كلما سار من أمامك، وأنت في محل عملك، يُسلِّم عليك ويبتسم لك، بل وأحيانًا يرمي على مسمعيك كلمة دُعابية تُطرب قلبك وتُنْزِل الدمعَ من عينيك من فرط ما أضحكتك.
هذا هو حال الرجل معك كل يوم.
وفجأة، أصبح يتجاهلك، فإذا كنتَ برفقة أحد، وجَّه السلام إليه دونك، وإذا كنتَ بمفردك لا يلتفت إليك، وكأنه لا يراك، لا يبدو عليه كرهٌ لك أو نفورٌ منك، فقط تجاهلٌ غير مبرَّر، فتتعجب، لِمَ هذا التغيُّر المفاجئ؟! وتحاول - بكل ما أوتيت من قوة تفكيريَّة - الرجوع إلى الوراء وكَرِّ شريط ذاكرتك خوفًا من أن تكون قد تسبَّبت له في شيء من ضررٍ مثلًا، أو وجَّهت إليه كلمة جرحته، فلا تجد.
وآخَرْ علاقتك به قوية، بينكما كل تقدير واحترام، يحرص عليكَ وتحرص عليه، بل ويفتخر بمعرفتك أمام الناس في كل مكانٍ يجمعكما، ثم يأتيك منه اتصال هاتفي، ويطلب منك مبلغًا من المال هو في حاجةٍ إليه لمدة أسبوع، وتعطيه على الفور؛ فهو الخلوق المحترم معك، وصاحب المواقف النبيلة، ثم ينقطع التواصل من طرفه بلا مقدمات، والأسبوع صار شهرًا، فسنة، وأنت في أشد الحرج منه، ولم تطالبه طيلة هذه الفترة بالدَّين المستحق عليه، كيف تطالب شخصًا شديد الأدب، وراقيًا في كل تعاملاته؟! ثم تبدأ في الاتصال به وإرسال الرسائل إليه، فلا يرد، ثم تسأل عنه المقربين منه لعلَّه في أزمة أو مشكلة ما قد تعرَّض إليها، وكل إجاباتهم تأتيك بأنه لا بأس به وأموره على ما يرام، ماديًّا وأسريًّا؛ فتصيبك الدهشة وتعتصر رأسك عصرًا والحيرة تدفعك إلى خلق أعذار تلتمسها له، فلربما حدث شيء جعله ينصرف عنك.. وتأتيك الإجابة: لا.
وزميلٌ لك في العمل لا تدخر جهدًا في دفعه إلى الأمام حتى يتبوأ مقعدًا مميزًا في وظيفته وأنت فرِحٌ له وسعيدٌ بتقدمه، وهو في المقابل يبادلك حبًّا بحب وكرمًا بكرم، حتى يأتي في مخيلتك أن العلاقة بينكما لن تنتهي، بل ستتوطد أكثر فأكثر، وإذا بحالة من الكره تراها في ملامحه تجاهك، أوصله ذلك إلى تدبير المكائد لك وتشويه صورتك ومحاربتك في موقعك دون سابق إنذار.
ما الذي حدث؟
هل أسأت إليه؟
لا.
هل تجاوزت معه؟
لا.
هل... وهل... وهل؟!
أسئلة كثيرة تسألها نفسك ولا تعطيك إجابة شافية.
تقترب؛ فيبتعد..
تحاول؛ فيراوغ، ولسان حاله يقول: انسَ ما بيننا.
عجبًا لأمر البشر!
هل فهمتَ شيئًا، أم لم تفهم مثلي؟!