"أشباهنا"
"كان ياما كان المنطق ملوش مكان"
"قاهرة"
عدى اليوم و"طارق" مظهرش وجه الليل...
الأربعة اتجمعوا حواليا في السرير، كنت عارفة هم عايزين إيه وبستمتع بتعذيبهم وانا عاملة عبيطة وبأخر عليهم القصة...
-ها بقى يا تيتا؟
"جوهر" مستحملتش وقالت جملتها دي...
ساعتها قلت:
=أول ما "مريم" دخلت المخاض..
-إيه المخاض ده يا تيتا؟
=يعني الولادة، كانت خلاص هتجيب بيبي والبيبي عايز يخرج من بطنها... أول ما جت تولد المناخ اضطرب، اللي حضروا الولادة أقسموا إنها كل ما كانت تصرخ الرعد يضرب وكل ما تنزل من عنيها دمعة المطر يشتد وكل ما ألمها يزيد البرق ينور السما، كانت معجزة! زي معجزة الولادة نفسها، أصلها كان بقالها 5 سنين متجوزة وكانت فقدت الأمل في إنها تخلف، كل إخواتها وقرايبها وصحباتها عمالين يجيبوا العيل ورا العيل وهي بطنها زي ما هي، كل ما تحسس عليها تلاقيها محلك سر، مش بتنفش!
وتيجي تحمل وهي عندها 20، أصلهم زمان كانوا بيتجوزوا بدري أوي، دي لما اتجوزت وهي 15 كانت متأخرة عن الباقي!
وبرغم التأخير في الخلفة لكن جوزها مرضاش يتجوز عليها، ده كان روحه فيها حتى مع الزن على ودانه من كل من هب ودب إنه يتجوز تاني عشان الخلفة، ده هي نفسها كانت بتترجاه يتجوز عليها، لكن طبعًا من جواها كانت محروقة ومتتمناش ده، أهو من باب تخليص الضمير عشان يكون له ذرية...
...............................
النهار كان طلع و"مريم" سألت برغم تعبها لما العيل خرج أخيرًا:
-ولد ولا بت؟
الداية ردت عليها:
-بت
-الله!
ضحكت ضحكة رجت المكان وساعتها المطر والرعد والبرق قطعوا فجأة ونور الشمس زهزه وظهر قوس قزح غطى القاهرة كلها، عمل جسر ما بين الأرض والسما والناس كلها بقت تطلع من بيوتها تتأمل فيه، الكل ثابت عيونه على الطيف، لا حد بيشتغل ولا حد بيعمل مصالح ولا حد بيكلم التاني...
-هتسميها إيه يا "مريم"؟
بصت ناحية المشربية على قوس قزح اللي ظاهر من خلالها وقالت:
-قاهرة...
"مريم" و" ذكي" كانوا متأكدين إن "قاهرة" هتكون مميزة، لازم! دي ظروف ولادتها العجيبة وكون إنها جت أصلًا بعد 5 سنين انتظار معجزة في حد ذاتها، بس ده محصلش!
"قاهرة" مكنتش فاتنة، جمالها مش رهيب، جمال عادي، متوسط، نقول نغشة، طعمة، بس في الآخر عادية، ومكنتش حادة الذكاء، العادي برضه، لا منها عبقرية ولا منها غبية، ومكنتش لهلوبة في شغل البيت، بتساعد على قد ما يتطلب منها، مش شاطرة ومش خايبة، يمكن ميزتها الوحيدة إنها شالت الأحجار من بوابة الكهف المردوم، من بعدها العقدة اتفكت وأمها جابت 8 عيال بحالهم! ويمكن برضه دمها الخفيف، فكانت مثلًا متعودة تشيل شوال القمح أو أي شوال من صنف جابته على ضهرها وتمشي بيه في السوق، وكل لما تقف عند محل ولا حانوت وتلاقي صف طويل من البشر تصرخ بأعلى حسها "كووووسة" عشان يسمحولها تعدي وتبقى في أول الصف، ده على أساس إن اللي في الشوال كوسة زي كده التجار لما كانوا بيعملوا على باب العاصمة أو في طابور الحجز عشان يتحصل منهم الرسوم ويبيعوا البضاعة، والناس فاهمين طبعًا إن حوار الكوسة ده بتاع التجار فكانوا بيسمحولها تطلع قدام وهم بيضحكوا وراضيين.
