هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • لا يجوز الجمع بين الصلاتين في السفر!
  • بالمختصر..
  • العرض في البطن و المرض في العين و إيقاف الدواء فيه العون!! 
  • أنت مهرجاني
  •  إلا منك أنت 
  • مكسورة في صمت
  • لست بريئة
  • أوجاع معلم على المعاش 
  • تغريد الكروان: ذاتك .. هدهدها
  • الندم لا يغير الماضي
  •  النقد علم وفن
  • الإنسانية والموت عنوان يرادف "الحياة" - ليندة كامل - دراسة نقدية 
  • شعر مستعار
  • الكاحول و صراع الحيتان
  • العاشق يرى لا يسمع
  • إحذر و تيقن
  • ستجبرون...٤
  • حسنًا.. إنها الجمعة..
  • لا تحزني يا عين..
  • حبل الذكريات
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة محمد شاهين
  5. [النقطة التي أكلتني] قصة قصيرة 

 استيقظ محمد في ذلك الصباح الباهت، حين كانت أشعة الشمس تتسلل على استحياء عبر ستائر غرفته، وعلى غير عادته شعر بوخز خفيف، أشبه بلسعة إبرة دقيقة، اخترقت جلده بصمت واستقرت بثبات غريب فوق كتفه الأيسر.

 

اعتدل في فراشه متثاقلًا، مثقلًا بقلق لم يجد له تفسيرًا، وأدار رأسه نحو المرآة المعلقة على جدار غرفته، كأن شيئًا ما قاده إليها دون وعي، هناك، وسط ملامحه المألوفة، لاحت له بقعة سوداء صغيرة، بالكاد بحجم حبة عدس، مستقرة في موضعها، كما لو أنها وُلدت معه دون أن ينتبه.

 

تأملها طويلًا، لونها بدا أكثر سوادًا مما يسمح به الجلد البشري، سطحها أملس بشكل مريب، وبارد كأنها قطعة ثلج التصقت بلحمه، ومع ذلك لم يشعر بأي ألم، لا وخز، ولا حرارة، فقط برودة ساكنة، برودة صامتة تقف هناك متحدية وجوده دون تفسير.

 

أقنع نفسه أن الأمر لا يستحق القلق، ربما مجرد تصبغ جلدي عابر سينتهي كما بدأ. مرّ اليوم الأول ببطء، يراقب البقعة بين حين وآخر، يلمسها بخوف صامت، وكأنما يراهن على ألا تتغير، إلا أن الشمس لم تكن رحيمة حين عادت تشرق في اليوم التالي.

 

في صباح اليوم الثاني، وأمام نفس المرآة، تجمدت عيناه حين رأى البقعة وقد نمت بقدر مثير للريبة، صارت بحجم عملة معدنية صغيرة، حدودها مشوشة بعض الشيء، كأنها لا تنتمي للجلد، بل تطفو فوقه كما يطفو الزيت على سطح الماء.

 

تجاهل الحديث عن الأمر، حتى مع نفسه، كأن الكلمات قادرة على منحه حصانة زائفة من الحقيقة، تلك الحيلة التي يجيدها البشر حين يخشون الاعتراف بما تخشاه قلوبهم. لكن الصمت لم يوقف نموها، بل على العكس، كل صباح كانت تكبر، وكل ليلة كانت تنبض في جسده كأنها قلب آخر، قلب غريب يضخ له مزيدًا من الخوف.

 

أمام إلحاحها الصامت، استجمع شجاعته أخيرًا وتوجه إلى الأطباء. لم يكن يحب العيادات ولا رائحة المطهرات، وكان دائم الاعتقاد أن المعرفة أحيانًا أخطر من الجهل، وأن تشخيص المرض قد يوقظ وجعه أكثر من وجوده ذاته.

 

أجرى كل الفحوصات الممكنة، سحبوا من دمه ما يكفي، التقطوا صورًا لجسده من كل زاوية، فحصوه كأنهم يبحثون عن ورم أو أثر خفي، لكن كل تقرير حمل نفس الجملة المريعة في بساطتها: "كل شيء طبيعي."

 

عاد إلى منزله أكثر وحدة من ذي قبل، الوحدة صارت رفيقته، أما البقعة فصارت ضيفًا ثقيلًا يزداد حضورًا يومًا بعد يوم.

 

مرّ أسبوعان، وكانت النقطة قد تجاوزت حدود كتفه، وامتدت ببطء نحو صدره، وصار يشعر أحيانًا بأنها ليست مجرد تصبغ، بل كائن حي، ينبض، يتنفس، يهمس له أحيانًا بصوت لا يسمعه أحد سواه، صوت خافت يتسلل بين أحلامه، حتى كاد يظن أن هذه النقطة ليست جزءًا منه، بل بوابة، نافذة تطل على عالم آخر مظلم، يتربص خلفها، أو ربما يتسرب منها إليه.

 

وفي ليلة خريفية باردة، حين بدأ المطر يتساقط لأول مرة ذلك العام، جلس أمام مرآته مطرقًا، يحدق في سواد البقعة التي غطت نصف كتفه تقريبًا، وحين اشتد هدير المطر على نافذته، انبعث داخله مشهد قديم، كأن ذاكرته قررت فجأة أن تثور عليه، مشهد ظن طويلاً أن النسيان قد دفنه، لكنه كان هناك، ساكنًا في عمق اللاوعي، ينتظر لحظة ضعفه ليطفو.

 

رأى نفسه يقود سيارته ليلًا تحت المطر، وإلى جواره صديقه "ناجي"، ضحكاتهما كانت تملأ المكان، حتى تحولت تلك الضحكات في لحظة إلى صرخة مكتومة، حين فقدت السيارة توازنها واصطدمت بجدار أسمنتي.

