وحدي أمشي فوق أرصفة دمشق القديمة، في ليالي الشِّتاء الباردة والمُعتِمة، فوق أحجارها المرصوفة القديمة، والمهترئة مثل قلبي تمامًا.
أسكبُ فوق طرقاتها، حاراتها، وشوارعها، نفسي، تاريخي، وأحزاني، أفراحي المَنسيَّة، وأشقائي البعيدين الذين ابتلعتهم الغربة في جسدها الغريب الأطوار.
لا أعلم إذا ما أنا مشيتُ داخلها أم أنَّها مَن عانقتني لأجد نفسي أحاورها في هذه الساعات المتأخرة، وفي هذه الأيام ذات البرد القارس.
أرى طفلًا يتيمًا، يتَّكِئُ بِكُلِّه فوق عُلَبِ البسكويت الرخيص الثَّمن، وفوق حافَّة الحياةِ ليلتقط فُتاتَ خُبزٍ عفنٍ سقطت بشكل عفويٍّ من فم طفلٍ لعائلة ثريَّة، يحملُ عودَ ثقاب مُحترق يحاول أن يُشعِلَهُ ليروي أملَه، حُلمَه، ورُبَّما جنَّته التي كان يريد الوصول إليها.
وعلى الجانبُ الآخر تقف فتاةٌ تنتظر مجيء فارس أحلامها الذي رَكِبَ أول قطارٍ بعيدًا عنها خوفًا من الحربِ وحُبِّها، بعد أن أهطلَ عليها بكمٍّ من الوعود الزائفة التي جمَّدتها حتى هذه اللحظة.
أما عن النَّافذة التي لمحتني من خلالها تلك العجوز الرقيقة، كادت لتسألني عن ولَدِها وعن موعد وصول الطائرة التي تَقِلَهُ إليها، فقد طال صبرها حتى ضاقت بها الدنيا، فباتت تنتظر رؤيته، فهل سيقطع بها اللقاء فيصل إليها فيعانِقُها داخلَ شُرفتها، أم سيفوت الأوان وتُغادِرَ نافذتها قبل أن تراه؟!
كنت أَمشي وتطول بي المسافات وتطوي بي الأزمان، لأرى قصصنا الكثيرة، والمخبأة جيدًا في تفاصيلنا، في فقرنا من هذه الحياة، وفي آلامنا التي حاولنا أن ننساها فكادت أن تَفتِكَ بنا.
جلست قليلًا خلف باب شرقي لأستعيد أنفاسي المُتسارعة والهاربة مني، ودموع عيني الغزيرة، رجفة يدي التي لم أعي سببها حتى الآن، أهي من بردِ الشِّتاء، أم من برود قلبي؟!
رأيت جميع التفاصيل، ولم أرى شيئًا حتى الآن!
في تلك اللحظة خرجت من هناك ولا أدري أهي من ودعتني، أم أنني من تَركتُها خلفي دون كلمة وداع.
كنتُ وحدي أمشي في طرقاتها ما بين عالمٍ قديم وآخر حديث، لا أنا أنتمي إلى حقبة زمنية قديمة، ولا أنا التي أستطيع الذهاب إلى جديدها وأمضي قدمًا.
مثل محطَّة الحجاز تمامًا قديمة بِقدَمِ الزمان، أقفُ على حوافِّه، أنتظر عبور مُسافِر، فلا أجِدُ أحدًا يمشي معي فوق سِكَّتي أو ينتظرُ معي عودتي، أن أعودَ إلى نفسي.