آخر الموثقات

  • سألت الليالي
  • بيني وقلبي عَهدٌ ومِيثاق
  • عايشت ُ وجهك..
  • علوم الطب التجديدي
  • حوار مع زعفرانة ٨
  • لن نسمح للتاريخ بتكرار نفسه
  • تجربة النشر الأولى
  • صبر الأنتظار..
  • ميل هواك ِ ..
  • حوار مع زعفرانة "7"
  • تجاعيد على حجر من ذهب
  • رسالتك الأخيرة 
  • قريه السعداء 
  •  عايزه أقولكم سر
  • ستجبرون -2
  • اللا عشق
  • و مشت تتغنج
  • طفلة 
  • خيال
  • أي الألوان أسلك
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة سلوى بدران
  5. وطن آخر

 رفع رأسه صوب السماء، كانت السحب الرمادية تتجمع، وتتلاقى ببطء؛ لتكوِّن أشكالًا أسطورية عملاقة، بينما كان للأفق لونُ الحناء المضيء .ألقَى على ساعته نظرةً سريعةً، وهو يتفقد جدول المواعيد الخاصة بالمترو الأرضي( ١٦) بمحطة فرانكفورت الرئيسة. كان المدى أمام عينيه يتسع في كل الاتجاهات. تتعلق عيناه بمبنى محطة القطارات، الذي يقف شامخًا أمامه، بزخارفه ونقوشه الفخمة، والقوس الضخم الذي يعلو المبنى ببهائه، تتوسطه الساعة التي لا تتوقف عن الدوران مطلقًا، منذ أزمنة كثيرة، وكل أجناس البشر وألوانهم التي خلقها الله من كل قارات الدنيا. يقبلون نحوه، ويغادرون بهمة، وكأنَّما يحسبون العمر بدقائق الساعة التي تعلوه، و تهرول معهم. تختلط أزياؤهم الأوروبية بالهندية، والأفريقية مختلفة الأشكال والألوان؛ بعضُها لها ألوان الخضرة،والشمس المبهجة، ولون السماء حين تجود وتصفو . وكأنما هم سفراء لبلادهم، جاءوا ليلتقوا جميعًا، تحت سقف تلك البلد، واختاروا أن تكون لهم هنا حياة أخرى، وأن يتنفسوا نفس الهواء معًا. ألقى بجسده للمقعد الوحيد الخالي على طرف المقاعد على استحياء. انتفض واقفًا، ويداه تسدان فتحتي أنفه بإحكام اتقاءً للرائحة الكريهة، التي تكالبت عليهما، وهو يتفقد مصدر الصراخ المفاجئ، الذي اخترق أذنيه، وجعله مرمى لسهام عيون البشر التي اصطادته من كل الجهات. كان المخلوق الذي هبَّ فجأةً في وجهه، له ملامح أوروبية دقيقة، غطتها أصابع مختلطة للشمس، والغبار، والمطر، بطبقات متساوية. يرتدي أسمالًا بالية، ويهذي بكلمات غير مفهومة. تتحرك يداه، وجسده حركات لا إرادية، وعيناه الحمراوان تطلقان نظرات خنجرية لوجهه. يوزع نظراته المهزوزة على ملامح وجهه وجسده، ويتجاوزهما،و كأنَّما يسبُّ شخصًا آخر من خلفه، وكأنَّما يسبُّ العالم كله الذي لفظه، وتجاوزه في وجهه هو. لم يكن يفهم بعد ما الذي أهاج ذلك المخلوق الذي يراه أحيانًا، وأشباهه عند نواصي المحطات الرئيسة، ووسط المدينة متكومين على يأسهم. يستوطنون رصيف الشوارع ليل نهار، وكأنَّما أصبحوا جزءًا منه . يحتضنون قطةً أو كلبًا، وكأنَّما هما كل ما يمتلكون في الحياة من عزوة. يبدوان مثلهم تمامًا، أشعثين أغبرين