كانت لمياء فتاةً أغلقت قلبها عن كل صوتٍ عاقل، وفتحت أبوابه لرجلٍ لا يعرف من الرجولة إلا الاسم. أحبّته حتى أغضبت أهلها، وتمرّدت على قيمها، وضربت بجهد والديها وحكمتهما عرض الحائط. تركت خلفها بيتًا آمنًا، وأعرافًا تحميها، ودينًا يرشدها… ولحقت بخليلٍ قادها إلى عالمٍ ملؤه الظلالة والخُبث، بعيدًا عن كل نور.
ومع الأيام، أدركت لمياء أنها لم تهرب إلى الحب… بل إلى الهاوية.
وفي ليلةٍ حالكة، استيقظت على صدمةٍ رجّت كيانها: كانت تحمل في أحشائها جنينًا. فزعت، غضبت، حاولت بكل الطرق أن تنزع عنه صفة الوجود. أرادت أن تحارب إرادة السماء، لكن الجنين – ياسين – كان كأنه يعاندها ويستمسك بالحياة التي منحه الله إياها.
ترددت كثيرًا، لكن وساوس الشيطان التي قادتها إلى الخطيئة قادتها الآن إلى ما هو أعتى منها. صرخ فيها خليلها الوحش الآدمي، خشية أن يفضح حضور البراءة سواد علاقتهم، فتصلبت على قرارها. ذهبت إلى الطبيب، رغم توسلات كل من حاول منعها. تجاهلتهم، تجاهلت رحمتها، تجاهلت أن ذلك البريء لم يطلب الوجود… ولم يجنِ ذنبًا.
وفي لحظة قاسية، قتلت كبدها بيدها.
لكن لمياء لم تكن تعرف أن الليل الذي أسقطت فيه جنينها لم يكن سوى بداية لعنة طويلة. كل يوم كانت تشعر بأن ياسين يطاردها في المرآة، في الظلام، في صدى الخطوات خلفها، في نبض قلبها حين يضيق بلا سبب. وتكبر اللعنة كلما غاصت أكثر في وحل الحياة مع خالد، الذي لم يكن سوى ظلال رجل، يأخذها معه إلى درك جديد من الانحطاط.
وحين ضاقت أرواحهما بالحياة، صارا يتعاطيان المخدرات بانتظام، يهربان من صوتهما الداخلي، من الذنب، من الفراغ الذي خلفه الجنين الذي رفضته لمياء قبل أن يأذن الله بروحه.
وفي ليلة باردة، كانت بوابة النهاية تفتح أبوابها ببطء.
جلسا معا في تلك الغرفة المظلمة، دخان كثيف، روائح خانقة، ووجهان منهكان كأن الزمن يأكلهما بصمت. مد خالد يده نحو جرعة أكبر مما اعتاده، متعطشا للنسيان، فأخذها كاملة في لحظة تهور. لم تمر دقائق حتى بدأ جسده يرتجف، ثم يسقط أرضا كخشبة ميتة.
صرخت لمياء، لأول مرة منذ زمن ظهر الخوف الحقيقي في صوتها. هزته، صاحت في وجهه، ضربت صدره بيديها المرتجفتين، لكن عينيه كانتا تنطفئان كشمعتين في آخر نفس.
ركضت نحو السيارة، سحبته معها بصعوبة، قادته إلى المقعد الأمامي وكأنها تحمل جثة. كانت ترتجف، تتنفس بسرعة، وتعاطيها للمخدر زاد من ارتباكها وفوضى عقلها. أدارت المحرك وانطلقت بجنون.
كانت الطريق أمامها سوداء، وعقلها ضبابيا، وقلبها ينبض كطبول حرب. كانت تبكي وتصرخ وتضرب المقود، وهي تقود بسرعة جنونية محاولة إنقاذ خالد، ليس حبا فيه، بل خوفا من مواجهة مصيرها وحدها.
لكن اللعنة التي بدأت بقتل جنين، لا تنتهي إلا بميزان العدالة.
وبينما كانت السيارة تشق الطريق كالسهم، انزلقت عجلاتها على منعطف ضيق. صرخت لمياء، حاولت السيطرة على المقود، لكن السيارة كانت أقوى منها، وأسرع من أن تلحق بها يد مذعورة. التفّت بها كدوامة، ثم ارتطمت بالحائط بقوة تشبه انفجارا صغيرا.
سكن كل شيء.
سكنت الأنفاس.
وسكنت اللعنة.
وفي لحظات قصيرة، عاد الصمت إلى العالم، كأنه يقول إن النهاية جاءت أخيرا. مات خالد، وماتت لمياء، وسكنت روح الجنين التي طاردتها طويلا، وارتاحت السماء حين تحققت العدالة على من لم ترحم ضعفه، وعلى من شارك في إراقة دمه.
هكذا تنتهي قصة الأشرار، وتبقى لعنة البراءة شاهدة على أن الظلم، مهما طال به الزمن، يعود ليدفع كل مذنب ثمنه كاملا.





































