اسمُها فاتن، ولها من اسمِها نصيب، الوجهُ كالبدر والعودُ كغُصن البان، تمشي في الحارة بكعبِها العالي وفستانِها الضيِّق الذي يبرزُ مَفاتنها، ما مِن رجلٍ بالحارة يملأ عينيْها، تطمحُ في الزواج برجلٍ يَنتشلها مِن هذا الخندق الذي تعيش فيه، تعلم أنَّ لديها المقوماتِ لتحظى بأفضل رجلٍ بالحارة، بيدَ أنَّ ما ترنو إليه خارجَ دائرة الحواري.
تصفُها النساء بأمِّ كعبٍ عالٍ, ويصفُها الرجالُ بالسفيرة عزيزة، أمّا أمُّها فتُطريها بكلماتٍ تزيد من أنَفَتها، يحذِّرها أبوها من جموحِ طموحها، يحاول أن يلجمَها بمنْعها من الخروج دونَ داع. تراقبُ الحارةَ وناسَها من شرفة حجرتِها، تشرئبُّ إليها الأعناقُ من أسفلَ لتحظى بنظرةٍ منها وهي لا تُبالي. ترفضُ كلَّ مَن يطلب يدَها من أبناء حارتها، تردِّد دائمًا أنْ لا أحد منهم يستحقُّها. ينصحُها أبوها أن ترضَى بنصيبها فربَّما يأتي اليومُ ولا تجد مَن يطرق بابَها.
المعلِّم سفيان تاجرُ الجُملة يتمنَّى لها الرضا ترْضاه، الأستاذ سيف مدرِّس العلوم قيمةٌ عالية بالحارة، الأسطى سيد الميكانيكي عنده سيارة خاصَّة وشقة مِلْك, وغيرهم الكثير.
- ما به عبده النَّقاش؟
- قلت لكِ لن أتزوَّج من هذه الحارة الخَربة، بنتك يا أمّي تستأهِلُ مَن يثقلها بالذهب!
تدلَّلت على الجميع، ظنتْ أنَّ الجَمال ثروةٌ لا تتبدَّد، غير أنَّ سرعةَ الأيام بدَّلتها، ولم يعدْ يطرق بابَهم أحد. يلومُها أبوها وتواسيها أمُّها وهي كما هي رأسُها كالحجارة؛ بل أكثر صلابة!
لا شيء يسلِّيها في أيامِها الخالية غير هذا الهاتف المزوَّد بالإنترنت، تظلُّ تتصفحُ فيه حتى تغمضَ عينيها وتنام، تتابع قنواتِ اليوتيوب، تحفظ أسماءَ اليوتيوبر؛ بل وتقلِّدهم، تتمنَّى لو تصبح نجمةً مثلهم، يذيع صيتُها، تجني مالًا وفيرًا كما يجنون، ربما تجدُ ضالَّتها وتظفرُ بالرجل الذي ترْجوه.
ـ "لمَ لا؟ ما الذي ينقصُني؟! القالبُ غالب, والوجهُ يوقع أغلظَ شارب!"
لم يأخذِ الأمرُ منها كثيرًا؛ فقدِ استعانت بجارتِها التي تدير قناةً مُتواضعة للطَّبخ، شغفَها الأمر، صارتْ تُمضي جلَّ أوقاتها في تكْبير القناة كما تعلَّمت من الإنترنت، زادَ متابعوها وافْتتنوا بجَمالها وبَهاء طلَّتها رغم عدميةِ المُحتوى، لا تجيدُ شيئًا لتفعله، حتى الطبخ لا تُتقنه، كلُّ ما كانت تفعله أنها تظهرُ على الشاشة بكاملِ أناقتها وتتحدَّث في أيِّ شيء بعَفويتِها المحبَّبة، يأسرهم أسلوبُها فلا يملّونَ المتابعة رغمَ التكرار.
أرادتْ أن تحصل على درعِ اليوتيوب الفضيِّ فبحثت عنْ وسيلة لتزيد المتُابعين، لم تجدْ إلا أن تقلدَ الفنانين! لم يكن أداؤها جيدًا؛ بل كان مُضحكًا، قرأت تعليقات مشجِّعة وأخرى مُحبطة، لم يغضبها الهجومُ بل أسعدَها، فهذا ما ساعدَها على الانتشار السريع. ثمَّ حصلتْ أخيرًا على درع اليوتيوب الفضي، طمحتْ في نيْل الدِّرع الذهبي ففكرتْ في شيء يجعلُها (ترند) وتزيد معها الأرباح، ظلتْ تفكرُ حتى أتتْها الفكرة، تردَّدت قبلَ تنفيذها فقد يضعُها هذا بوضعٍ مُحرج أمامَ عائلتها والجيران, ويجلب لها مشاكلَ هي في غنًى عنها، سارعتْ في حظرِ كلِّ مَن له علاقةٌ بها ثمَّ بدأتْ في تنفيذ فكرتها.
بدأتْ في الهبوط إلى درجِ التَّنازلات درجةً درجة, حتى صارتْ تفتعل حركاتٍ مثيرةً على الشاشة معَ الرقص والغناء، زادَ عددُ المتابعين وفي المُقابل هاجمَها بعضُ الناس، لم تلتفتْ لمَن أساءوا إليها.
ولسببٍ ما عرفَ الجميعُ بأمْرها رغم ما أعدَّته كي تطمسَ هويتَها، اللبس غريبٌ والمساحيق و(الفلاتر) تفعلُ ما لا تفعله عملياتُ التَّجميل، وعن المكانِ الذي تصورَ منه فالأمرُ سهل، بعضٌ من الخلفيات المصوَّرة تجعلها بأماكنَ أخرى أرقى وأفخم!
جرَّها أبوها من شَعرها، لطمتِ الأمُّ خدَّها.
- فضحتْنا بِنت الكلب، وضعتْ رأسنا في التراب!
- اتْركها يا حاج، ستموت تحتَ يدك!
- اخرسي أنتِ! أين كنتِ وهي تفعل ما فعلتْه؟! غفلتِ عنها حتَّى جُرسنا!
تحاول أن تتملصَ منه دونَ جدوى فقد أحكمَ قبضتَه, ضربَها ضربًا مبرحًا، لم تجد مَن ينجدها، مَن ذا الذي يقوَى على مواجهةِ الحاج (طُلبة) أبيها؟!
الأمورُ واضحة لا تستطيع أن تنكرَ خطيئتها, ولا هناك ما تدافعُ بها عن نفسِها.
منعَ عنها ذاك الهاتف الذي تسبَّب في جلبِ العار له ولأهل بيته، هشَّمه وقطعَ سلكَ الإنترنت، لعنَ اليوم الذي أدخلَه فيه البيت، كان يظنُّ أنها تقطعُ معه ساعاتِ الملل بيدَ أنَّ ما قطعته هو حبلُ الكرامة، إلى أن أصبحَ يتوارَى عنْ أعين الناس, ولا يقوى على مواجهتِهم. نكَّست رأسَه التي لطالما كانت شامخَة، انحنى ظهرُه وانحنتْ معها هيبتُه!
أرسلَ رسولًا لعبده النقاش ليخبرَه إن كان عرضُه مازال قائمًا فمرحبًا به.
رجعَ الرسول منكسَ الرأس مُمتقعَ الوجه، فما جاءَ به معلومًا وإن لم ينطقْه.
صمتَ المعلم طلبة ولم يسألْه عنِ الرَّد، تركه وذهب..
وها هي تنظرُ من شُرفة حجرتها لترى الزينةَ المعلَّقة بالشارع، تتساءل ما هذا؟!
صبيٌّ صغير يسأل أمَّه من بعيد..
- فرح مَن؟
- عبده النقاش سيد الرجالة وعزيزة ستّ البنات، ربنا يبارك، مَن قال إنَّ الوسادة لا تحمل اثنين جميلين؟! العريس قمر والعروس بدرُ التمام.
ابتلعتْ ريقَها متحسِّرة وهي تتابع حركةَ الحارة، ما عادتِ الأعناقُ تشرئبُّ لتنظرَ لأعلى لتحظى بنظرةٍ من طلَّتها البَهية، ما عادت ترى ذاكَ الافتتان بأعينهم، فالمَمنوع أصبح متاحًا بلا تعب، ضغطة زرٍّ وكلُّ شيء يصير متوفرًا.
كُسر كعبُها العالي وهي تهبط الدرجَ يومًا، فاجأتها أمُّها بحذاء جديد كعبُه أكثرُ طولًا، أدخلته لها خِفية، كما أتتْ بواحدٍ آخر لها على مَقاسها، وبعدما كان وجهُ فاتن الوحيد الذي يحتلُّ عرضَ الشاشة أصبح يسعُ الاثنتين!





