ساكنين سكون العاصفة. تتعلق عيونهم بالطبق الصغير الذي وضعوه أمامهم؛ حتى يمتلئ بالعملات الصغيرة، التي يتخلص منها بعض المارين من أمامهم، دون أن يلتفتوا إليهم. لم يكن عقله يستوعب ذلك المشهد في بلد كألمانيا، حينما أتى إليها غضًا منذ وقت مضى، لكنه مع الوقت فهم أنَّ دورة الحياة السريعة في بلد كهذا، تلفظ من لايحسنون الدوران مع الطفرة الحضارية للأبد من مداراتها. لم يلحظ هو أنَّه حين أسقط جسده على المقعد، وجود ذلك الكائن نائمًا متكومًا إلى جانبه على أرض الرصيف. فهم الموقف فقط، حين رأيى بقايا زجاجة البيرة التي ابتاعها بحصيلة العملات التي أنفق النهار من أجلها، مختلطة بتراب الرصيف تحت قدميه، ففهم أن قدميه قد أزاحتها دون أن يشعر، وهو يجلس على الكرسي؛ فانسكبت ليبتلعها تراب الشارع. زفر ضيقه في تنهيدة طويلة، حين حاول أن يوضح له الموقف، ولما لم يستطع أن يرتب عدة كلمات مفهومة بالألمانية، طوى ضيقه وعجزه داخله، واستدار بسرعة ليتخلص من المشهد كله؛ لينتظم في طابور البشر الواقفين على يمين باب المترو، الذي أتى في تلك اللحظة؛حتى يتسني للخارجين منه حرية الخروج في أمان من ناحية اليسار .أمسك بالحلقة المعدنية المعلقة بسقف المترو، حين لم يجد مكانًا للجلوس. ظل واقفًا تتعلق عيناه بمشاهد الشارع ولافتات المحلات، وهي تترى، وتبتعد عن مرمى بصره. يدغدغ ملامح وجهه الهواء الذي يسابق المترو في الطيران، فيندفع من شبابيكه لداخله، بلا استئذان، يشم فيه رائحة ربيع قادم، وزهور تتفتح، ويرى أغصان أشجار الشارع تتنفس من جديد، وتغزوها الخضرة اليانعة. يتمنى لو ينسى كل شيء للحظة؛أوجاعه، وانقباض قلبه، وكل ما قالته له أمه اليوم على التليفون، وكأنه لم يكن، أو كأنما لايريد أن يسمعه، أو يصدقه. يرى فقط ملامح وجهها الخمري، وشعرهاالأسود المارق المتحلق حول وجهها البدري، وكأنَّه أمامه الآن، حين كان يحركه هواء الربيع، وهما يتنزهان، وصوت مياه النيل حين يشقه قارب صغير يتناهى إلى أذنيهما، وأصابعهما تتلامس، وقلوبهما تشتعل بالحب، وتحلق في السماء تسابق العصافير، وهما يحلمان بعش صغير. يتلو عليها آخر قصائده الغزلية؛ فتحلم عيناها، وتنتشي، وكأنما هي "عبلة "التي لأجلها تبذل قصائد العشق، وتلف الديار .وكأنه هو "عنتر" العصري الذي ارتحل، وترك الديار، والأهل؛ ليحقق لها كل الأمنيات. يتذكر يوم سفره منذ أكثر من سنة، كأنَّه أمس، مشهد أمه وأبيه وإخوته، وهم يعانقونه ببكائهم الحار .نظراتها إليه، وهي واقفة متحلقة ببعض أهلها، أطلت منها فرحةٌ فضحتها رغم غلالة الدموع التي غطتها .فسرها وقتها بفرحة الإمساك بأول خيوط الأحلام .طالما حدثته عن أقارب لها سافروا منذ زمن، وعادوا يرفلون في النعم، ويبتاعون البيوت الواسعة. تمنت وقتها لو أنه سافر لبعض الوقت. قالت إنَّها ستنتظره حتى يعود؛ ليحقق لها حلم بناء عش يجمعهما معًا .