وزيها زي كل الكل، خراط البنات عدى عليها، بدأت كده تبقى مدموزيل وأنوثتها تبان وجسمها يفرق عن جسم الولاد، وهي يا ولاد شكلها كان أكبر من سنها، شبت بسرعة وعشان كده أبوها حبسها في البيت وحلف متنزلش منه لحد ما يجيلها عدلها، فضلت كده سنين محبوسة بين أربع حيطان لحد ما جه صاحب النصيب، أول واحد خبط على بابهم وقال يا جواز جوزهاله علطول، مكنش في التدقيق بتاع دلوقتي، اللي عايز يشيل بيشيل، "قاهرة" حتى مشافتش عريسها، مكنش مسموحلها، عيب....
مشافتوش لحد ليلة الفرح، ليلتها طبعًا الستات كانوا بيحتفلوا لوحدهم والرجالة لوحدهم، الستات حواليها والبنات كانوا بيرقصوا وبيزغردوا وبيهيصوا، فرحانين أوي، الوحيدة اللي مكنتش فرحانة هي "قاهرة"، كانت حاسه إنها رايحة المدبح، مش رايحة تشتري، دي رايحة تدِبح، اتاخدت كده على خوانة، أصلها كانت بتحب أهلها أوي، تموت في أبوها وأمها، ومكنتش زي بقية البنات، كل اللي بيحلموا بيه ويتمنوه إنهم يتزفوا لبيت العدل، وكانت مرعوبة، متعرفش إيه شكل ولا صنف الراجل الغريب اللي جي يخطفها من بيتها، هيطلع شرير؟ هيطلع مارد؟ جبار؟ ملوش في حنية أبوها وأمها؟ ومنظره عامل إيه؟
راجل مكحكح، كبير في السن، سنانه بتخبط في بعض، ده لو عنده سنان أصلًا؟ ولا مجرم وشمحطجي وهربان من جريمة قتل، ولا حلنجي ونصاب، وعنده جرح في وشه بالطول من راسه لدقنه...
بس لما دخلت عش الزوجية ومنه على أوضتها لقيته مستنيها، ليلتها القمر كان مدور وواضح ومنور السما، لكن هو طغى على نور القمر بنوره، دول قمرين! الراجل طلع ما شاء الله جمال ووسامة مفيش كده، وفجأة الشتا قلب ربيع والزهور فاقت وزهزهت وقلبها المكسور اتجبر وبقى يرقص، مكنتش متخيلة إنها هتعيش فرحة أكبر من كده، ده كل أيامها معاه كانت هنا، طيب وكريم وحنين، باله طويل ولا عمره يتخلق عليها، دايما كده رايق ومتبسم، لحد ما جت اللي نورت عليهم حياتهم أكتر والفرحة بقت فرحتين، بنتها الأولانية "ليلى"، وقتها "قاهرة" كانت تمت 15، طفلة بتجيب طفلة، بس بمقاييس الزمن ده كان عادي، لا طفلة ولا حاجة، وبدأت "قاهرة" تحس إن نبوءة أمها وأبوها بتتحقق، فاكرينها؟ فاكرين النبوءة؟ إنها هتكون استثنائية، بس مش عشان جمالها ولا ذكائها ولا موهبة عندها، ده عشان نصيبها، جوزها وعيالها اللي بدأوا ب"ليلى" وبقى في كمان "سعد" و"الشيماء" و"عمرو" و"بحر"، بس "قاهرة" مكنتش عندها فكرة باللي مستخبيلها واللي بجد هيخليها مميزة...
البيت ده كان سعيد، سعيد أوي، طول الوقت في مناسبات واحتفالات، سعيد بشكل مريب! محدش كان بيمسك في خناق التاني أو حتى يختلف معاه، محدش بيغير من التاني ولا بيبص على اللي عنده وبيقارن نفسه بيه، الضحك كان بيرج أركان البيت وبيطلع براه كمان، الجيران بيسمعوا ضحكهم، لدرجة إن طلع عليهم اسم "العيلة المنبسطة"...
وتفوت الأيام و"ليلى" تبقى وردة مفتحة وآن الأوان تنقطف، خلاص وصلت سن الجواز، والخُطاب بدأوا ييجولها من الشرق والغرب، بس في حاجة غريبة كانت بتحصل، اللي عينه بالصدفة تيجي على "قاهرة" كان بيبقى فاكرها المقصودة، البت الكبيرة اللي جي يخطبها!
الكل كان بيضحك لما ده يحصل، اتحولت كده لنكتة، بقى كل ما واحد ييجي لليلى ويلمح "قاهرة" يفتكرها العروسة، بس الموضوع مبقاش بس في خُطاب "ليلى" كمان الغُرب، صحيح وش "قاهرة" مكنش بيتكشف كتير لكن لما ده كان بيحصل لأي ضرورة، حتى وسط الستات في الحمامات العامة كانوا بيفكروها شابة متتعداش ال25، لأ ده حتى متوصلش لكده نقول 21، 22 ومبقوش يميزوا البنات من أمهم...
وأخيرًا "ليلى" اتجوزت، أصل "قاهرة" و"عبد المعبود" كانوا غير باقي الأهالي، مش عايزين يجوزوا ولادهم والسلام، لأ، دول كانوا بينقوا، عايزين الأحسن للولاد، ومش فارقة بنت من ولد، مش أول عريس جه لليلى قالوله شيل، دول استنوا واستنوا لحد ما لقوا الشاب المناسب من وجهة نظرهم.
وتفوت مدة والكل لسه في تبات ونبات ومعاهم النفر الزيادة، جوز ليلى، لحد ليلة معينة، قرروا يخرجوا فيها ويزوروا مدفن كان اسمه "ثنا" و"سعاد" في السيدة عيشة، ماهو الليلة دي كانت مغرية أوي، القمر فيها ساطع بشكل عجيب يمكن ينافس سطوع الشمس، والأجواء كانت مبهجة، ده كان المكان المفضل ليهم، و بيحبوا يصلوا هناك ، عند إيوان " نوروز الحافظي" ويتباركوا بالمكان، أهو بقى عادات ملهاش أساس، بس دماغهم كانت على قدهم...
وده اللي حصل، راحو على هناك و"ليلى" وجوزها راحوا وراهم، غطت "قاهرة" نفسها وبناتها كالعادة، والوش غطوه بقماشة شفافة... "قاهرة" سمعت أصوات بنتها وجوزها وعرفت إنهم وراها، لفت لهم وبتلقائية رفعت القماشة الشفافة ورحبت بالراجل وسلمت عليه بحرارة، بس هو كان موقفه مختلف...
فضل سرحان فيها وبعدين قال:
-انتي ايه اللي فيكي يا ست!
هي اتوترت واتخضت من إسلوبه الفج ومبقتش فاهمة يقصد إيه، أما هو فكمل:
-إزاي لساكي ثابتة على حالك والشقوق في وش بنتك اتعدت شقوقك؟!
الفكرة إنه مكنش بيتكلم بنبرة ساخرة ولا كان مبتسم، ده كان جد جدًا، مش محتار بس، مستغرب وشاكك فيها.
فجأة الأجواء اللي كانت كلها بهجة واحتفال اتحولت لضلمة وأجواء مقبضة، لأول مرة جوز "قاهرة" "عبد المعبود" ابتسامته تنكمش وحواجبه تتعقد وملامحه تتبدل وحس بنار قايدة بتجري في جسمه، مزيج من الغيرة والغضب...اتقدم لحد "قاهرة" وجرها...
-طب وايه يخليه يغير، ده جوز بنته اللي قالها كده؟
"جومانا" سألتني بعيون واسعة كلها براءة
جاوبتها:
-عشان الراجل بيفهم الراجل اللي زيه، السؤال مكنش بريء، جوز بنته كان بيتغزل فيها، ده الجزء اللي فهمه وفي جزء تاني مفهموش وهو ده اللي رعبه، الجدية الزايده ونظرته المريبة لقاهرة، غير أنه صاب وتر حقيقي وعجيب جدًا،"قاهرة" فعلًا مكنتش بتكبر يوم، ثبتت بعد ال30 ولا تجعيدة في وشها ولا ف أي مكان من جسمها، عارفه هتقولوا ايه، الراجل المفروض يفرح بحاجة زي دي،بس ف حالة "قاهرة" الوضع بقى متطرف، يعني حتى كل الستات اللي حواليها نفس سنها وأصغر كانوا شكلهم بقى أكبر منها بشكل ملفت والعصر ده الستات كانت بتتجوز بدري جدًا، كانت بتبقى طفلة بمقاييسنا وتلقى نفسها بقت مسؤولة عن بيت وخلفة ورا خلفة وكان شكلهم بيعجز بدري من المسؤوليات والإنهاك الجسدي والمعنوي وتيجي "قاهرة" تبقى شكلها زي البنت اللي لسه ورقها بيتفتح!
ومن وقتها كل حاجة اتبدلت، النهار بقى ليل مبينتهيش، الفرحة بقت كآبة والحب بقى مشاعر مظلمة حادة، حيرة، شك، ريبة، شيء من الكره! والموضوع بقى معدي كمان، الضحك اتطفى من "العيلة المنبسطة" والأحياء اللي حواليهم خلاص مبقوش يسمعوه... في أوقات كتير "قاهرة" لمحت "عبد المعبود" مبلم فيها كإنه بيراقبها، نظراته مريبة، مش مفهومة...
وتفوت سنتين ويفضل الوضع زي ما هو، نفس الجفا والمعاملة القاسية ل"قاهرة" بمختلف أشكالها، نفس الجمود ونفس حال "قاهرة"، زي ما هي، ولا شعرة أبيضت ولا تجعيدة ظهرت ولا شكل جسم اتغير واترهل...
الستات في الطرق اتجنبوها، مشيوا في الزوايا واتهامسوا عليها وبقوا يخطفوا نظرة من جنب عيونهم من وقت للتاني، صاحباتها بعدوا عنها، وجيرانها كمان مبقوش يعبروها، وجوزها حبسها في وقت زيارات العرسان للشيماء وحتى الزيارات من عيلته وعيلتها هي كمان!
وفي يوم "قاهرة" كانت قعدة لوحدها، وهي خدت على كده، كتير كان "عبد المعبود" بياخد الكل ويطلعوا في مشاوير وزيارات ويسيبوها لوحدها، المهم وهي لوحدها الباب خبط، الخبط مكنش عنيف ولا عالي ولا وره بعضه، لكن في إحساس كده جالها، سمعت الخبط وكإنه طبول بتعلن عن حاجة كبيرة، أو عهد جديد...
فتحت الباب ببطء وملحقتش تسأل ولا تستفسر على اللي بيخبط ولا غرضه من الزيارة، سمعت اللي بتقول:
-بنتك بتولد!
دي كانت الست الوحيدة من المنطقة اللي فضلت على اتصال ب"قاهرة" وكانت بتسأل عليها من وقت للتاني في المستخبي وتشوف لو محتاجة حاجة، وكانت برضه على علاقة قوية بعيلة جوز "ليلى"...
"قاهرة" استغلت أن الكل غايب عن البيت وراحت لبنتها "ليلى" عشان تقف معاها في الشدة دي...
