من أهم مايجب توفره في شخصية الباحث العلمي هو الحيادية التامة ، وعدم التحيز لالرأي ولامذهب ولاشخص ولافكرة ،ولايمكن أن يكون كذلك .
نعم ، الباحث العلمي دائما يقدر العالم الحقيقي والفكرة الجيدة ، وله في الغالب انتساب إلى مذهب فقهي أو فكري معين ، ولكن هذا لايعني التسليم أو القناعة التامة بأن أحدا من مجتهدي البشر يملك الحقيقة المطلقة، أو أنه معصوم من الخطأ ، لأن هذه القناعة في حد ذاتها ، إنما هي نمط المقلدة أو هي عقلية العوام ، التي لايمكن أن تتواءم وشخصية الباحث العلمي ، أو الباحث عن الحقيقة بشكل عام .
وهذا بدوره مما يجعل من التشكك سمة من سمات الشخصية العلمية ، فالباحث الجاد لايهدأ إلا بعد أن يتتبع المعلومة بنفسه سعيا إلى اليقين ، أو مايقترب منه في رأيه ، لأنه لايستقر نفسيا دون هذه المرتبة .
وفي ثقافتنا الموروثة لقنا أن الشك هو مسلك أهل الإلحاد لامسلك أهل الإيمان ، وأنه يؤدي بأهله إلى التجرؤ على الأئمة الأعلام وهذا من سوء الأدب معهم ، هكذا كما لقنا جميعا .
وهذا الكلام على إطلاقه خطأ إلى حد بعيد ، فالشك في المظنون فيه بهدف الوصول إلى اليقين منهج علمي أصيل وله آلياته ومناهجه وأخلاقياته ، وآيات القرآن الكريم تضافرت تستحث العقل على التفكير الحر ، وتنبذ التقليد والمقلدة ، وتنعتهم بأبشع الصفات ، فهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا ،.
بل يوجب القرآن الكريم على المؤمنين به النظر والتدبر حتى الوصول إلى القناعة التامة ، أو المعلومة اليقينيةالتي لايخالجها شك ، لأن ماسوى ذلك خرص وتخمين " قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون " وهذا الخرص لايغني من الحق شيئا .
والإمام أبو حامد الغزالي الفليسوف المسلم ، هو أول من أثر في فلاسفة أوربا"ديكارت" وغيره في تعلم منهج الشك حتى يصل العقل إلى اليقين .
والحقيقة أن شك الغزالي يغلب عليه الجانب الفلسفي ، وهذا ليس موضوعنا الآن ، ولذا فسأتحول عنه إلى مفكر آخر وهو الجاحظ العالم والأديب المعروف ، لكونه من أهم من تحدثوا عن الشك العلمي المنهجي، الذي يجب على كل باحث أن ينال حظا منه ، حتى يكون باحثا بحق .
وللجاحظ في هذا عبارة رائعة يقول فيها " اعرف مواضع الشك والحالات الموجبة له لتعرف مواضع اليقين والحالات الموجبة له ، وتعلم الشك في المشكوك فيه تعلما ، فلو لم يكن في ذلك إلا تعرف التوقف ثم التثبت ، لكان ذلك مما يحتاج إليه "
وهذا كلام علمي منهجى إلى أقصى درجة، لأنه لاشك ولاينبغي ان يكون شك إلا في المشكوك فيه ، يعني : البعيد عن اليقين والقطع، هذا أولا ، وثانيا : على الباحث أن يدرس ويعرف جيدا الحالات الموجبة للشك ، كالأخبار التي تتضاد وتتعارض مع اليقينيات ، ومن ذلك : الأخبار التي تتعارض مع الأحكام الضرورية من عقل وحس ومشاهدة ، ومثلها التي تتعارض مع الأخبار اليقينية القطعية .
ثم إن الجاحظ ليرشد الى المنهجية في تعلم الشك وهذا مما يحتاج إلى الدربة وإلى التعلم ، فهناك شك هوائي أو مرضى ، لأنه يمثل فقط حالة من حالات التمرد على السائد أو الأنماط السلوكية والفكرية السائدة حتى الثوابت منها ، دون أن يكون من ورائه هدف الوصول إلى اليقين وإلى الحقيقة ، وهذا يغلب على كثير من المراهقين كما هو معلوم ومشاهد .
وقد يؤدي بالبعض منهم إلى الانتحار إذا لم يجدوا من يلتفت إليهم ، لأن هذا هو الهدف في الغالب : لفت الأنظار إليهم أو إلى مايودون أن يلفتوا الأنظار إليه .
ثم إن ذلك النوع من التشكك الذي يدعو إليه الجاحظ :يؤدي بالباحث إلى النصفة وعدم ادعاء مالايعلمه ، ثم التوقف حتى يستوثق تماما من صحة ماتوصل إليه قبل صياغة الحكم أو النتيجة ، وقد يتوقف نهائيا عن إصدار حكم إذا لم يصل إلى حد الطمأنينة ، وهو ماعرف في ثقافتنا بمذهب الواقفية ، يتوقفون حتى يتثبتوا ،لكونهم يستشعرون أمانة الكلمة وعظم المسئولية أمام الله تعالى ، ويستشعرون كذلك قدر العلم التي يورثونه الأجيال .
والخلاصة هي أن البحث العلمي حالة يعيش فيها الباحث حتى تصطبغ بها حياته ، وليست معلومات يلملمها أو ينتحلها من هنا وهناك ، ليصنع بها حجم بحث خاو من العلم ومن الحقيقة ومن أية سمة من سمات هذا المنتحل ، فهؤلاء هم لصوص الجهد والعرق ومنتحلو غيرهم من المفكرين والعلماء ، الذين يأكلون الذهب من جماجمهم إفكا وزورا ، وماأكثرهم في عصر الزيف الذي نعيشه !!!
ومادرى هؤلاء المزيفون أنهم أقبح أنواع السراق على الإطلاق ، فشتان بين من يسرق ليتقوت في عصر كثر فيه الجوعى ، ومن يسرق ليصعد على قمة هرم من الزيف والزخرف ، في عصر تاهت فيه الحقيقة والحقيقيون …
" وزخرفا وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا والآخرة عند ربك للمتقين "
ولسوف يذهب أهل الزخرف ومازخرفوه ، لأن من القوانين الإلهية الثابتة " وأما ماينفع الناس فيمكث في الأرض "