ستزور الأماكن التي شهدت حبهما وحدها، لتتذكره .ستعد الأيام، والشهور حتى يعود، وحين تشتاق إليه ستعيد قراءة أشعاره التي كتبها لأجلها. ستحفظها عن ظهر قلب. يرسل لها بالخطابات. ينزف وجع الغربة بين يديها وحدها. يزرف الأشعار، ومشاعر الفقد، والحنين، ويرسلها لها وحدها. منذ أن أحبها أصبح قلبها وطنه الذي يرتمي بين يديه، يرتاح فيه حين تقسو عليه الحياة، وتلهبه بسوطها. فلماذا تختارين لي الغربة الأبدية؟ باغتته نسمة الهواء الطازجة حين نزل من المترو. أفاقته، واقشعرت لها مسام جلده .كانت المحلات التجارية تستعد للانغلاق بعد يوم عمل طويل، وأصابع الليل امتدت؛ لتشمل كل مكان على الأرض. يسرع الخطى نحو ميدان(جوته)حيث عدة ساعات عمل تنتظره هناك في (مكادونالدز) بعد أسابيع من بطالة فرضت عليه. يسمع حفيف الأشجار، وهمهمات طيور تستعد للمبيت. يُقبِل وجهها من بعيد نحوه، ثم يبتعد. يشعر بقلبه ينقبض، ويمسك دموعه قبل أن تسقط، ويفهم معنى كلماتها في آخر الخطابات. يمسح دمعة غالبته، وينفضها للأرض، وكأنما ينفض معها كل مشاعره لها. يتذكر كلمات أمه اليوم على التليفون، يخلع دبلتها من يمينه حين شعر بها تخنق أصبعه لأول مرة، يلقيها لظلام جيب بنطاله، وهو يتخيل ملامحها التي طالما انبسطت لرؤيته، تغزوها الفرحة وهي تتمايل وترقص يوم عرسها على صدر عريسها، الذي جاء من بلاد الخليج على عجل ليبتاع حلمه الذي لم يعد له. كاد أن يرتطم وجهه بالحائط، وهو يدخل لمكان عمله. لم يلتفت لتكدس الناس على الكاسات، ولم يشعر برائحة الدفء التي باغتته، وصوت الهمهمات واللغات المختلطة، ينزل لمكان تغيير الملابس، وكأنما هو ترس في ماكينة. يصعد للمطبخ، يلقي تحية المساء على زملائه، وينهمك أمام "الجريل" في شواء الهامبورجر كما علموه. يوصد الباب على وجهها، قبل أن يأتيه كما كل يوم. تتعلق عيناه بالنافذة. يرى المطر من خلفها صادمًا وغزيرًا يصفع وجه الأرض. يتضاحك مع زميلته البولندية ذات الشعر الأحمر، والوجه الذي يعارك الزمن. يقرأ في عينيها الفرح؛ لتجاوبه معها بعد محاولات فاشلة. يبتسم حين تنعته بالعربي الحزين حين تلاحظ شروده الدائم، وهي تهمس له:

- قل لي أين أنت أيها العربي الحزين؛ كي أتبعك.

وقبل أن يترك العمل. كان يلقي بالورقة التي كتبت له بها عنوان بيتها، ورقم تليفونها بحرص لجيب بنطاله، بعد أن دعته لزيارتها يوم إجازتهما. ترشق نظرات ماجنة لعينيه قبل أن يمشي. تضحك، وهي تمنيه أن تزيح عن قلبه الحزن، يرى لون عينيها الأزرق لأول مرة، وهو يختار أن يعيش في مدار حياته الجديدة.

 

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
المتواجدون حالياً

679 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع