فِي المَقهَى، وفِي كُرسِيٍّ ملَّ من جُلوسِ البَشر المُتكرِّرِ علَيه وأحَاديثهم المُستَهلكَةِ التَّافهَة، أجلِسُ وحِيدًا أشَاهدُ الشَّارع المُقابِل وقَد شكَّلَتِ الأمطَارُ فيهِ بِركًا منَ المَاء، تتَقَافزُ مِن حَولهَا أجسَادٌ آدمِيَّة مُسرعَة تُحاولُ أن تَتفَادَى البَلَل.
كنتُ مُنحشِرًا بجَسدِي النَّحِيلِ داخِل مِعطفِي الأسودِ الدَّافِئ، كقُنفُدٍ صغِير يَحتمِي بشَوكِه، علَى الطَّاولَة أمَامِي وضَعتُ مفَاتيحًا أصابهَا الصَّدَأ وجَريدَة إخبَاريَّة أختَلسُ إليهَا النَّظَر بَينَ الفينَة والفينَة.
يَأتِي النَّادلُ بخُطوَاتهِ المُفعمةِ بالحَيويَّة وابتِسامتهِ المُعتَادةِ، يَتقدَّم نحوِي بانحِنَائَةٍ لطِيفَةٍ قَائلاً : "الجَوُّ بَاردٌ هَذا الصَّبَاح"، بتَنهيدَةٍ مُرهقَة حرَّكتُ رأسِي بالإيجَاب، استَطردَ : " كالعَادةِ يَا أستَاذ؟"، شَردتُ قَليلاً؛ لمَاذَا نعَتنِي بالأستَاذ؟! هَل لأنِّي ألبَسُ معطَفًا أسودًا وأقرَأ جَريدَةً لا أحِبُّ مواضِيعهَا التَّافهَةِ أصلاً؟!
لا يَهُم، أجَبتُهُ بابتِسامَةٍ مُزيَّفَة "أجَل".
أخرَجتُ من جَيبِي مُفكِّرَةً صغِيرَة وقَلمُ حِبرٍ أزرَق، أحَاولُ كِتَابةَ شَيءٍ بمُنَاسبةِ هُطُولِ المَطر هَذَا الصَّبَاح، مَذَا أكتُب؟ هَل أكتُبُ قَصيدَةً تتغَزَّلُ بحَسنَاءٍ تَجرِي بسِيقَانِهَا العَاريَتينِ تحتَ حُبيبَاتِ المَطر، أَم نصًّا سَردِيًّا أجعَلُ فيهِ مِن شَخصِي بطَلاً يتَنَازلُ برُومَنسيَّةٍ عَن معطَفهِ الأسوَدِ ليُغطِّي جَسدَ الحَسنَاءِ المُبلَّل؟
جَاء النَّادلُ بكأسِ قَهوةٍ أنِيقٍ معَ قِطعتَي سُكَّر، بعدَ رَشفَتينِ وهُدوءِ دقِيقَتَين بَدأتُ أخُطُّ علَى صفَحاتِ المُفكِّرِة بعضَ الحُروفِ، وأجمَعُ بعضَ السُّطُورِ هُنَا وهُنَاك، اكتَملتِ القَصيدَةُ باكتِمَالِ القَهوَة، تغزَّلتُ بالحَسنَاءِ و وصَفتُ الشَّارعَ والسَّمَاءَ والمَطَر. عَادتِ الشَّمسُ تُسدلُ خيُوطهَا فتَعكسَ ألوَانَ قوسِ قُزحٍ فِي سَمَاءِ الشَّارعِ الكَئيبَة، أغلَقتُ المُفكِّرَة وأعَدتُهَا لدِفئِ الجَيب، جعَلتُ الجَريدَةَ المُملَّةَ تحتَ إبطِي، إنكَمشتُ دَاخِل مِعطَفِي الأسوَدِ الدَّافِئ وهَممتُ بالرَّحيلِ إلَى مكَانٍ خَالٍ منَ الأَلوَان وبقَايَا المَطَر.