في هَذِهِ الأَيَّامِ الشَّرِيفَةِ المُنِيفَةِ الَّتِي نَسْتَقْبِلُ فِيهَا عَامًا هِجْرِيًّا جَدِيدًا، وَنَتَذَكَّرُ مَعَهُ هِجْرَةَ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ؛ تَبْرُزُ الْكَثِيرُ مِنَ الدُّرُوسِ وَالْعِبَرِ وَالْفَوَائِدِ الَّتِي تَصْطَحِبُهَا الْهِجْرَةُ فِي نَسَمَاتِ ذِكْرَاهَا، مِنَ الأَمَلِ وَالصَّبْرِ وَالصُّحْبَةِ وَالإِيثَارِ وَالْمَعِيَّةِ وَالصِّدْقِ وَالأُخُوَّةِ....
إِلَى آخَرِ تِلْكَ الدُّرُوسِ الَّتِي هِيَ حَدِيثُ السَّاعَةِ الآنَ عَلَى السَّاحَاتِ وَالشَّاشَاتِ وَالْمَنَابِرِ.
وَلَكِنْ يَظَلُّ هُنَاكَ دَرْسٌ مُهِمٌّ، رُبَّمَا لَمْ يَأْخُذْ حَظَّهُ مِنَ الْحَدِيثِ كَبَاقِي الدُّرُوسِ، رَغْمَ أَنَّ لَهُ مِنَ الأَهَمِّيَّةِ مَا يَسْتَوْجِبُ الْحَدِيثَ عَنْهُ لا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْفَتْرَةِ الَّتِي نَحْيَاهَا.
أَلَا وَهُوَ بِنَاءُ الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
فَهَذِهِ الذِّكْرَى تَذْكُرُنَا بِيَوْمٍ أَنْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَأَسَّسَ فِيهَا الدَّوْلَةَ الْإِسْلَامِيَّةَ الْجَدِيدَةَ، وَقَامَ بِالتَّأْسِيسِ وَالتَّنْفِيذِ الْعَمَلِيِّ لِتَشْيِيدِ أُولَى لُبَنَاتِ مَعَالِمِ الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
وَلَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُفَكِّرُونَ حَوْلَ إِقَامَةِ الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ مَتَى كَانَتْ، عَلَى عِدَّةِ أَقْوَالٍ:
1- أُسِّسَتِ الْحَضَارَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ، الَّذِي كَانَ الدُّسْتُورَ وَالْخَرِيطَةَ الَّتِي رَسَمَتْ الْمَعَالِمَ وَوَضَعَتِ الْأَرْكَانَ وَالزَّوَايَا.
2- قِيلَ: بَلْ أُسِّسَتْ بِبَعْثَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَهُوَ الَّذِي أَخْرَجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَمِنَ الْجَهْلِ إِلَى الْعِلْمِ وَالْفِكْرِ، وَمِنْ وَأْدِ الْبَنَاتِ إِلَى احْتِرَامِ الْحَيَاةِ.
3- قِيلَ: كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِلْعَرَبِ حَضَارَةٌ بِهِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَبِالْهِجْرَةِ كَانَ التَّمْكِينُ الْحَقِيقِيُّ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ بِإِقَامَةِ الدَّوْلَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْجَدِيدَةِ الْمُسْتَقِلَّةِ، وَالْغَزَوَاتِ وَالْفَتْوَحَاتِ وَالْغَنَائِمِ، وَنَشْرِ الْعِلْمِ وَتَخْرِيجِ الرِّجَالِ.
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
وَإِنِّي لَا أَرَى تَعَارُضًا بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ أَبَدًا؛ فَالْحَضَارَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وُلِدَتْ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ بِبَعْثَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ظَلَّتْ تَنْمُو وَتَكْبُرُ فِكْرًا وَطُمُوحًا، حَتَّى جَاءَ الْوَقْتُ الَّذِي تَحَوَّلَتْ فِيهِ الْأَفْكَارُ إِلَى وَاقِعٍ وَالطُّمُوحُ إِلَى عِمْرَانٍ مَشْهُودٍ.
👈 فَالْهِجْرَةُ النَّبَوِيَّةُ كَانَتْ حَدَثًا مُهِمًّا؛ لِأَنَّهَا بَدَايَةُ التَّمْكِينِ لِلْمُسْلِمِينَ ... بَدَايَةُ الْعِمْرَانِ وَالْبِنَاءِ ... بَدَايَةُ تَكْوِينِ الْجَيْشِ ... بَدَايَةُ الْمُؤَاخَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ ... بَدَايَةُ الْفَتْحِ وَالتَّوَسُّعِ الْعُمَرَانِيِّ وَالْفِكْرِيِّ بَيْنَ رُبُوعِ الْبِلَادِ ... بَدَايَةُ الْبَعْثَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالدِّبْلُومَاسِيَّةِ...
فَالْهِجْرَةُ هِيَ ذِكْرَى تَأْسِيسِ الْحَضَارَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
👈 وَإِنَّ مِنْ وَاجِبِنَا حِيَالَ تِلْكَ الذِّكْرَى أَنْ نَتَرَسَّمَ خُطَاهَا، وَأَنْ نُطَبِّقَ مَا رَسَخَتْهُ مِنْ قِيَمٍ وَمَبَادِئَ، لَعَلَّنَا نَسْتَعِيدُ حَضَارَتَنَا مِنْ جَدِيدٍ.
وَمِنْ أَهَمِّ الْقِيَمِ الَّتِي تَرَسَّخَهَا الْهِجْرَةُ النَّبَوِيَّةُ:
الإِيثَارُ، وَالْمَحَبَّةُ، وَالأُخُوَّةُ، وَتَوْثِيقُ الصِّلَةِ بِاللَّهِ، وَالصِّدْقُ، وَمُرَاعَاةُ الْكَفَاءَةِ، وَالتَّخْطِيطُ، وَالأَخْذُ بِالأَسْبَابِ، وَاخْتِيَارُ الصَّدِيقِ الصَّالِحِ، وَالْمَعِيَّةُ، وَالأَمَلُ ...
فَالْأَمَلُ الْفَسِيحُ وَالْعَمَلُ الْمُرِيحُ هُمَا أَسَاسُ بِنَاءِ أَيِّ حَضَارَةٍ.





