 

 تناثر الزجاج في كل مكان، وتلاشى كل شيء تحت وطأة الصدمة، إلى أن استعاد وعيه في وسط الركام. كان رأسه ينزف، وضباب المطر يحجب الرؤية، لكنه كان قادرًا على سماع صوت صديقه المكسور، هامسًا بأنفاس متقطعة:

ــ ساعدني... لا أستطيع التنفس.

 

لكن بدلاً من أن يمد يده، جمده الخوف، خوفه لم يكن على صديقه، بل على نفسه، خوف بدائي، صريح، فطري.

 فتح باب السيارة ببطء، زحف خارجها، وكلما ابتعد خطوة، تلاشى صوت ناجي أكثر، حتى غاب تمامًا وسط عاصفة المطر، كأن الأرض ابتلعتهما معًا، وتركته وحده حيًا.

 

أقنع نفسه بعدها، مرارًا وتكرارًا، بأنه لم يستطع إنقاذه، أنه لو بقي لدُفن مع صديقه تحت الحديد والنار، وظل هذا العذر البارد جدارًا يحميه من الذكرى، إلى أن جاءت هذه النقطة السوداء، كأنها الخطيئة وقد نمت فوق جلده، لتخبره أن الذنب لا يموت، بل يتحول، يعيش معك، يتنفس فيك، حتى يبتلعك تمامًا.

 

كلما استعاد مشهد تلك الليلة، كانت النقطة تكبر، وكلما حاول نسيانها، نمت أكثر، حتى أدرك في النهاية أن لا طبيب، ولا دواء، ولا مهرب، وحده الاعتراف قادر على إيقافها.

 

وفي صباح ملبد بالسحب الرمادية، وقف أمام قبر ناجي، ناظراً إلى شاهد القبر المنقوش عليه اسم صديقه، وانحنى، كأن ثقل السنين كلها سقط فوق كتفيه، ثم همس بكلمات مرتجفة:

ــ تركتك تموت لأنني كنت خائفًا... اخترت نفسي، وخسرتك. لم يكن الحادث قاتلك الوحيد... بل كنت أنا.

 

حين رفع رأسه شعر بخفة غريبة في صدره، كأن قلبه يتنفس أخيرًا، لكنه علم أن هذا الاعتراف ليس كافيًا، وأن هناك قلبًا آخر لا بد أن يسمع الحقيقة، قلب الأم.

 

في المساء، حمل خطواته نحو بيت ناجي القديم، حيث قضى طفولتهما معًا، حيث وقفت والدته يومًا على الشرفة تنتظر عودته، حيث الزمن يبدو متوقفًا بين حجرات المنزل العتيق.

 

ضغط جرس الباب، وانتظر، وكأن الزمن كله قرر التباطؤ حتى يثقل انتظاره، ثم فُتح الباب ببطء، وظهرت السيدة "أم ناجي"، بملامح أنهكها الزمن، لكن عينيها ظلت تحمل نفس النظرة الثاقبة، كأنها نظرة تعرف ولا تبوح.

 

نظرت إليه طويلاً قبل أن تهمس:

ــ محمد؟ مر وقت طويل. لقد انتظرتك!

 

أومأ برأسه، وقال بصوت خافت كمن يختنق:

ــ وقت طويل جدًا. هل تسمحين لي بالدخول؟

 

جلست على أريكتها القديمة، وأشارت له بالجلوس، لكنه ظل واقفًا، كأن الجدران تضيق عليه، ثم بدأ حديثه المتلعثم، يعترف بكل ما كتمه لسنوات، بكل ما أنكره وهرب منه، بكل ما قتله صمته قبل أن تقتله الذاكرة.

 

تنهد، وأخفض نظره للأرض قائلًا:

 

ــ جئت أخبرك بما كان يجب أن تعرفيه منذ سنوات. الحقيقة، التي كنتُ جبانًا عن قولها.

 

رفعت رأسها إليه، وعيناها تلمعان بدموع لم تسقط بعد، صمتت، تمنحه المساحة ليكمل.

 

ــ في تلك الليلة... ليلة الحادث... ناجي لم يمت على الفور. كان لا يزال يتنفس، طلب مني المساعدة، استغاث بي. لكني خفت. خفت أن أبقى، أن أموت معه. تركته... ورحلت. لم يكن حادثاً فقط، كان خيانة. وأنا خنته، خذلته، قتله خوفي وليس فقط الاصطدام.

 

حين أنهى كلماته، مدت يدها المرتجفة وأمسكت يده، وقالت برقة:

ــ محمد... كنت دومًا كابني، وربما قلبي عرف، لكنه لم يشأ أن يصدق. لا أحد يختار شجاعته في لحظة خوف، ولا أحد يستطيع أن يهرب من ذنبه طويلًا، لقد حملته معك سنوات، وأنا سامحتك منذ أن شعرت أنك لم تعد تزورنا، لأن الغياب كان اعترافك الصامت.

الغفران لا يُمنح للضعفاء، بل لمن تجرأ واعترف.

 

خرج من منزلها وهو يشعر بشيء جديد يسري داخله، دفء لم يعرفه منذ سنوات، كأن الكتلة السوداء بدأت أخيرًا تتراجع.

 

وحين عاد إلى غرفته، خلع قميصه، وقف أمام المرآة، ونظر إلى كتفه، كانت النقطة هناك، أصغر، أضعف، لكنها لم تختفِ تمامًا.

 

بقيت هناك، أثر صامت، لا يزول، ولا ينمو، علامة ثابتة على خطيئة لا تموت، لكنها أيضًا لم تعد تملك القوة لابتلاعه. أصبحت جزءًا منه، ندبة فوق جلده، وأعمق في روحه.

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
المتواجدون حالياً

474 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع