صاحت الطفلة"نورا"؛ وركضت كالمجنونة فى كل أرجاء المنزل؛ تصيح بأعلى صوتها ..أريد الموت..أريد أن أموت؛
ما بال تلك الطفلة الصغيرة بنت الثانية عشر..ماذا دهاها؟؟
إنتبه الجميع متعجبين لما يحدث..هل تلك هى نورا الطفلة الذكية الشجاعة التى لفتت الأنظار منذ نعومةأظفارها؟!واستشعر الجميع أن مايحدث لها؛ سببه وفاة والدتها فى حادث أليم أمام عينيها؛ مما ترك فى نفسها الفتية أثرا بالغ السوء.
مرت الأيام والطفلة مازالت على عهدها، تركض كالمعتوهة أريد الموت ..أعشق الموت..اتركونى أموت!! إنزوت فى غرفتها أياما، وليالي بل شهورا..لا سيرة لها سوى الموت؛ عافت نفسها كل شئ..جفت مشاعرها، وأحلامها كطفلة لاتطلب، ولا يروق لها سوى الموت.
نظر أخوتها الصغار، وكذلك الأب المسكين بعينيها؛ متوسلين راجين؛ بأن تكف عما تفعله؛ فهى تكاد تمزق أحشاءهم تمزيقا وقال الأب منكسرا ذليلا :
-ابنتى العزيزة بالله عليكِ كفي عما تفعلينه.
والطفلة لا يسعها سوى البكاء، والصراخ؛ لاشئ يجدى لا طب، ولا دواء، ولا شيوخ؛ فالطفلة مازالت تطلب الموت،وفجأة وأمام الجميع ضربت الأرض بأقدامها بطريقة هستيرية وصرخت أموت..أموت..أين أنتِ يا أمى؟؟تعالي يا أمى ..أريد أن أموت لم يجد الأب بدا من الإستسلام؛وخارت قواه أمامها؛ وتركها بقلب مكسور تفعل مايحلو لها؛ حتى تيأس وتكف من تلقاء نفسها.
أسدلت ستائر الظلام، وعم السكون كل أرجاء المكان، وكفت كل الأصوات إلا صوت الفتاة؛حتى انهارت وتهاوت بجسدها؛ وسقطت على الأرض وحيدة داخل غرفتها،ووسط ألعابها الصغيرة، استفاقت على صوت يناديها يشبه صوت أمها كثيرا
-نورا..نورا..تعالي ياحبيبتى..هيا بنا إلى مملكة الموتى
راحت تجيل نظرها فى كل أرجاء الغرفة ،وهنا إنتبهت لمصدر الصوت الخارج من إحدى الألعاب.ماهذا وماتلك اللعبة الغريبة؟ هكذا قالت لنفسها متعجبه فهى لا تتذكر متى وأين رأتها .ومن أحضرها؟..إنها ضمن مجموعة هدايا أتتها فى عيد ميلادها الماضى،إنها صندوق زاهي الألوان ،مزخرف يحمل حروفا مختصرة غريبة، لا تعرف لها معنى، وما أن لمستها حتى وجدتها تصدر أصواتا غريبة، ودخانا كثيفا أسودا يخرج ويملأ الغرفة .دمعت عيناها من كثرة الاختناق؛ وفركتهما بشدة لترى مايتجسد أمامها داخل تجمع الدخان الكثيف.
صاحت الطفلة وكلها حماس: أمى..أمى
فعلا إنها صورة حية للأم وكأنها حقيقة أقبلت الفتاة على أمها تحتضنها وتقبلها،لكنها مرت بداخل الدخان الكثيف، وخرجت من الناحية الأخرى دون أن تلمس أو تتحسس شيئا
فتأكدت أنه شبح أمها أو هلاوس وهواجس عششت واستوطنت بداخل عقلها الصغير فقط ،وفجأة نطق الشبح المتمثل فى صورة الأم وقال:
-هيا ياعزيزتى..هيا بنا إلى مملكة الموتى.ردت الطفلة بسذاجة الأطفال المعهودة:
-كيف..كيف لى أن أصل إليكِ يا أمى؟!
أشارت الأم إلى حائط به فجوة كبيرة وقالت:
-هنا، أدخلى هنا.
