مكثت في سيارتي بضع دقائق بعد وصولي قبالة هذا السور الشاهق المحيط بعدة مباني قاتمة تبعث في نفس كل من يمر بها عدم الراحة ... ربما كانت وظائف من يعملون بها هي السبب .. ربما كان ما ترمز إليه من نهايات بائسة لرواده ... و ربما كان السبب في شعوري بالإضطراب هو إضطراري للمجيء .
تقدمت عبر البوابات مبرزا هويتي كمحامي و زائر منتظَر قدومه بناءا على رغبة (مروان )الذي ما أن رآني أدلف إلى الحجرة الفارغة إلا من طاولة معدنية صغيرة ذات مقعدين يجلس على أحدهما حتى ارتسمت على شفتيه ابتسامة مريرة و هو يقول " صديقي .. ها أنت قد أتيت " .. جلست قبالته متأملا زيه الأحمر و الأغلال التي تحيط بمعصميه .. و وجهه الشاحب و عينيه الحمراوتين من أثر الأرق و إنعدام الشهية و بعد لحظات من الصمت تنهدت قائلا " ماذا أفعل هنا ؟ "
فأجاب بنبرة لا تخلو من اليأس " احتجت لبعض الرفقة فقط بينما أقضي لحظاتي الأخيرة .. يبدو أنهم قد قاموا بتغيير عاداتهم في اقتياد المحكوم عليهم بالموت فجرا بشكل مفاجيء للقاء العنق بحبل المشنقة "
قالها و هو يتحسس عنقه و في عينيه بعض الشرود , فأطرقت رأسي قليلا قبل أن أقول " تعلم أننا قد بذلنا ما في وسعنا لتجنب هذا الأمر "
فقال و الحزن يكسو كلماته " نعم .. أعلم هذا .. و لكنك تعلم أني بريء أليس كذلك ؟! "
فقلت " و هل من فائدة تُرجى مما أعتقده الآن ؟ "
فقال " على الأقل سأقضي لحظاتي الأخيرة مع شخص يؤمن ببرائتي .. دعني اتكيء على هذا حتى النهاية , ربما تجد روحي سكينة عند فراق الجسد "
تأملت وجهه للحظات قبل أن أقول " لقد مر زمن طويل و أنت تسير في طريق العبث .. منذ نعومة أظافرنا أنا و أنت نسير في اتجاهين مختلفين .. أنا شخص ملتزم , مجتهد , ليس لي علاقات مشبوهة .. و تزوجت و أنجبت .. بينما ظللت أنت تسلك طريق العبث و الملذات و تتقلب بين علاقاتك النسائية المتعددة .. و رغم ذلك لم أتخل عنك قط ... شاركتك كل أسراري و ظننتك تشاركني أسرارك أيضا "
فصاح قائلا " لم أخف عنك شيئا "
فقلت " حقا ؟! .. و الشقة التي وجدوا جثة الفتاة بها هل أخبرتني عنها من قبل ؟ "
أطرق مروان رأسه للحظات قبل أن يقول " لم يكن أمرا مهما آنذاك كي أخبرك بأمر الشقة .. ربما كنت أحاول تجنب محاضراتك عن العبث .. و لكن هذا لا يعني أنني أخفي عنك شيئا .. نعم لقد اشتريت الشقة لتكون وقرا لملذاتي .. و نعم كنت على علاقة بالفتاة .. و لكنني لم أقتلها أقسم لك "
لم أحاول إخفاء الجفاء في صوتي و أنا أقول " خلاصة القصة الآن من وجهة نظر القضاء أنك كفتى عابث كنت على علاقة بالفتاة , و كانت دائمة التردد عليك في تلك الشقة .. و أنك في تلك الليلة كنت تواعدها عندما شب شجار ما بينكما فاستللت سكينا لتقتلها بينما شخص ما قد سمع الصراخ فأبلغ الشرطة التي جاءت و ما أن اقتحمت الشقة حتى وجدتك مضرجا بالدماء و بجوارك سلاح الجريمة بينما قد فارقت الفتاة الحياة .. "
فقال مروان " و لقد أخبرتك أن لم يكن ثمة شجار بيني و بينها .. لقد كنا نقضي وقتا ممتعا عندما فقدت الوعي بطريقة ما .. و عندما استفقت كانت على هذه الحالة التي وجدوها عليه ... حتى الآن لا أفهم ماذا حدث و كيف حدث حقا .. هذه هي الحقيقة أقسم لك "
فقلت بنفس النبرة " وجدوا بدمك نسبة عالية من الكحول و المخدر.. هذا ما جعلهم على يقين أنك كنت تحتفل و ربما قد أفسدت الأمور في النهاية .. لقد حاولت أن أستغل تلك النقطة في تجنب الوصول إلى هذا الحكم .. و لكن القاضي معروفا بكراهيته للجريمة .. ربما أدرك أنه لا يجب أن يتهاون معك .. و خاصة مع وجود رسائل سابقة على هاتف الضحية مرسلة من هاتفك .. محتوى الرسائل لا يخلو من تهديدات بالقتل "
قال مروان بحزم " أقسم أنني لم أبعث بتلك الرسائل أبدا .. و لا أعلم كيف حدث هذا .. أكاد أكون على يقين أنه قد تم الإيقاع بي .. "
فقلت متسائلا " كيف لم تناقشك الضحية في أمر الرسائل السابقة ؟ على افتراض أنك حتى لم ترسلها بنفسك على الأقل كانت لتشير إليك بها .. و لكن ما تقوله أنك لا تعلم أنك أرسلت أيا من تلك الرسائل و أن الضحية لم تتحدث عنها و أنك لم تواجه معها مشكلة أو تعنيف و أنك لم تفقد وعيك جراء تناول الكحول و المخدرات و أن البلاغ الذي تلقته الشرطة مزيف .. و في النهاية استخلصت أن الأمر هو مؤامرة كبرى حيكت لك ببراعة .. ربما نصل في النهاية أن الضحية شريكة في هذه المؤامرة "
فصمت مروان لحظات و هو يحك رأسه في حيرة و توتر قبل أن يقول " نعم .. ربما نعم هي شريكة في هذا "
فأطلقت زفرة استنكار و أنا أقول " بربك !! .. لقد دعمت كل ما أخبرتني به أمام القاضي و قد بدوت ضعيفا للغاية و أنا أحاول تخليصك بكل هذه التفاهات و لكن لأصدقك القول فأنا حتى لم أكن مقتنعا بسير الأحداث بهذه الطريقة .. القضاء يتعامل بأدلة و براهين .. و نحن لا نملك أي دليل على براءتك .. لم يكن أمامي سوى محاولة تخفيض الحكم "
فابتسم ابتسامة مريرة و هو يقول " و قد أفلح الأمر .. ها أنا أواجه الإعدام .. على أي حال علي أن أشكرك على محاولاتك مع القاضي لنقض الحكم و طلب الإستئناف "
فأطلقت زفرة و قد أظهرت له مدى حزني بسبب هذا الأمر .. و حاولت تغيير مجرى الحديث إلى بعض الذكريات التي تشاركناها .. نبتسم قليلا و نصمت قليلا إلى أن دلف بعض رجال الأمن على رأسهم ضابط تنفيذ الحكم ليقول بعض لحظة من تأمله لنا " لقد حان الوقت يا سادة "
نهضت إليه لأقوم بتوديعه .. كان بداخلي رغبة في أن أخبره بشيء يتعلق بمشاعري في هذه اللحظات الأخيرة .. و لكنني كنت دائما من هذا النوع الذي يخفي أكثر مما يبدي .. و يروقني هذا الأمر ..
لم يسمحوا لي بالاقتراب من غرفة اللإعدام و لكنني بقيت في أول الممر المؤدي لها بغرض أنني محاميه و صديقه الوحيد و لم يكن لديه عائلة .. صديقه الوحيد الذي يراه و هو يسير إلى لحظته الأخيرة بالحياة .. و عندما وقف ليلتف حول عنقه حبل المشنقة نظر إلي و قد ارستمت على وجهه ابتسامة استسلام لاحظها الضابط المنفذ بعدما قرأ عليه وثيقة تنفيذ الحكم .. و بعدما قاموا بتكميم فمه و قبل تغطية وجهه قال ضابط التنفيذ كلماته التي أبهجتني دون أن يدري .. كلماته التي قرأتها في نظرة مروان " على الرغم أني سعيد بتقبلك حكم القضاء و عدم طلب استئناف أو نقض للحكم .. إلا أنني أتمنى أن يغفر لك الله سوء عملك "
عندها بدت نظرات الصدمة و الهلع على وجه مروان و هو ينظر إلي .. و قد عاجلته بإبتسامة أخيرة قبل أن يسدلوا غطاء وجهه و أسمع صوت آهته المكتومة بعد تدلي جسده ..
كان يستحق كل ما قمت بتدبيره من البداية .. كنت أعرف شهوانيته القذرة و لكنني لم أكن أتخيل يوما أنه سيلوث حياتي بها .. منذ تلك الليلة التي عدت فيها من العمل باكرا ليعاجلني صوت خيانته لي مع زوجتي .. إلا أنني لم أكن الشخص المتهور الذي يدمر كل شيء .. ففضلت الإنسحاب تلك اللحظة لأبدأ في التخطيط لتدميره تماما بالشيء الذي برعت فيه .. القانون .. و اضطررت إلى تحمل معرفتي بتعدد اللقاءات بينهما قبل أن أدفع بإحدى العاهرات التي ساعدتها من قبل في قضية خاصة بها لتكون عشيقته .. و لم تكن على علم بأن حياتها هي القطعة الأخيرة من خطتي .. الآن علي أن أحيك نهاية أخرى من أجل زوجتي الحبيبة .. المخلصة .
تمت