أطلقت الفتاة الصغيرة صرخة رهيبة عند رؤيتها لأثار الدماء المتناثرة على الأرض بغرفة النوم الإضافية , وانطلقت صرختها تشق أجواء الليل الساكن بالقرية الصغيرة , فتجمع نفر من أهالي القرية حول المنزل في حالة من الهلع و القلق , فقد اعتقدوا أن والد الفتاة الكسيح قد مات , وهو كل ما تبقى لها في الحياة بعد موت والدتها منذ زمن بعيد , و لحزنه عليها أصابه الشلل و أصبح أسير كرسيه المدولب , ولكن أصابتهم الدهشة عند رؤيته و هو يخرج من باب منزله و على وجهه أثار الفزع و الخوف , وخرجت منه الكلمات بصعوبة :
- أستدعوا الشرطة ....فقد أختفت الضيفة .
انتشر رجال الشرطة و المباحث الجنائية بالمكان , وكان بعضهم يحاول إبعاد أهالي القرية عن مسرح الجريمة , و البعض الأخر يقوم برفع البصمات و أخذ عينة من الدماء المتناثرة بالغرفة و نافذتها المكسورة , و فيما كان أحدهم يقوم بتهدئة الفتاة الصغيرة , كان الرائد "عادل فهمي" يستجوب الرجل الكسيح , و رفقا بحالته سأله بصوت رقيق :
- سيد "ابراهيم" ! ماذا تعرف عن هذه الفتاة ؟
فقال "ابراهيم" بصوت يتخلله القلق و الخوف :
- لقد قلت لسيادتك قبلا أن الفتاة قدمت إلى القرية في وقت مبكر هذا المساء لتبحث عن عمها الوحيد الذي لم تعرفه يوما , وهذا وفقا لكلامها , و عندما تأخر الوقت عرضت عليها المبيت هذه الليلة ..........و ياليتني لم أفعل .
بدا الحزن في كلماته الأخيرة غير أن " عادل" تابع أسئلته :
- و ماذا حدث بعد ذلك ؟
فتنهد " ابراهيم " قبل أن يقول :
- تناولنا طعام العشاء ثم خلد كل منا إلى النوم , لا توجد سوى غرفتان للنوم في المنزل أنام أنا و ابنتي في إحداها تحسبا لأن أحتاج لمساعدتها , و الأخرى معدة لإستقبال الضيوف وتلك التي باتت الفتاة الغريبة بها ، و بعد خلودنا للنوم سمعنا أصوات غريبة و منها صوت تحطم زجاج نافذة غرفة الضيوف , فبعثت بابنتي لتكتشف ما يدور...
فسأله " عادل " في حيرة :
- ولم تجد سوى أثار الدماء ؟! لم تر أي شخص يهرب ؟
فهز "ابراهيم" رأسه نافيا :
- لا شيء سوى ما قلناه يا سيدي
فانحني "عادل " على "ابراهيم" وهو يقول بلهجة المتشكك:
- ألا ترى يا سيدي أنه من غير المنطقي أن ينطلق القاتل حاملا جثة فتاة راشدة و يختفي بها في هذه السرعة....ثم أنه من غير المنطقي أيضا أن يقوم بقتلها ثم يأخذها معه...لماذا؟ ما الداعي لذلك ؟
فنظر إليه"إبراهيم " في حيرة قائلا :
- لا أدري يا سيدي...لا أدري حقا ... قد تكون أصيبت فقط ولم يتسنى له الوقت أن يقتلها فخاف أن تفضحه فأخذها معه ..
فمط "عادل "شفتيه و هو يقول :
- ربما...بعد أن أفقدها وعيها بالطبع....أو..
فسأله "إبراهيم" :
- أو ماذا ؟
فقال " عادل " في تشكك :
- أو تكون قد هربت ....
