على قارعة المنفى المجلّدة، حيث عكَست خيوط الشمس صدأ اليأس، استقامت "نجلاء" كعمود ملح لم ينهزم للريح. لم تتكئ على مقاعد الطرق، انحنت قامتُها على جباه رجالها المتقلصة. كانت الهموم تينع في جبينها كحقل شوك.
عيناها، مرآة تاورغاء المبتورة، لم ترتشفا من الأفق المتصحّر سوى سراب العزّة المتواري. صوتها زَنَ ثقل الصخر وجَلَدَ كالجليد على رخام الهزيمة: "يا بنات الجمر! البون بيننا وبينهم هو المسافة بين الخليقة الباكية والخنوثة المبرّدة!"
مسحت طرف عينها، لم يجد كفّها أثراً للبلل، فدمعها تبخّر في صقيع الروح منذ زمن. ألمها صقيع مُعلّب، يحمل على متنه وزن طُهر الجلود المرتهنة ودم الكرامة الذي لم يؤرَّخ لثأره بعد.
رفعت كفّها، لا لتطبع على خديها وشم الحزن، رفعتها وضربت بها هواء العجز الخانق حول زوجها "مفتاح". هو واقف كجذع شجرة مقطوعة، لا يفقه إلا الصمت الأجوف.
زمجرت، وكأنها تُطلِق رياح الغضب المتراكمة في بطون المنافي: "أين درع البسالة الذي بشّرتنا به قرارة القَطف الأخيرة؟!" *
تلعثم مفتاح، مقدّماً عينيه كرهينة لظلّهما الهارب. صوت همسه انهار على الأسفلت: "انفض زمان الكرامة، يا ملكة الصبر. فرساننا... سوق البياعات الرخيصة ابتلعتهم في موائد الملاجئ."
نظرت نجلاء إلى يدها المرفوعة. استقامت قامتُها فجأةً، منتصبة كرمح الحقيقة العارية. حجرٌ سكن عينيها؛ لم تعد تنظر إلى فوارس الزمن الأبيض.
ألقت بربطة شعرها الحريرية أرضاً، وفتحت حقيبتها الجلدية، استلّت منها مسدساً صغيراً لامعاً. وجّهته إلى موطئ صدر مفتاح، ثم حرّكته سريعاً نحو حافة الأسفلت المنسدل عليه ظلامهم الأبدي.
رفعت المسدس نحو السماء، وصدحت صيحتها لتشقّ غمام الإذعان:
"أقسم بشرف تاورغاء المسلوب! نحن الآن الزي العسكري الباهت! هيّا يا رفيقات صقيع النخوة، فلنُمِت أنوثتنا الجامحة ونضرب بها نخوتكم المتلاشية...
"مات مفتاح في تاورغاء، ومن الآن فصاعداً، نحن الفوارس! نحن الذئاب الجائعة!"
وضغطت الزناد. طلقة ارتفعت في الفضاء، لم تخترق جسداً، شقّت الخذلان المعلَّب، مُعلِنة ميلاد جند جديد لا يعرف معنى الاستسلام.
*قرارة القطف: منطقة تقع شمال شرق مدينة
بني وليد.





