فضلت ماشية ورا "زنوبة" صحبتها وهي مغطية نفسها، متلفحة بالإسود، مفيش غير جزء صغير من عنيها اللي باين عشان محدش يتعرف عليها، مفتحتش بوقها لما دخلت بيت بنتها، "زنوبة" قالت لأهل البيت إنها الداية وفي داية تانية جيه وراها يولدوا البت...
"قاهرة" دخلت على "ليلى" في لهفة، لقتها بتفرفر، بتصرخ من الألم، وشها العرق بينزل منه خطوط وبقى لونه أزرق وشاحب، الصرخات كانت أقوى من العادي في الولادة، كل الستات بتصرخ، بس الصرخات دي مختلفة، كمان منظرها، واضح جدًا إن كان عندها مشكلة...
"قاهرة" كشفت عن وشها لما قربت من "ليلى"، وبقت محنية عليها، وشهم في وش بعض، "ليلى" برغم ألمها وما بين صرخاتها قالت:
-بتعملي إيه هنا؟ إهربي، إهربي يا مه!
-مش هروح في حته، أنا هنا لحد ما أولدك وأتطمن عليكي.
-انتي مش فاهمة، ناوينلك على نية، هيمسكوكي، وبعلم والدي وإخواتي والحي وأحياء القاهرة كلها!
-يمسكوني ليه ؟!
-بيقولوا أنك ساحرة، بتمارسي الدجل والشعوذة أو بنت الشيطان أو عملتي معاه عهد....
"قاهرة" عنيها وسعت ولسانها اتعقد، "ساحرة؟" "بتمارس السحر و والشعوذة، "بنت الشيطان"؟!
بعد ما عقدة لسانها اتفكت سألتها:
-هما مين دول اللي بيقولوا؟
-كل البلد، كل الناس، القاهرة كلها!
-ويعني ايه هيمسكوني، هيعملوا فيا ايه؟
-مفيش وقت بقولك اهربي!
"قاهرة" سرحت، بتحاول تهضم اللي بنتها قالته، وبعدين جالها خاطر، ليه محدش من ولادها قالولها إنها في خطر قبل كده، إن في مصيدة بتتدبر ليها؟ خاطر مرعب ملوش غير معنى واحد وده عبرت بيه لما سألت "ليلى":
-هو أنتي وباقي الولاد مصدقين الكلام ده؟
"ليلى" اشتد صراخها مع ألم المخاض ومسكت في "قاهرة" وقالت:
-بقولك اهربي يا "قاهرة"، إهربييي!
وهنا "قاهرة" بجد خافت، كانت بتتقطع، ما بين نارين، رعبها على بنتها وعلى نفسها، والرعبين بيودوا مسارات مختلفة، رعبها على بنتها هيخليها تقعد جنبها لحد ما تطمن عليها، ورعبها على نفسها هيخليها تجري وبأقصى سرعة ومتبصش وراها، وفي الآخر ومع إصرار "ليلى" رعبها على نفسها هو اللي كسب، غطت وشها وانسحبت جري من الأوضة ومن البيت كله...
جريت من غير وعي وسط شوارع القاهرة زي ما يكون حد بيلاحقها، لحد ما وصلت لشوارع ووشوش مجهولة ليها، وبعد فترة كبيرة الجري اتحول لمشي سريع، بقت هايمة، تايهة، متخبطة ما بين الحواري والأركان، وساعتها بس افتكرت إن بنتها كانت في حالة وحشة، الرجفة في جسمها ولون وشها مش طبيعيين وبقت تدعي من قلبها وهي بتبكي ربنا ينجيها، لكن كان في إحساس طاغي عندها وهو إنها مش هتعرف أخبار بنتها ولا ولادها التانيين وإنها مش هتشوفهم تاني، ده الوداع، مش هم بس، أي حد كانت تعرفه قبل كده...