وقبل أن يعقب إبراهيم على شيء جاء أحد رجال الشرطة و على وجهه إبتسامة خفيفة و هو يقول لـ"عادل" :
- والد الفتاة المفقودة ...بالخارج
فأصابت الدهشة "عادل"قبل أن يقول :
- ماذا ؟ كيف؟
فهز الرجل كتفيه قبل أن يشير لوالد الفتاة بالدخول , و تقدم الرجل أشيب الشعر,أنيق الملابس, تبدو عليه سمات الثراء الفاحش , و كان القلق غالبا على ملامحه وهو يقدم نفسه قائلا:
- " باهر الأسيوطي " رجل أعمال , والد " سارة باهر الأسيوطي "
فصافحه عادل قائلا في دهشة:
- أهلا يا سيد " باهر " ...كيف عرفت بالأمر ؟
فقال " باهر " في دهشة و قلق :
- أنا لا أعرف شيئا ..أنا أتيت بحثا عن إبنتي , و فوجئت بما يحدث .....فليخبرني أحد بما يحدث بحق الجحيم ؟
فقال "عادل" مهدئا إياه :
- أرجوك تمالك أعصابك...نحن لا نعرف كثيرا من وقائع الأمور ...فالمعروف لدينا الآن أن إبنتك مفقودة ...و سنعمل على إيجادها ...و لكن ما الذي جعلها تأتي بحثا عن عمها وحدها ؟
فتنهد "باهر" قبل أن يقول :
- كان من المفترض أن نأتي معا ...و لكن طرأت أمور خاصة بعملي فجأة , وقد أقترحت عليها تأجيل هذا الأمر ...ولكنها كانت متشوقة للغاية لمعرفة عمها ...بعد أن أنهيت أموري حاولت أن أتصل بها على هاتفها الخليوي و لكني وجدته مغلقا ...فقلقت كثيرا عليها فأتيت بحثا عنها ..
فسأله "عادل" في دهشة :
- أو لا تعرف مكان أخيك ؟
فقال "باهر" مفسرا :
- بل لا أعرفه شخصيا ...لقد مضت سنوات طويلة جدا منذ أن كنت طفلا صغيرا و قد انفصل أبوينا .. و قد اتفقا على أن أكون مع أبي , أما "زاهر" أخي الصغير فسيبقى مع أمي , ومضت السنون و أنا أجول مع أبي العالم كله , و ورثت عنه ثروة طائلة جراء أعمالنا في الخارج , وكنت أحيى هناك و تزوجت من والدة " سارة " هناك أيضا , و توفيت و هي تلدها , و عندما ذكرت لــ"سارة" ما حدث لأسرتي في الصغر , أصرت أن نعود إلى مصر و نبحث عن أخي , و نلم شمل الأسرة من جديد , و على مدار عامين و أنا أبحث عنه حتى توصلت إلى أنه قدم إلى هذه القرية و قطن بها منذ زمن ....
فقال " إبراهيم" معقبا في دهشة :
- يا له من شيء نبيل أن تبحث عن أخيك بعد كل هذه السنين !!
ثم استطرد في لهجة شبه ساخرة :
- لولا ابنتك ما كنت فكرت في هذه المبادرة أبدا يا سيد "باهر" ..
فنظر إليه "باهر " بارتياب فقال "عادل":
- السيد " إبراهيم " صاحب المنزل
فقال "باهر" في قليل من الضيق :
- لسنا بصدد بحث إجتماعي الآن ... و لكني أريد أن أعرف ما حل بابنتي الوحيدة .
فقال "عادل" :
- معك حق يا سيد "باهر" ...معك حق .
وفي هذه اللحظة خرج رجال الطب الشرعي من الغرفة و قال أحدهم مخاطبا "عادل" :
- لقد أتممنا عملنا و قمنا برفع البصمات و أخذ عينات من الدم المتناثر..و لا يبقى سوى أخذ بصمات القاطنين بالمنزل لمضاهاتها بما لدينا ...
فقال "عادل" في سرعة :
- حسنا ...فلتقوموا بذلك .
و فيما يقومون بذلك دخل أحد ضباط الشرطة قائلا لعادل :
- لقد قام بعض رجالي بتمشيط المنطقة المحيطة و لم يجدوا أثرا لأي شيء , وقد أقمنا حواجز على الطرق المؤدية لمداخل و مخارج القرية للقبض على المشتبه بهم...
فأومأ "عادل" برأسه قائلا :
- شكرا لك ...و لنقم بالتمشيط بداية من حدود القرية وصولا لداخلها صباحا ..
فأومأ الرجل برأسه قبل أن يذهب بينما قال " باهر " في دهشة :
- صباحا ؟! و ماذا عن الآن ؟ هل سننتظر الصباح ؟
فقال "عادل" مهدئا إياه :
- لا تقلق يا سيد "باهر" ...فكما سمعت ,لن يدخل القرية أو يخرج منها أحد إلا بعلمنا , و مسألة تأجيل تمشيط القرية حتى الصباح حتى تكون الرؤية أفضل في ضوء النهار ليس إلا...
فقال " إبراهيم" في هدوء :
- لم يبق إلا ساعات قليلة على الصباح ...و سيسرني أن أستضيف السيد " باهر " عندي حتى ذلك الوقت ..
فقال "باهر" معترضا :
- لا لا أشكرك ...سأتدبر أمري .
