أعلنوا العصيان على الحياة، وتبرءوا من كل ما يربطهم برباط البشر، فضلوا البقاء على أعتاب بيوت الله -فضلًا عن دورٍ-فتحت على مرأى ،ومسمع أعدت خصيصًا لهم..لكنها لم تكن أبدًا
عوضًا عما لاقوه لفقدانهم الشديد لحاجات ..هم من ولوا قبلتهم عنها ،حينما اختلت خطاهم على أرضٍ لم تسع أمثالهم فبطشت بصواب عقولهم عرض حائط التيه !!
ناهيك عن كل ذلك، انظر لمصيرهم المنتظر بعد خروجهم من تلك الدور ؛ربما كان بقاؤهم في الشوارع وتحقيرهم بين المارة ،أهون عليهم بكثير من بصمة طبعت على جباههم، أنهم كانوا يومًا نزلاء لتلك الدور.
يشيع بين الناس أن كل من لا يملك ،ظهرًا قويًا يستند عليه وقت الشدة..فمن حق الجميع أن يضربوه من أي جهة شاءُوا .
قانون عقيم نحن من وضعنا نصوصه منزوعة الرحمة، لنطبقه بكل حذافيره على أولئك أصحاب الملامح البائسة، اليائسة، التي سحقها المجتمع في القاع شريدة، معدومة الهوية، تحتضنهم صلابة صناديق النفايات التي تعتبر في المقام الأول هي المآوى الآمن لأجسادهم، وبطونهم، ومن الأرصفة المتحجرة وسادة يلقوا عليها ثقل أغلال عقولهم.وذاك هما الحصنان الأمنان، الذي وجدوا فيهما ما لم يوجد بقلوب ذويهم وأهلهم..وربما هم من تعنتوا بالرفض لأيادٍ مدت إليهم حتى لا يطَّلع أحد على جانبهم المظلم الذي ذهب بميزان عقولهم مذهب.. لا رجعة منه ،فظل ينتزع منهم يومًا بعد يوم من كفة الرجاحة ،والثبات ،والإدراك، والفهم، والتفكير، إلى أخر كل تلك المسميات العقلانية..ليطيح بهم في كفة القهر النفسي بشتى أساليبه، والنقيصة النفسية، والقلق،والخزي، ونظرات الشك التي تمتلكهم لكل من يقترب منهم، وردات أفعالهم المفاجئة..التي هي أبشع ما يمكن أن تراه، أو تسمعه !!
تراهم يستغيثون بصراخات مدوية تلف كل الأرجاء، تعلن عن وجود أشخاص حقيقيون مختبئين..بسراديب عقولهم ينادونهم بصرخات تنزع القلب من مكانه، تحمل آنينًا يتفقد شيئًا ما ،ينغمس فيه عتاب مسهب!!..
لا ندري إن كانوا ينادوا المجهول..الذي لا وجود له إلا في عقولهم !
أم ينادون، حقيقة مؤكدة هي من هوت بعقولهم في لجة ذاك الظلام الجامح !!
المتسولون كثر ؛ يتكاتفون مع بعضهم البعض ..كشبكة عنكبوتية، يتقاضون حقوقهم منا وكأننا مدينون لهم بما يأخذونه عنوةً..دون
خجل ،أو حفظ ماء الوجه، أو استسلام منهم عند رفضنا إعطاءهم
ما يطلبون اياه.
اإلا هؤلاء...فبالرغم من وضعهم هذا الذي يشهد على أنهم هم أولى
الناس بأن يتسولوا بالشوارع ، ومن دواعي حقوقهم ، أن يمدوا أيديهم لصفوف العابرين..إلا أنهم لم يفعلوا تلك الفعلة،ولم يتخذوا من التسول وسيلة لإرضاء خواء بطونهم،أو ملء جيوبهم .
كل ما في الأمر أنهم اكتفوا بركنٍ بعيد عن العالمين، مخافة أن يعترض أحد.. كهوف خلوتهم ،او يتخطى حدوده معهم ،ومن فرط خوفهم لمواجهتنا، وصل بهم الحال للضرب، والسب لكل من يقترب منهم..فذاك في حد ذاته ليس نقيصة عقل، ولا تعدي منهم على حفوق الأخرين، بل إنما هي نقيصة أخلاق لكل من سولت له نفسه أن يتخطى حدوده معهم.
خاطبوهم بلغة افشاء السلام بين القلوب، لأنهم لا يفقهوا لغة إفشاء الكلام..
مطالبهم تشبه مطالب الأطفال،سماتهم بريئة من أي كذب، أو خداع، فكل ما تحويه قلوبهم..يجري على ألسنتهم دون أن يكترثوا لهيبة،أو يطصنعوا ما ليس فيهم..
تستطيع أن تقول، أنك أمام صورة حية ،تحمل كل معاني الإنسانية التي نفتقدها إلا من رحم ربي ، لكنها وللأسف منقوشة على بقايا إنسان .. !!
يقول عباس محمود العقاد:"وأُس الدواء كله أن تبقى النفس بقية محترمة عند صاحبها، ولا ريب أن العراك النفساني دليل صحيح على هذه البقية، لأنه دليل على قوتين تتصارعان بين الكرامة والمهانة،وبين الرغبة في الخلاص والخوف من السقوط".