وما هو إلا وفاء نادر.
رحم الله الشيخ الدكتور محمود توفيق سعد.
#محمود_توفيق_سعد