حتى هذه اللحظة كلما تكلمت عن طه حسين أو مسسته بسوء كان فيه، وجدت من المدافعين عنه والمتذمرين من يهب عليك مستنكرا مدافعا عنه يريد أن يأكلك ويمضغك، هكذا بالهوى والمزاج يتحولون إلى دروع عصية دون الوقوف على حقيقة أو برهان أو دليل يبيض وجوههم أمام هذه الهبة.
ثم يقول أحدهم قولة المتعنترين المتغلبين وكأنه بها يقهرك، ويظن أنك بعدها لن يكون لكلامك مصير إلا أن يلقى في البحر أو سلال القمامة، إذ يقول: سيبقى طه حسين هو طه حسين، رضي من رضي وأبى من أبى.
ثم يحولون الحوار إلى معركة بين دعاة التنوير ودعاة الظلام، ليكون طه هو المفكر المستنير المظلوم، ومخالفوه من علائم التخلف والظلام والرجعية.
وسبحان الله يتحول أنصار الكتاب الذي وصفه الله بأنه النور، إلى ظلاميين رجعيين.. {وأنزلنا إليكم نورا مبينا}
نعم فليكن إذن.. ومن خلال هذا فلتسمح لي أن أقول لك: سيبقى إلحاد طه حسين شاء من شاء وأبى من أبى.
وهو الإلحاد الذي لم يرده أو يعلن البراءة منه.. إلا قليلا في بعض أفكاره.
والحق أنني هنا لا أتناول سيرة طه وأخطاء طه أو أعدد عليه جرائمه وعدوانه على الله ورسوله ودينه، وإنما أنا هنا أتناول خلقا غائبا في أقلام بعض الكتاب، فهو فيما يكتب، يراه أحيانا ضعيفا هشا لا قيمة له، فما العمل إذن؟
الحل هنا يتمثل في استجلاب الصدمة والإثارة التي تزلزل عقل القراء، وتثير حفيظة الرأي العام، ومن ثم يكون كتابه أو مقاله حديث المدينة، حينما يأتي بما يصدم الناس في معتقدهم وتراثهم ودينهم.
وهي طريقة مجردة من الشرف والنزاهة، فإذا كنت تقدم كفرًا أو إلحادًا، فدعه يعلن عن نفسه، وكفى به صدمة، أما أن تشحذ أفكارك الخاملة بصوادم الأفكار حتى تروج، ويقبل القراء على كتابك، وتتحدث الدنيا باسمك، فهذا عمل رخيص دنئ.
هل تتخيل بعد هذا الطرح، وبما يتناسب مع مقدمته أن أخبرك أن طه حسين كان واحدا من هؤلاء؟
نعم صدق.. فأنت في كتاب الشعر الجاهلي الذي ألب عليه الدنيا، تعجب كل العجب، حينما يورد ألفاظ الإلحاد، وترى أنه لا مناسبة لها مع الموضوع الذي يتحدث فيه، وكأن طه فعلا عمد أن يدسها ويغمز بها إلى تكذيب القرآن الكريم إذ يقول: "للقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم، ولكن حديث القرآن عنه لا يعني إثبات وجوده"
تكذيب صريح فج وقح للقرآن الكريم، لم يقابل يوما بتوبة أو رجعة أو إعلان لنكران.
يقف على الجانب الآخر فصيل من الإسلاميين يتربصون بهذا الكلام، ويعلنون صارخين أن المفكر الكبير دكتور محمد عمارة أثبت للدنيا كلها توبة طه حسين وأبان أنه تراجع عن أفكاره، والحق أن أغلب كلام الدكتور عمارة عاطفي، واجتهاد بالحيلة ليجعل من الرجل منارة دينية ليصدم من يعتبرونه شعلة التنوير والتنكر للدين.
طه حسين كأي علماني متكلم، يقول الله ويقول الرسول، ومن الممكن أن يصلي ويسبح ويذكر الله ويحج إلى بيته الحرام، وفي نفس الوقت لا يصدق القرآن في بعض تعاليمه، ويدافع عن الالحاد والتبشير، ويهاجم العلماء والأزهر.
حالة من التناقض، ليست غريبة أو جديدة، وإنما هي حال الكثيرين من العلمانيين والمرتدين، مشكلة الدكتور عمارة أنه انتقى الإسلاميات في حديث الدكتور طه وبنى عليها، وحاول التصوير للقراء أن الرجل من أئمة الانتصار للدين.
لقد حدثني العلامة الدكتور (إبراهيم عوض) يوما وقال لي: "إنه كان يمكن له أن ينسف كل هذا الكلام، لكنه أبى لمصلحة الفكرة الإسلامية"
ولكن ماذا إن علا صوت الدكتور عمارة، وعرف الجيل أن طه عظيما، فماذا يفعلون في أفكاره وكلامه الذي كذب القرآن علانية حينما يقرؤونه؟
إنه طه لم يكن له أي كتاب مطبوع يعلن فيه رجعته وخطأه عما قال، واكتفى شيخنا عمارة لإعلان رجعته بحوار صحفي طمسه الزمان، ودلل بأنه لم يُعد طبع تلك الكتب الآثمة التي حملت ألفاظه الكفرية الشنيعة.. وأنه أدى فريضة الحج، وبعض الافكار الجديدة في كتابه مرآة الإسلام.
عجبت لبعض الأصدقاء حينما ناقشته فقال لي:
معذرة أنا أميل لرأي الدكتور عمارة، وكأن المسألة صارت بالعاطفة والأهواء، بعيدا عن الدليل والحقيقة.
ثم إنك إذا أردت أن تسألني بعد كل هذا: هل كان طه بما يوحي به حديثك ملحدا كافرا مماريا في آيات الله؟
أقول لك: كلا لقد كان طه من أشد الناس إيمانا وتصديقا، وهو حينما كان يبث مثل هذه الأغاليط، لم يكن يصدرها عن قناعة ويقين، وإنما كان يعلم فسادها وضحالتها وزيفها، ولكنه كان يعشق الشهرة إلى حد الإدمان، بل إلى الحد التي يمكن أن يغلب فيه حبها، على حب الله ورسوله.