فقال "إبراهيم" مصرا :
- أرجوك يا سيد "باهر" لا ترفض طلبي ... وهذا أقل ما يمكن أن أقدمه لك بعد كلماتي الفظة التي تفوهت بها ...أرجوك
فقال "عادل" متسائلا :
- و أين سينام ؟ لا يستطيع النوم في حجرة النوم الإضافية قبل تنظيفها
فقال "إبراهيم"في سرعة :
- لا لا ..سينام على هذه الأريكة الكبيرة ..إنها مريحة جدا .
فلم يجد "باهر"بدا من أن يوافق على طلب "إبراهيم" منه فقال لـ"عادل" :
- حسنا.. علي أي حال هذا أفضل من السفر للقاهرة في هذا الوقت.....وهذ الحالة .
فقال"عادل" وهو يشير لرجاله بالخروج :
- حسنا ...آمل أن تستطيعوا تنظيف هذا في الصباح...
فقال "إبراهيم " :
- لا تقلق.... هناك دائما من يساعدنا على تنظيف المنزل .
بعد ذهاب رجال الشرطة و انتقالهم إلى حدود القرية جلس "باهر" على الأريكة وأخذ يفكر في قلق فيما أصاب إبنته قبل أن يلاحظ الفتاة الصغيرة الجالسة على مقربة منه تحدق به , و كانت شاحبة الوجه ,يبدو عليها ملامح الحزن ,فاقترب منها و ربت على كتفها وهو يقول :
- أنا آسف يا ابنتي على ما تعرضت له ... و يعلم الله ما حالتي الآن و أنا لا أعرف ما حل بابنتي .
فقالت الفتاة في صوت خافت :
- سوف تعرف قريبا..
فنظر إليها "باهر" في دهشة بينما قال "إبراهيم" في رقة بدت مصطنعة :
- أحضري فراشا نظيفا من الغرفة الإضافية للضيف .
فأذعنت الفتاة لأمر أبيها و قامت ودخلت الغرفة , بينما قال "باهر" للرجل الكسيح متسائلا:
- أخبرني بما حدث...فأنا في غاية القلق .
فأخبره "إبراهيم" بما أخبر به "عادل" قبل أن يقول "باهر" في حيرة :
- لست أفهم ...من له مصلحة في هذا ؟ بلا أفهم كيف حدث هذا ؟
فهز " إبراهيم" كتفيه قائلا :
- هذا سؤال لا أستطيع الإجابة عليه ياسيدي....فأنا لا أعرفكم أصلا ...أنا ضحية لكرم ضيافتي الذي جلب كل هذا الألم علي أنا و ابنتي الصغيرة ...ونحن بنا ما يكفي من الألم...
فأومأ "باهر" برأسه آسفا وهويقول:
- أعلم يا سيد "إبراهيم" ...إقبل إعتذاري أرجوك
وما كاد يتم كلماته حتى إنطلقت صرخة من الفتاة الصغيرة بالغرفة الإضافية ففزع الرجلان وهرع "باهر" أولا للغرفة ليجد الفتاة الصغيرة على الأرض بجانب السرير و ملامح الرعب على وجهها فبادرها بقوله وهو ينحني عليها :
- ماذا حدث ؟ هل رأيتيه ؟
فأومأت الفتاة بالإيجاب فسألها :
- أين هو إذن ؟
فأتاه الصوت من خلفه :
- خلفك.....
وقبل أن يستدير "باهر" شعر بنصل حاد عريض يخترق عموده الفقري ليخرج من بطنه , وفي بطء إستدار ليرى "إبراهيم"واقفا على قدميه وعلى وجهه إبتسامة ظفر , وفتح شفتيه لينطق بشيء ما ,و لكنه لم يستطع فسقط و قد فارق الحياة , و اعتدلت الفتاة واقفة و نظرت إلى جثة "باهر" وعلى شفتيها شبح ابتسامة قبل أن يقول "إبراهيم" :
- أحسنت يا فتاتي ...لقد ظن هذا الحقير أنني سأفتح له قلبي بعد أن هجرني هو و أبي لنتجرع مرارة العيش طوال حياتنا... الآن جاء دورنا لنحيا أنا و أنت بعد أن نتخلص من هوياتنا المزيفة مع هذه الجثة أسفل هذه الغرفة ... و نستعيد أنفسنا بشكل آخر لنتسلم ميراثنا , بوصفنا..... السيد " زاهر الأسيوطي " و ابنته ... أخو المرحوم " باهر الأسيوطي" .....
و أطلق ضحكة ساخرة و هو يفتح الباب السري بأرضية الغرفة الإضافية ليخفي جثة "باهر" فوق جثة ابنته ...و إلى الأبد .