في سكون دامس لفناء دمشقي عتيق، حيث يتصاعد من البلاط الحجري البارد عبق الياسمين المخلوط بمسحة تراب الليالي الخريفية، لمع بصيص أبيض شاحب تحت ضوء القمر الفضي. اقتربت سلافة بخطوات مثقلة بالذكرى، كأنها تسير في حلم باهت، لتجد رسالة مطوية تستقر عند جذع السنديانة الشاهدة على همسات حبها الراحل.
ارتجفت يدها وهي تفتحها ببطء. لم تكن مؤرخة، لكن كلماتها نفذت إلى صميم قلبها كسهام مسممة: "سأغيب طويلاً يا حبيبتي، لكن ذكراي ستكون بين طيات هذه الرسالة وعبير الياسمين. هناك سر دفين يجب أن تكشفيه بعد غيابي، سر سيغير نظرتك لكل شيء." استولى الذهول عليها. سر؟ أي سر يمكن أن يكون فارس قد أخفاه عنها؟ تأججت في صدرها رغبة عنيفة لمعرفة الحقيقة. لم يعد الأمر مجرد حنين وذكرى، بل تحول إلى بحث ملح عن إجابات.
انطلقت في رحلة مضنية في أرشيف ذاكرتها، تستنطق تفاصيل لقاءاتهما، همساتهما، وحتى خلافاتهما العابرة، بحثاً عن أي دليل يشير إلى هذا السر المبهم. توجهت إلى أماكن كانا يرتادانها سوياً، تسأل أصدقاءهما ومعارفهما القدامى، لعل أحدهم يملك خيطاً يوصلها إلى الحقيقة.
في أحد الأيام، وبينما كانت تتفحص كتبه القديمة، وجدت ورقة مطوية داخل ديوان شعر. كانت خريطة مرسومة بدقة لجزء قديم من دمشق، وعليها علامة عند بئر مهجورة في طرف الحي القديم. انتابها شعور غريب. هل كان السر مخبأً هناك؟ توجهت إلى البئر المهجورة بقلب خافق. عندما نظرت إلى الداخل، لم ترَ سوى الظلام والرطوبة. لكنها لاحظت حجراً بارزاً في أحد جوانب البئر. ضغطت عليه، سمعت صوت طقة خفيفة، وانفتح جزء مخفي في الجدار. وجدت صندوقاً خشبياً صغيراً. فتحته بتردد. كان بداخله رسالة أخرى ومفتاح صغير. الرسالة كانت تحمل خطه أيضاً، وتضمنت اعترافاً مؤلماً بأنه كان مشاركاً في عمل سري قبل وفاته، وأن هذا العمل قد يعرضها للخطر. كان المفتاح يفتح خزانة صغيرة في غرفة دراستهما.
عادت إلى المنزل بقلب يخفق بالخوف والتوتر. فتحت الخزانة. وجدت بداخلها ملفاً يحتوي على وثائق وصور تشير إلى شبكة خطيرة كان فارس يحاول كشفها. أدركت أن موته لم يكن مجرد قدر، وأنها الآن متورطة في هذا السر الخطير.
توقفت سلافة، والصندوق الخشبي بين يديها، كأنها تحمل ثقل العالم. لم يعد الأمر مجرد حنين لـفارس، بل واقعاً مظلماً يربطها بشبكة من الخطر لم تكن لتتخيلها. ابتسامته في الصورة على المكتب، التي كانت تذكرها بقوته وعزيمته، تحولت إلى تحدٍ يواجهها. أغمضت عينيها، تستجمع شتات نفسها. في تلك اللحظة، لم تعد مجرد حبيبة فقدت حبيبها، بل أصبحت وريثة سر، وشهيدة على حقيقة مؤلمة.
فتحت عينيها، وكان قرارها قد ترسخ. لن تدع ما فعله فارس يذهب سدى. لن تسمح بأن يكون موته مجرد حادث، أو أن تبقى الحقيقة مدفونة. كان الخوف يلتف حول قلبها كالأفعى، لكن الإصرار على معرفة الحقيقة كان أقوى. رفعت رأسها، عازمة على أن تضيء هذا "الظل الخفي"، مهما كلفها الأمر. فذكراه لم تكن لتُحفظ في عبير الياسمين وحسب، بل في الكشف عن الحقيقة التي ضحى من أجلها.
انغمست سلافة في عالم فارس السري، تتتبع كل خيط في الوثائق، وتتعقب آثاراً خفية قادتها إلى عمق شبكة فساد كبرى. لم تكن طريقها سهلة؛ التهديدات المبطنة، والنظرات المريبة، وشعور المراقبة الدائم أصبح جزءاً من حياتها. حتى مكالمة هاتفية غامضة من صوت رجولي خشن، يحذرها ويهددها بالعواقب الوخيمة، لم توقفها. بل زادتها يقيناً بأنها تسير في الاتجاه الصحيح.
أخيراً، وصلت سلافة إلى ذروة ما بدأه فارس: وثائق دامغة تدين كبار المتورطين في الشبكة. لم تعد قادرة على الاحتفاظ بها. بقلب مثقل بالخوف، لكن يملؤه إيمان عميق بقضية حبيبها، اتخذت قرارها. في فناء دمشق القديم، تحت ضوء القمر الفضي، التقت بكاتب صحفي مشهور بمعارضته للفساد. سلمته كل ما بحوزتها، مع علمها بالمخاطر. بعد أيام، انفجرت القصة في الأوساط الإعلامية، هزّت أركان السلطة، وكشفت عن وجوه حقيقية لطالما اختبأت في الظل.
أضيء "الظل الخفي" الذي طارد فارس، وكشف المستور. لم تنتهِ المخاطر تماماً، لكن الحقيقة كانت قد خرجت إلى النور، وأصبح صوت فارس مسموعاً عبرها. عاشت سلافة حياتها بعد ذلك، ليس كضحية، بل كبطلة حملت راية الحقيقة، متذكرة فارس لا بالحزن فقط، بل بالفخر والانتصار.





































