الفصل الأول: "رائحة القهوة والأحلام"
---
حارة بركة الفيل كانت بِركة كبيرة ظاهر القاهرة تمتد من بستان الحبانية إلى بستان سيف الإسلام إلى تحت الكبش إلى الجسر الأعظم الفاصل بينها وبين بٍركة قارون ومناظر الكبش مطلة عليها، وأنه لما أنشأ جوهر القائد مدينة القاهرة كانت البٍركة تجاهها خارج باب زويلة فيما بين القاهرة ومصر ولم يكن عليها مبان ثم عَمر الناس حولها بعد سنة 600هـ.
وفي صباح يوم مشمس، كانت الحارة تستيقظ على صوت المؤذن يصدح من مئذنة المسجد الصغير. اختلطت رائحة الخبز الطازج من فرن الحاجة نعمة برائحة القهوة التي يعدّها الحاج عبد الرحيم في مقهاه. كان يجلس خلف المنضدة الخشبية، يراقب المارة بعينين متعبتين، وهو يمسح الكوب النحاسي بقطعة قماش بالية. كل يوم يبدأ هكذا، لكن اليوم كان مختلفًا.دخل سعيد المقهى، وجهه متجهم، وهو يحمل كيسًا صغيرًا من الخشب المصقول. "صباح الخير يا حاج، عندك قهوة تسعد النفس؟" قالها بنبرة فيها شيء من السخرية.
رد الحاج عبد الرحيم بهدوء: " ليه شايل الهم ؟. مالك؟"
جلس سعيد وألقى الكيس على الطاولة: "الأستاذ في الورشة قال إن الزبون ما عجبوش الشغل، وما رح يدفع. يعني أسبوع كامل ضاع."
في تلك اللحظة، مرت فاطمة أمام المقهى، تحمل سلة ملابس مطوية بعناية. رأت ابنها من بعيد، فتوقفت للحظة، لكنها لم تقترب. كانت تعرف أن سعيد لا يحب أن تحدثه أمام الناس. تنهدت ومضت في طريقها، بينما كانت زينب تقف على شرفة بيتها المطل على المقهى، تراقب المشهد بعينين حالمتين. كانت تحب سعيد في صمت، لكنها تعلم أن أباها لن يقبل به عريسًا .
فجأة، قطع صوت عباس الهادئ هدوء المقهى. دخل وهو يغني أغنية شعبية، يحمل بيده سيجارة مشتعلة: "يا حاج، عايز شاي حلو مش زى كل يوم!" لكنه ما إن رأى وجه سعيد حتى صمت، ثم قال: "مالك يا ابن الحلال؟ وشك زي اللي خسر كل حاجة!" رد سعيد بغضب مكتوم: "وإنت مالك يا عباس؟ روح شوف ديونك بدل ما تتفلسف!"
في تلك اللحظة، كان الشيخ مصطفى يمر في الشارع، يلقي نظرة ازدراء على المقهى ومن فيه. توقف للحظة، ثم رفع صوته: "يا ناس، اتقوا الله! روحوا شوفوا شغلكم بدل قعدة القهوة دى" لم يرد أحد، لكن الحاج عبد الرحيم ابتسم ابتسامة خفيفة، وقال في نفسه: "حتى الشيخ عنده همومه، بس بيداريها بالوعظ."كان الجميع يحملون أحلامهم وهمومهم، لكن الحارة كانت كالأم، تحتضنهم جميعًا دون أن تسأل.