سيطرت عليها الهواجس، مكنتش عنيها بتغفل في مكان واحد أكتر من ليلة، لازم تتنقل باستمرار، فضلت هايمة تتحرك من مكان لمكان، لحد ما اللهجة اتغيرت والأزياء اتغيرت وبدأت تشوف عادات وتصرفات مختلفة عن اللي اتعودت عليها وكانوا فاكرينها مشردة، عديمة الأهل، ومن وقت للتاني الناس اللي بتمر كانوا بيحنوا عليها ويدوها فلوس أو أكل، وفضلت تمشي، لحد ما بقت بعيدة، بعيدة أوي، وصلت صحرا كبيرة، رمالها دهب، ناعمة، ،مفيهاش غير الرملة، الصحرا كانت غربة والوشوش اللي سكنتها غربة أكبر، هي كده بعدت كتير عن الوطن، اتأكدت من ده، خلاص "قاهرة" مبقتش في مصر، وجنب الوشوش السمرة الطيبة اللي فيها برضه شيء من الحدة في الصحرا لقت وشوش تانية مختلفة، فرسان على أحصنة بوشوش بيضة ناصعة متشربة بالأحمر بسبب الشمس، اللي واضح إنها مأثرة فيهم أكتر من التانيين أصحاب البشرة السمرة، "فرنجة"! دول جماعة غرب مش بينتموا للمكان ده، هو ده اللي وصلتله، جماعة كده زي الهجامة، جايين على وطن مش بتاعهم عشان يستفيدوا منه بأي طريقة...
واحد من سكان الصحرا قرب على "قاهرة" وسألها هي مين بلهجتهم الغريبة بس اللهجة كانت برضه مفهومة بالنسبة لها، مردتش عليه، مكنتش عارفة ترد تقول إيه، سألها إذا كانت تايهة مردتش، فأنطلق هو وفضل يحكي عن مأساة أرضه والجماعة الأسبان اللي محتلينها تحت حكم آل هابسبورج اللي جم زي البلا الأزرق عليهم من سنة 1510 وفضلوا قاعدين لحد ما سلموا الحكم للأدميرال العثماني سنان باشا من قرب السنة، يعني سنة 1551 وأنه إزاي عشمان في الراجل المؤمن ده أنه يحكم بالعدل. اللي كان بيتكلم مع "قاهرة" واضح أنه ما صدق يلاقي حد يتكلم معاه ويفضفض وكون إنها غريبة عنه ده شجعه أكتر ومن كلامه فهمت هي وصلت فين، دي كانت ليبيا! وده عشان الناس في مصر كانوا بيتكلموا عن احتلال الأسبان لليبيا تحت حكم إمبراطوريتهم وإزاي اتسلمت بعد كده للعثمانيين، وهنا جتلها فكرة، تفضل كده متتكلمش! أحسن طريقة عشان تقدر تتعايش في البيئة الجديدة هي إنها تعمل إنها خرسة، متقدرش تتكلم عشان أمرها ميتفضحش....
وفعلًا "قاهرة" نجحت تقنع أهل البلد إنها مش بتتكلم ولا بتسمع، يدوبك بتقرا الشفايف، وفي قبيلة من القبايل اتبنتها وشغلتها عندهم تخدمهم وتشوف مصالحهم. برغم الظروف القاسية والبيئة المختلفة إلا إن الخير كان كتير، الحيوانات واللبن والزبدة وخير الطبيعة، ده غير الكرم الشديد والحنية في العيلة اللي اتبنتها، اشتغلت بعزم ما فيها، كانت بتشقى عشان تحس إنها تستحق المعاملة الطيبة من الناس دي والأكل والسكن اللي موفرينه ليها....
وتفوت عشرين سنة كاملين، والحال على ما هي عليه، "قاهرة" مش بتفارق القبيلة الليبية، خاصة العيلة اللي اتبنتها، بقوا عيلتها، اتعودت عليهم وحبتهم، بس في نفس الوقت منستش عيلتها الأصلية، منستش جوزها ولا ولادها "ليلى"و "عمرو" و"سعد" و"الشيماء" و"بحر"، ولا نسيت ملامحهم، أدق ملامحهم، لكن هتعمل إيه، كانت راضية باللي ربنا كتبهولها، مش بتشتكي، لحد اليوم ده...