لم تكن الطريق مستوية، وابتدأ المطر بالهطول، ومشيت طويلًا تحت غيمةً وحيدةً منكسرةً، وكانت السماوات تتفجر بالبرقِ والرعدِ، وعلى بُعد مئة متر رأيت ضوءًا ينبعثُ من منزل خفيض تسوّره الأشجار؛ فتح لي الباب رجل أثار طوله الفارع رعبي بعد أن طرقت الباب، كان يرتدي ملابس رمادية، كان يبدو أنه ينتظر شخصًا ما!
دخلت عنده مخلفًا ورائي كل ضجيج الأمطار.. دخل الرجل مكتبه، وتركني دون أن يسألني من أنا ومن أين أتيت! شعرت وقتها على الأقل جسديًا بجاذبية الكتب التي يحويها مكتبه الصغير، كان ثمة مصباح متوهج يتدلى من سقف الغرفة، يتمايل فيرسم الظل فوق الكُتب، لم تكن هذه الليلة عامرة بالنجوم، والأرض تحت قدمي موضع شك! ودون مقدمات قال لي هذا العجوز:
- من فرط التفكير في الخلود تركنا الغسق يطبق دون أن نشعل المصباح، ولم يعد باستطاعتنا أن نرى وجوه بعضنا بعضًا!، كان الظل يكررُ: "أن النفس خالدة، وأن موت الجسد لا معنى له أبدًا، وأن الاحتضار بحكم الضرورة هو أكثر الحقائق التي تُحدث للإنسان بطلانًا وعقمًا، كنتُ جالسًا أعبث بمدينة البشر أفتحها وأغلقها، وظل الشيطان يتمايل بعقلي ذات اليمين وذات الشمال؛ ذلك الشيطان الذي كانت غلبته مناصفة بيني وبينه، ذلك الشيطان دائمًا ما كان يقول لي: "فحين نحلمُ أننا نحلمُ، فهذه بداية اليقظة!".
فقلتُ لهذا الرجل:
- لا أفهم ما تقوله!
فاستدار ذلك العجوز، وولى وجهه شطر لوحة زيتية، أشعل غيلونه، وأشار إلي أن أتبعه.
دخلنا غرفة طويلة ذات جدران خشبية فيها منضدة وكراسٍ، وكان ثمة مصباح فوق خوان يطلق ضوءًا أصفر، ولسبب ما بدت لي الطاولة غريبة، وفوقها تنتصب ساعة رملية، لم تلمح عينيّ سوى نقش معدني عليها، وأشار الرجل إليَّ للجلوس على أحد الكراسي، حاولت أن أتكلم معه، لكنه لا يصغي لكلامي! وفجأة قال لي:
- يتحول كل شيء إلى إدراك، فالشيء هو المدرك، وما يختفي عن الإدراك هو احتمال، ونفي، وافتراض، فالشيء لا يكون هناك إلا بقدر أن تسقط عليه الحواس..
- كانت الساعة التاسعة مساءًا، صوت الرعد وتخبط الأمطار، والعواصف يضرب جدران المنزل، فكان عليَّ أن أرجع إلى منزلي، وأشعلُ الموقد لأستدفئ، فطلبت من هذا الرجل الذي لا أعرف حتى اسمه الخروج من عنده، للذهاب إلى منزلي، ويبدو أني نسيت أن سيارتي معطلة بالخارج، وقد كنتُ أحتاج المساعدة في هذه المنطقة النائية، لكن قبل أن يأذن لي الرجل للخروج كنتُ أشعر بثقل في رأسي، وبشيء يجثمُ فوق صدري، فطلبت من الرجل كوبًا من الماء، فأسرع لإحضاره، كانت الغرفة بها سقف منخفض، وكان فيها دولاب ملابس، ومفارش من كل الأنواع، وبعض الأحذية الحريمي، ففهمتُ أن هذا الرجل لا يعيش بمفرده، وجلتُ بنظري نحو الجدران؛ كانت ثمة رسومات تغطي الحوائط، كانت رسومات لبعض رجال الدين المسيحيين، ولاحظت أن كل الشخوص الظاهرين في الرسومات بشرتهم بيضاء، وشعرهم أسود كاحل، وعيونهم جاحظة، وصادف أن نظرت إلى المرآة، فرأيت وجهي يلوح كريهًا جدًا بما كان فيه من قلق وشحوب، وفجأة بدأت ساعة مُعلقة في مكان ما خارج الغرفة تئن، وكأن شيئًا كان يضغط عليها أو كأن أحدًا كان يخنقها ثم تلاشى ذلك الأنين، فقفزت فجأة للأمام، ونظرتُ خارج الغرفة. وجدت هذا الرجل ساقطًا على الأرض ويده مُمسكة بساعة حائط كبيرة، يبدو أنه عند سقوطه حاول التعلق بهذه الساعة! فأسرعت وحملته من على الأرض، وأدخلته تلك الغرفة الصغيرة، كنتُ لا أدري ماذا أفعل في هذا الموقف؛ أخرج وأترك الرجل، أم أنتظر وأبلغ الشرطة؟! وسيطرت عليَّ فكرة مفزعة طفقت تسري في جسدي كله؛ أن هذا الرجل قد توفي، لكن لاح لي أمر غريب أن تلك العينين (أي عيني الرجل) تتفحصني، فعرفت أن الرجل بخير.
- مرت ساعة وأنا أجلس بجوار هذا الرجل حتى دقت الساعة العاشرة، ومع دقات الساعة فُتح باب المنزل، فكانت ثمة فتاة ترتدي جاكيت من الجلد الضيق يرسم عودًا أوروبيًا منتظمًا، وبنطالًا من نفس التكوين، ويحتل قدميها وساقيها حتى المنتصف حذاء ذو رقبة طويلة جدًا، وعلى رأسها قُبعة خضراء، نظرتُ إليها متفحصًا أكثر؛ تبدو فتاة من لؤلؤ ويواقيت؛ خديها كالعساجد، ذراعاها كاللُجينِ المسكوبِ، تقدمت تلك الفتاة وفزعتْ حين رأت الرجل ممددًا، اتسعت عينها غضبًا، وأنا أحاول إفاقته، وبصوت عالٍ قالت لي:
- - من أنت؟ وماذا فعلت بعمي؟ أنت لص تحاول سرقتنا!
- - لا.. لا.. أنا لستُ لصًا، ولم أفعل شيئًا بعمكِ، اطمئني؛ عمكِ بخير.
- - أنت لست لصًا! ماذا أنت إذن؟!
- - أنا "مراد" جار لكم في المنطقة المجاورة، تعطلت سيارتي بجوار منزلكم، وكنت أطلب المساعدة، فطرقتُ بابكم ففتح لي عمكِ، وبعدها طلبت كوب ماء، فذهب عمكِ لإحضاره، وبعدها حدث ما حدث، ورفضتُ أن أتركه بمفرده حتى لا يُصاب بسوء.
- فقالت بعد أن اطمأنت لي:
- - يبدو أنه أصيب بغيبوبة السكر المُعتاد عليها؛ احمله معي إلى غرفته.
- بعد أن حملناه كانت قد وضعت إحدى يديها فوق يدي، وأنا أحمل معها عمها، وكما لو كنتُ قد صُعِقتُ آنذاك! فارتبكتُ وتصببتُ عرقًا، فنظرتُ نحو وجهها؛ كان لعينيها ما يشبه الطوفان، وعلى جبينها الأخَّاذ يلقي القمر بأشعته الزاهية، كنتُ أرى الشمس كأنها تجري في شعرها ذهبًا، وتسطعُ في ثغرها لؤلؤة، شفتاها طائران مصلوبان على وجهها الذي يشبهان شجرة الخُلد، فتوقفتُ منتصبًا تحت حائط الرغبة، حيث تلمعُ الرغبة، وتمددتُ بين أنفاسها الشهية، وأعلنتُ عن استسلامي لرائحتها الوثيرة.
- لمحتْ عيني بروازًا صغيرًا فيه صورتها، ولا أدري لماذا فعلتُ هذا! فتحتُ البرواز، وأخذتُ الصورة، وهي لم تنتبه لذلك.
- وبعد أن أفاق العم "بطرس" كان عليَّ الخروج من المنزل، في حين كانت تلك الفتاة تقدم لي الشكر، وتقول لي: "شكرًا يا مراد"، بعدها انتبهتُ لاسمي "مراد"! هذا اسمي! يا له من اسم جميل! سمعت منها اسمي كما لو كنت لم أسمعه من قبل!.