برقت عينا الطفلة، وارتعدت أوصالها، واصفر جسدها، وكأن الدم تجلط بكل شرايينها؛ سارت الفتاة ورغم قلقها البالغ إلا أن سيطرة الأحلام؛ وشوقها لأمها يسطوان عليها..دخلت فى تلك الفجوة ووجدت نفسها فى عالم آخر غريب.
قالت الأم بصوت حنون :
-أهلا بك يابنيتى فى عالم الموتى وتلك هى مملكتنا
دفعها الشوق لأن تحاول لمس أمها مرة ثانيه رغم احساسها بأن ذلك كله لن يجدي نفعا فأمها الآن شبحا غير ملموس،ومدت يدها لتصافحها، وتتلمسها لكن المفاجأة التى أثارت ذهولها؛ أنها وجدتها وكأنها إنسية من لحم ودم،وهنا إرتمت الطفلة بأحضان أمها،وراحت تقبلها وتبكى، والأم بدورها احتضنت طفلتها بشدة وانهالت عليها بالقبل ،وأمسكت بيد طفلتها وسارتا معا
لازالت الطفلة فى بالغ سعادتها تثرثر وهى تصطحب أمها،وفى طريقها إلى مملكة الموتى .أشارت الأم لها بالتوقف عن الثرثرة وتمتمت بصوت ضعيف:
-لا تزعجى الموتى يا ابنتي.
تصورت الطفلة منذ الوهلة الأولى، بأنها ستجد عظاما، ورفاة وجماجم، وأشلاء لم تتحلل بعد .لكنها تفاجئت بأناس عاديون يجيئون، ويذهبون، وكأنهم أحياء.أومأت الطفلة برأسها بالموافقة على التزام الصمت والأدب حتى لاتثير غضب أمها الغالية أو تزعج الأموات فهى لاتستطيع حتى الآن أن تتنبأ بردود أفعالهم.
وصلتا إلى مكان هاديء مريح مليء بالأطفال ذوي الأجنحة البيضاء يتطايرون كالفراش .إلتهمت عينا نورا المكان بسرعة بالغة فهى دائما ماتستعجل الاكتشاف.إنهم أطفال يحملون كل معاني البراءة يتحركون ويتصرفون بعفوية شديدة.شعرت نورا بالسعادة البالغة وهى تجلس معهم .ثم رنا إليها أحد الأطفال مهللا:
-أهلا بك فى عالمنا الصغير ..إنه مكاننا المخصص..تعالي إلعبي معنا.
ابتسمت نورا، ولبت دعوتهم، وانطلقت تلعب، وتمرح فى حقولهم الخضراء، تشتم عبير زهورهم، وكأنها داخل قطعة من الجنة؛ حيث لا عذاب؛ لاحزن ؛لاشئ سوى العفوية، والصدق والسعادة، السعادة العارمة ..لكنها مازالت تشتاق لأمها التي تركتها وغابت، وبمجرد أنها تذكرتها وجدتها تتمثل على الفور أمامها وكأنك تأمر فتجاب .صاحت الفتاة وابتسامتها تملأ وجهها:
-أمى..كنت أفكر فيكِ واستطردت بصوتها البرئ:
-أمي ..خذيني معك ولاتتركيني؛ أريد أنا أتفقد مملكة الموتى شبرا، شبرا.
ظهرت علامات الامتعاض على وجه الأم وقالت بصوتها الحنون راجيه ابنتها:
-ذاك هو مكان الأطفال..لا يجوز.
-بالله عليكِ يا أمي ..أسمع العديد من الأصوات ..فماذا هناك؟
واستسلمت أخيرا الأم لرغبة طفلتها، واصطحبتها لمكان آخر يعج بالناس يختلط فيه الجميع قالت الفتاة:
-أمي من هؤلاء؟
-إنهم ملائكة الرحمة،كانوا ينشرون السلام على الأرض..المصلحين والساعين في الخير.
-الله ..العطور تفوح منهم ،وأصواتهم بمنتهى العذوبة وأشكالهم فى غاية الجمال والروعة ..أمي أتمنى أن أكون مثلهم وأنشر السلام فى الأرض.
ابتسمت الأم فى رضا:
-إن شاء الله يابنيتى.
استمر السير طويلا حتى صادفتا الحور الجميلات ونساء أخريات يجلسن على مقاعد من ذهب؛صاحت نورا مبتسمة :
-من هؤلاء؟
-الصابرات يابنيتى.
-ومن تلك يا أمي شكلها غريب؟؟
وظهرت على الفور إمرأة نصفها يتحرك ،ونصفها الآخر ثابت وكأنه ميت، تتدلى إحدى ثدييها، ويقطر منها اللبن تركض كالمجنونة هنا وهناك.
-أمي..ماقصتها؟..بالله عليكِ وعمَّ تبحث؟
-كانت تضع مولودها؛ وماتت ؛ظن الجميع بأن طفلها قد مات هو الآخر ودفن معها.لكن الرضيع كان لايزال حيا فوهبها الله نصفا حيا ترضع به طفلها وعاش بجوارها يرضع ويلعب داخل القبر،وعندما فتحوه ليدفنوا أحد الموتى إكتشفوا وجود الطفل وبالفعل أخذوه،ومن يومها وهى تبحث عن مولودها.
قالت الفتاة بأسي بالغ:
-كما كنت أبحث عنك يا أمي..كم أحبك يا أمي.
-وأنا أيضا صغيرتي.
ثم رأت أناسا لهم أجنحة ووجوههم يشع منها الضوء الساطع عليها كل علامات الرضا، والقناعة ،وثيابهم تبرق بالألوان وتزدهي ،واستطردت نورا:
-أمى أحب أن أحافظ على صلاتى.
-أنتِ هكذا ..طفلتي المطيعة الحبيبة.
وانتقلتا إلى مكان آخر يركض فيه الجميع.كل فى شأنه
-أمى..مابالهم يركضون بهذه السرعة؟
-تلك هى المواكب.
-مواكب؟كيف؟
-هؤلاء المتوجين
-ولم التتويج؟
-انظري، وبعدها نتحدث.
مرت إحدى المواكب، وظهرت سيدة عجوز تتقدم كثيرا فى العمر ثم فجأة وبمجرد تتويجها واعتلاءها العرش الذهبى تحولت وعادت صبية في غاية الجمال يحمل عرشها ملائكة ذوي أجنحة ترفرف ويعبق المكان كله بالروائح العطرة ويصيح الجالسون هتافا:
-مرحبا..ويا أهلا بالخاشعين، والخاشعات
فرحت الفتاة وهللت :
-مملكة الموتى جميلة يا أمي واستطردت:
- أمي لم غبت عني وتركتني ؟
-حبيبتي..إن الله خلق الحياة والموت ..نبتسم ونهلل عند مجئ المولود ونسعد به فلم نبكى عند وفاته؟!..هذه أمانة الله وديعته فى الأرض يستردها وقتما شاء .لابد وأن نكون صابرين وراضين بقضاء الله؛ ليكون جزاءنا فى النهاية الجنة ،وأنتِ هنا رأيتِ الصابرين، ودعاه السلام، والخاشعين هذه هى مكافأتهم ..والله قد أكرمنا بنعمة النسيان ..أرجوكِ بنيتي إنسي الحزن، واتركيه فالله خلقنا للعبادة، وليس لتعذيب النفس،نفسك بيد الله ..لاتقنطى لتفوزى ،وها انتِ تمنيتِ رؤيتي ودعوتِ واستجاب الله لكِ،وعشتِ معي أجمل لحظات، كلما تذكرتِ الله وكلما أطعتيه وجدتيني ..كلما صبرت واحتسبت وجدتيني ..لا تيأسي من رحمته.
-أنا آسفه يا أمي ..لن أبكي ولن أعترض ..لكني لم أكن أستطيع السيطرة على الحزن الذي يقطن بداخلي.
-وها أنت فهمت وتعلمت ..أريدك طفلتي المطيعة وأنا سأزورك كثيرا ..هيا عودي لحياتك.
لوحت الطفلة بيديها، والدموع تنساب من عيونها، وقالت بصوت متهدج :
-الوداع يا أمي ..سألتزم دوما يا حبيبتي ..سأراك قريبا
-الوداع يا ابنتي العزيزة.
بكت الطفلة والكلمات تختنق بحلقها، والدموع الساخنة تحرق وجنتيها:
-زوريني يا أمي..الوداع.
وظهرت تلك الفجوة ،وعادت نورا لغرفتها مرة أخرى
***تمت بحمد الله