مرت لحظات صمت ثقيلة في المقهى، كأن الكلمات التي ألقاها الشيخ مصطفى علقت في الهواء مثل غبار خفيف يرفض الاستقرار. الحاج عبد الرحيم، بطبعه الهادئ، رفع الكوب النحاسي إلى شفتيه، يرتشف القهوة ببطء، وكأنه يحاول أن يستمد منها حكمة ليوم لم يبدأ بعدُ بخير. نظر إلى سعيد، الشاب الذي كان يعرفه منذ أن كان يجري في الحارة حافي القدمين، وقال بنبرة أبوية: "يا سعيد، الدنيا مش كل يوم بتديك، لازم تتعلم تصبر. الزبون اللي ما عجبه شغلك النهاردة، بكرة ييجي واحد تاني يشكر فيك."سعيد لم يرد، بل ظل ينظر إلى الكيس الخشبي أمامه، كأن فيه سرًّا يخفيه عن العالم. كان يشعر بثقل الأيام التي قضاها في الورشة، ينحت ويصقل، وكأن كل ضربة مطرقة كانت تضرب قلبه قبل الخشب. لم يكن غضبه من الزبون وحده، بل من نفسه، من أحلامه التي بدت تتلاشى كدخان السيجارة التي ينفثها عباس الآن في ركن المقهى.عباس، الذي لم يكن يحب الصمت، أشعل سيجارة أخرى وهو يقول: "يا سعيد، الدنيا دي زي الشاي، مرة حلو ومرة مر. خد مني نصيحة، ارمي الهم ورا ضهرك واشرب كوباية شاي معايا." لكن سعيد، الذي كان مزاجه قد أصبح كالسماء حين تلبد بالغيوم، رد بجفاء: "أنا مش ناقص شاي ولا نصايح، يا عباس. خليني في حالي."في تلك الأثناء، كانت زينب لا تزال واقفة على الشرفة، تتأمل سعيد من بعيد. كانت ترى في عينيه شيئًا لا يراه الآخرون، شيئًا يشبه الحلم الذي تحمله هي أيضًا في قلبها. لكنها كانت تعلم أن أباها، الحاج محمود، تاجر القماش الذي يرى في سعيد مجرد صانع فقير لا يليق بابنته، لن يسمح بأن تكون قصتهما سوى حلم عابر. تنهدت وهي تعدل حجابها، ثم عادت إلى داخل البيت حيث كانت أمها تناديها لتساعدها في إعداد الغداء.أما فاطمة، فقد وصلت إلى بيتها الصغير في آخر الحارة. وضعت سلة الملابس جانبًا، وجلست على كرسي خشبي قديم يصدر صريراً مع كل حركة. كانت تفكر في سعيد، ابنها الوحيد الذي ورث عناد أبيه وطموحه الذي لم يجد له طريقًا بعد. تذكرت كيف كان يحلم بأن يصبح أستاذًا كبيرًا في صنعته، لكن الحياة في الحارة لا ترحم الأحلام الكبيرة. أخرجت مصحفًا صغيرًا من جيبها وبدأت تقرأ في صمت، تطلب من الله أن يهدي قلب ابنها ويفتح له باب رزق.في المقهى، كان الحاج عبد الرحيم قد بدأ يعد قهوة جديدة لزبون آخر دخل لتوه، رجل عجوز يدعى عم شحات، كان يعمل في بيع الجرائد القديمة. جلس العجوز وهو يتمتم: "الدنيا بقت غريبة يا حاج، الناس بتشتري الجرايد بس ما بتقراش، وأنا ببيع حاجة ما حدش محتاجها." ابتسم الحاج عبد الرحيم وقال: "كل واحد فينا بيبيع حاجة، يا عم شحات، سواء كانت جرايد أو قهوة أو أحلام."وفي الشارع، مرت عربة صغيرة يجرها حمار، يقودها صبي صغير ينادي على بضاعته من الخضار. اختلط صوته بصوت المؤذن الذي بدأ يرفع أذان الظهر، فتوقف الجميع للحظة، كأن الحارة كلها تأخذ نفسًا عميقًا قبل أن تعود إلى دورتها اليومية. سعيد نهض من مكانه، أمسك كيسه الخشبي، وقال للحاج عبد الرحيم: "أنا ماشي يا حاج، القهوة ما قدرت تسعدني النهاردة." ثم خرج، تاركًا خلفه نظرات زينب من الشرفة، وهمسة عباس: "الشاب ده قلبه تقيل زي الحديد."الحاج عبد الرحيم نظر إلى الباب الذي أغلقه سعيد خلفه، ثم عاد إلى مسح الكوب النحاسي بقطعة القماش البالية. كان يعلم أن الحارة، بكل ما فيها من أحلام وهموم، ستظل كما هي، تحتضن أبناءها وتستمر في الحياة، كما تستمر رائحة القهوة في ملء جو المقهى.