قبل عام من حرب اكتوبر اتخذ الرئيس محمد أنور السادات قرارًا مفاجئًا بشأن الخبراء الروس، يتمثل هذا القرار في أن الخبراء الروس الذين كانوا يشرفون على حائط الصواريخ الجوية ويمدونها بالوقود الخاص بها غير مرحّب بهم في مصر، وطردهم من البلاد.
ولكن للأسف كانت تداعيات هذا القرار كارثة بكل المقاييس منذ الوهلة الأولى، فكيف لمصر أن تحارب دون دعم الاتحاد السوفيتي حينها وخبراءه؟
وقبل أربعة شهور فقط من الموعد الذي حدده السادات للحرب، برزت مشكلة لم تكن في الحسبان، وهو أن معظم الوقود الخاص بصواريخ الدفاع الجوي انتهت صلاحيته ولم يعد صالحًا لتشغيل الصواريخ، والبعض الآخر على وشك الانتهاء!! ومعلوم أن هذا الوقود كان يأتي من روسيا وكان يُشرف على حائط الصواريخ خبراء روس، لكن بعد طردهم من مصر ما كانوا أبداً أن يُصدِّروا تلك الوقود لمصر مرة ثانية.
إذن فما المخرج؟ وبعد فترة وجيزة ستدق طبول الحرب، وهل سيتم تأجيل الحرب، أم ماذا سيكون؟
حَزَنَ الرئيس السادات على هذه الظروف التي طرئت وما كانت متوقعة حُزناً شديداً، وبالرغم من ذلك لم يكن مقتنعا بضرورة إلغاء أو تأجيل الحرب كما أشار علية رفقاءه، وبسبب إصراره على الحرب، تم وضع القيادة العسكرية أمام خيارين: إما إيجاد حل، أو التورط في حرب ستدمر مصر خاصة وأن عبور القوات المسلحة المصرية إلى الضفة الشرقية يتوقف على الحماية التي توفرها حائط الصواريخ المصري ضد الطيران الإسرائيلي.
وخلال أحد الاجتماعات المكثفة التي عُقدت في يونيو ١٩٧٣م طالب أحد الخبراء العسكريين باستشارة العلماء والباحثين لا سيما علماء الكيمياء؛ حيث هذا الأمر يتعلق بمجالهم وبعلمهم أكثر منهم لغيرهم، لكنَّ الأصوات تعالت بعدم جدوى استشارة علماء مدنيين لا علاقة لهم بأمور الحرب، وفي النهاية حسم الرئيس السادات هذا الخلاف بوجوب استدعاء أبرز علماء الكيمياء على الفور. وبالفعل، بعد دقائق من هذا القرار تحركت سيارة خاصة لمنزل عالم كبير في الكيمياء، وتم إحضارهُ للقيادة السياسية لحل هذه المشكلة!
تُرَى مَنْ هذا العالم الذي لجأوا إليه لحل هذه المشكلة؟ وهل فعلًا استطاع أن يحل أزمة الوقود؟ وماذا صنع؟
إنه العالم الكيميائي الشاب الدكتور (محمود يوسف سعادة)، أحد الباحثين بالمركز القومي للبحوث بمصر، وكان عمره حينئذٍ خمسة وثلاثين عامًا.
حضر الدكتور سعادة، ولم يكن مَنْ ذهب لإحضاره قد أخبرهُ بأي شيء غير أن المسؤولين يريدون لقاءه على الفور من أجل مصر..... وعندما حضر وجلس مع القادة، أخبروه بهذه المشكلة، فما كان من الدكتور سعادة إلاَّ أن ابتسم وأبدى كلاماتٍ رقراقة مفعمة بالأمل والتفائل في الخروج من هذه الورطة.
طلب الدكتور سعادة عينات من الوقود الذي قد انتهت صلاحيته، فتم إحضار العينات له، وانكبَّ الدكتور سعادة على تلك العينات في معمله بالمركز القومي للبحوث، وبصحبة فريقه البحثي، واصل الليل بالنهار حتى توصل إلى فك شفرة مكونات الوقود إلى عوامله الأساسية ونسبة كل عامل من ھذه المكونات. وفي خلال شهر واحد نجح الدكتور محمود سعادة من استخلاص 240 لترًا وقود جديد صالح للاستخدام!!
وللتأكد من جودة هذا الوقود الجديد الذي قد تم تحضيره، تم إجراء تجربة شحن صاروخ بھذا الوقود وإطلاقه في الفضاء، وكانت النتيحة هي النجاح التام، وعمَّ الجميع الذين حضروا التجربة فرحُ طاغي وانطلقوا يھتفون بحياة مصر.
وكان لابد من استثمار ھذا النجاح؛ فتم تكليف أجھزة المخابرات العامة بإحضار زجاجة عينة من ھذا الوقود من دولة أخرى غير روسيا، وبسرعة يتم إحضار العينة، كما تم استيراد المكونات كمواد كيماوية. وانقلب المركز القومي للبحوث بالتعاون مع القوات المسلحة إلى خلية نحل كانت تعمل 18 ساعة يوميا. ونجح أبناء مصر مدنيين وعسكريين الذين اشتركوا في ھذا الجھد العظيم في إنتاج كمية كبيرة (45 طن) من وقود الصواريخ. وبھذا اصبح الدفاع الجوى المصري على أھبة الإستعداد لتنفيذ دوره المخطط له في عملية الھجوم. وقد كانت مفاجأة ضخمة للخبراء السوفييت – كان مازال بعضھم موجودًا– الذين علموا بما قام به المصريون دون استشارة أو معونة منهم.
وبهذا أصبح الدكتور محمود سعادة من خلال علم الكيمياء وإخلاصة بالعلم لبلدة ووطنه أحدَ أبطال نصر أكتوبر المجيد دون أن يطلق رصاصة واحدة أو أن يرتدي بزة عسكرية، وصدق لواء طيار محمد ذكي عكاشة حين أطلق عليه «جند من السماء» في كتابه الذي يحمل هذا الاسم.