في رحلتي إلى أرض الأحزان مع الكاتب الأستاذ (عبد الوهاب مطاوع)، انتزعتْ قلبي من مكانه رسالةٌ أرسلتها نفْسٌ طيبة ترجو من الأستاذ أن يمُن على صاحبة القصة بتكاليف رحلة إلى بيت الله الحرام جبرًا لها عما لاقته هي وابنتها من زوجها المعجون بالعقوق، فأردت أن أسردها بقلبي لِما تركته فيني من أثر:
فتاة في عمر الورد، جرفتها أمواج السعادة بعيدًا وألقت بقلبها على شاطئ الأماني، اخترقتها عيون الفرح كالنجم الثاقب في ليل سماء غامضة، فلا سنا ضوئه ينتهي، ولا هي من نشوتها تفيق، تسرح نظراتها في روح خطيبها وتثرثر إليه بآلاف الوعود والأمنيات عن يوم زفافهما الذي تتألق فيه بفستانها الأبيض المزيَّن بالدلال والمطرَّز بالرِّقة، يخطفها من سماوات أحلامها ذاك الزائر الغامض، ثقيل الظل، فيضرب عافيتها بضراوة، وينتهك بقاياها، حتى أصبحت كالهيكل العظمي بعدما أكل المرض روحها، وتفشَّى الوجع بكل ذرة في جسدها، وصار الفرح ماضيًا يستجدي النسيان، فقد كانت تعاني من تضخم القلب والرئة وارتشاح في الرئة والساق والكلى، وبصبرٍ ينوء بحمْله أعتى الرجال تحملت تحذيرات الأطباء لها من أنها لا تستطيع أن تتزوج، ولو تزوجت فلن تستطيع الإنجاب.
قطع المرض مسافة لا بأس بها في تخوم عمرها، وغرقت هي في متاهاته، وتعثَّرت في لُججِه، تصفعها سماء أبيها المعتمة الخالية من الفرج بأمطارها السوداء، كلما عانقت عيناها بصيص أمل، حاد بها جحود أبيها عن وجهتها وأرداها إلى هاوية الضياع، وكأنها صارت مجبرة على دفع ثمن التقاط أنفاسها بقطع من روحها تنفقها مع كل آهة ألم يهتز لها جسدها من عقوق أبيها لها واجتماعه مع المرض عليها، فلم تهتز له شعرة لمرضها ومعانتها، لم يزُرها في المشفى مرة واحدة، وكلما استجدته أمها أن يذهب لرؤيتها ليجبر قلبها أمام خطيبها الذي لم يفارقها لحظة، يتجاهل طلبها بفظاظة شديدة، ثم يسحب نفَسًا من غليونه وينهرها قائلًا:
- إنها تدَّعي المرض ولا وقت لدي لمثل هذا الدلع!
تلملم ماء وجهها الذي أراقه أمام الغرباء، وتأخذ كسرها وندبة قلبها إلى ركن منزوٍ لتجبره بين يدي الله، وكلما اشتد بابنتها المرض أسرع إليها الجيران وتعاونوا على حملها من الدور السادس إلى الدور الأرضي لكي تذهب للمشفى وأبوها في شرفته غائب عن الإنسانية، يدخِّن السجائر ويقرأ الجرائد في هدوء ولا مبالاة، وكلما رجته زوجته أن ينقل ابنته إلى المشفى بسيارته الأجرة التي يملكها، هز رأسه بالرفض، بينما خطيبها يأتي مهرولًا كعادته إلى المشفى يقف بجوارها إلى أن يخفف الله عنها بعض آلامها، فقد كانت تحتاج إلى ست أنابيب للأكسجين يوميًا لكي يمكنها البقاء على قيد الحياة.
كان خطيبها هو لطف الله لها الذي عاشت تتوكأ على وجوده، والسند الذي تنصَّل منه أبوها، والجبر الذي أعاناها على ابتلائها، كان ينفق على علاجها ويشتري لها أنابيب الأكسجين، بجانب ما تنفقه هي نفسها من مرتبها البسيط، أما أبوها فلم يدفع ثمن أنبوبة واحدة، لكنه كان فقط يعمل على زيادة مساحة الهم والعناء والقسوة في حياتها، رجل لعنتْه الرجولة، وسقط عرش كرامته.
تكسرنا الحياة بشتى الطرق، وتفعل فينا الأفاعيل، لكننا ننهض بوجود السند ودعمه لنا حتى وإن كان ميتًا، ننهض بأثره الطيب وإرثه الذي أورثنا إياه من نُبل وبِر وسيرة طيبة ترافقنا، لكن أي قوْمة وأي نهوض سيكون في معية أبٍ كهذا؟! لكنها رغم كل هذا عاشت راضية صابرة مؤمنة، الصلاة حياتها، والقرآن زادها، والدعاء عصاهُ التي تقصم بها ظهر مرضها.
في أسوأ فتراتها زارها أبوها، فرجته أن يبقى إلى جوارها قليلًا حتى ينفذ سهم الموت:
- كن معي لحظات، إني أموت.
فيجيبها ببرود وجحود قائلًا:
- من يموت بالفعل، لا يعرف أنه سيموت، ولا يقول إنه يحتضر.
ثم انصرف عنها بلا وداع.
تنفَّس الفجر وأمها تتوسل إليه وترجوه أن يعيد ابنته إلى بيتها لكي تحتضر في سلام، فرفض النزول من البيت والاستجابة لرجائها، ولم يمضِ وقت طويل حتى صعدت روح الفتاة إلى السماء، وكان آخر ما طلبته من أمها هو أن تتصدق بمرتبها عن الشهر الأخير من حياتها القصيرة، وبما تبرَّع لها به الجيران للإسهام في علاجها على الفقراء.
وآخر ما قالته لأمها:
- لن أسامحه أبدًا على فِعله معي، ولا على عدم تحمُّله نفقات علاجي وترْكي للغريب (خطيبها) لكي يتحمَّل العلاج دونه، ولن أسامحه أبدًا على رفضه البقاء بجواري في ساعاتي الأخيرة، كنت أتمنى أن يرصِّع جبيني بتاج الزفاف، وتتهادى خطواتي في ثوبه الأبيض، وأسعد مع من أحب، لكنها إرادة الله وحكمته.