أما عنه،
فهو قطعة من الروح، لمَّا تغشاها الموت، أورثها ورم الفقد، فتنكر له صاحبه وطرحه منبوذًا في العراء على ناصية التناسي والتجاهل، مطموس الملامح، فاقد الهوية، فارغ الطوية، أُطلق له العنان ليعوي في زنزانة النسيان وحده، فلا قلب يبارزه، ولا أنيس يستوطن ساحاته ويحتال على طمأنينته، فينزوي على ضعفه حتى يعود إليه رشده، ويضع عنه أوزار الحياة، ويمضي إلى حال سبيله حاملًا على وجهه ميلادًا جديدًا صنعته البلايا، الصبر أبوه، والمحنة أمه، وندماؤه ـ الذين يتنادم معهم اللطف في وعثاء الطريق ـ الدعاء، والرجاء، والفرج المنتظر واللقاء الموعود!
فإذا خشيت أن يتلبسك الهلع حال الفقد، ويسكب الجزع صيِّبه داخلك؛ فأعد العدة لملاقاته، واهزمه باليقين، وأهنه بالتخلي، وفر به إلى ربه وربك؛ ليربط على قلبك ويلبسك لباس الأمن، واعلم أن الفقد أحيانًا ـ على اختلافه وتنوعه وضرواته ـ نعمة لا ندركها إلا بتوفيق الله، فهناك فقد يردك إلى ربك ردًا جميلا، وفقد يُخرجك من نفسك ولا يكلك إليها، ولا يُخلّي بينك وبينها، وآخر يُفهِّمك عن ربك، ويُطلق قلبك بالحكمة، ويُبصّرك بالحياة!،
فاستقم كما أمرت وأقم الحياة.
وهل يوجد أعتى من الفقد الأول،
(موت رسول الله صلى الله عليه وسلم)؟!
يقول الله جل جلاله:
(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)
وقال أبو بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ لما مات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "من كان يعبد محمدًا فإنه قد مات، ومن كان يعبد الذي في السماء فإنه حي لا يموت"
فكل مصيبة بعده ـ صلى الله عليه وسلم ـ جلل.
وأنت رائع..
عند دمدمة كل فقد كاد أن يشق صدرك في نزق، ويتصدع له قلبك، وتنفطر روحك؛ حتى إذا مادت بك الأرض، وضاقت عليك نفسك بما حملت، وأيقنت أن مثواه قد طال بقلبك حتى أوشك أن ينقض، فهرعت بناصيته تجره طوعًا أو كرها إلى باب ربه، لتجهضه دمعات في سجدةٍ ودعاء!
وأنت رائع..
حين فهمت، وفطنت، وعلمت أن الإنسان مأجور على أحزان قلبه، وأن الذي خلقه وصنعه لن يتركه سدى، بل معيته تلازم عبده.
سئل الإمام أحمد بن حنبل: ألم تصدك المحن عن الطريق؟!
قال: والله لولا المحن، لشككت في الطريق!