غريب...
وحيد، به من التعاسة ما أرهق روحه، متنقل يحيا على الترحال، يحلق في سماء الغربة، تركله الرياح لأماكن لا يعرفها، يُسلِّم للأمر ويأخذ من أغصان باردة سكنًا له. في البداية، يتابع بترقُّبٍ ويتوجَّس، يعشش، تجذبه المودَّة، يطمئن للدفء، يبهره الاهتمام، يبتسم، يتعود... وفجأة، لا شيء...
يلتفت، فيبحث، فلا يجد؛ يبتعد، يريد أن يفهم، يتساءل، لكن قلبه يأبى السؤال، فيغلق بابه ولا يقبل العودة. يرحل ويُسلِّم للرياح مرة أخرى، فتركله كعادتها لأماكن لا يعرفها. يتكرر المشهد، يخاف، يشعر بالغربة... إلى أن يجد بغصنٍ ما لم يجده من قبل، يظنه بيتًا، مرفأً لسفينة المسافر. يفرح، يشعر وكأنه لأول مرة يُرى، يلتجئ، يصارح، يطمئن، يعشش كما لم يفعل من قبل، يظن... وكم خاب الظن...
وفجأة، تهب الرياح. يخاف، يرتجف قلبه، فيبحث ولا يجد. تدور عينه بالمكان، يجاهد ألا يبكي، وفي ذعره يسمع همسًا: "مجنون! هل صدقت؟ إذًا فلتتحمل نتيجة تهورك."
وهنا يدرك... لم يكن مرفأً، كان آخر جزءٍ بالصورة لتكتمل: "صورة غريب، بعيد عن راحلون متشابهون."
لن يُحلِّق هذه المرة، سيبقى بمكانه كما تُرِك. الحقيقة أنه تُرِك، وستعاود الرياح لعبتها القذرة، لكنه ولأول مرة سينتصر. سيقول: "لا، لن توجهيني... سأبقى بمكاني هذا إن كان لي مكان."
المضحك أن قراره الأول ليس بإرادته... أصبح مرغمًا.
كيف للطير أن يُحلِّق بدون أجنحته؟
لقد كسر الغصن الأخير جناحيه...
وبقى عاجزًا، لم يعد له رغبة ليرفرف. تنحَّى لمكانٍ بعيد، لا تعرفه الرياح، وليس به أشجارٌ تجذبه أغصانها.
ألقى نظرته الأخيرة لمكانه، تصور أنه سيجده خاليًا، وتكون مواساته الأخيرة أن مكانه خاليًا وسيترك فراغًا. وإذا به يرى الصورة مكتملة بدونه... إذًا أين عشه؟ أين الرياح؟
إن كانت الأغصان مكتملة بسكانها، فهل كان سرابًا؟
غريب يحيا على الترحال، لم يلحظ وجوده أحد، ولم يفتقده أحد!