العسكري
تناهت إلى أسماعنا جلبةٌ في الخارج، وأصواتٌ عالية، مع بزوغ أول ضوء للفجر. كان الفجر وقتها ينساب بخيوطه الأولى، يلوّن السماء بخطوطٍ شاحبة بين الرمادي والبرتقالي، فيما الديكة تصيح من بعيد، كأنها تُنذر الناس بأن شيئًا جللًا قد وقع. كنا داخل سقيفة البيت، نتحلق حول جمرات النار المضرمة في جذع نخلة عجوز، وقد كنا نستدفئ بحرارتها بعدما لفحنا برد الليل القارس. كان الدخان يتصاعد منها خفيفًا، يلسع العيون ويمتزج برائحة الخشب المحترق، ورائحة البلح الجاف الذي ألقته جدتي عمدًا في النار لتضفي على المكان مسحةً من الدفء والحنين.
هرعنا نحو مصدر الأصوات، متسابقين بخطواتٍ متعثّرة فوق الأرض المبتلة بالندى. كنتُ متشبثًا بذيل جلباب جدتي، أرتجف بين خوفٍ وفضول، فيما تبعتنا زوجة عمي وهي تكاد تتعثر من سرعة اندفاعها. في لحظاتٍ سبقتنا إلى الحلقة المتجمهرة من الناس، رجالٌ ونساء، كبار وصغار، كلهم التفوا على عجلٍ، تتصاعد أصواتهم بالدهشة والوجل، والكل يتهامس وكأنهم يشهدون أمرًا لم يرَوه من قبل.
هناك، وجدنا جسدًا مُسجّى على الأرض، مضرجًا في دمائه، والدماء تسيل لتختلط بالتراب المبتل وتترك بقعًا داكنة كأنها شواهد على مأساةٍ مفجعة. كان الجسد مغطى بفروع صغيرة من شجرة الصفصاف والسيسبان، وضعتها الأيدي المرتجفة في محاولةٍ لإخفاء فظاعة المشهد. ومع ذلك، كانت بعض ملابسه الميري ظاهرة، أزرار لامعة وبقايا قماش ممزق، تشير بوضوح إلى كونه عسكريًا في الجيش. أما وجهه، فقد غُطي بجريدة قديمة، بالكاد تخفي ما وراءها من مأساة.
ارتفع صوت زوجة عمي فجأةً، وهي تصرخ بصوتٍ يخترق الجموع:
– أخويا حسن....إنه هو بلباس الجهادية
أرادت أن تكشف وجهه، غير أن الواقفين أمامها منعوها، رفعوا أذرعهم ليحولوا دونها، لكن إصرارها كان أشد من محاولاتهم. كانت تبكي وتنتحب، تضرب كفًّا بكف، وتصرّ على أن ترى وجهه مهما كلّف الأمر. وتحت إصرارها وصراخها، كشفوا عنه أخيرًا.
كنتُ أنا وجدتي قد وصلنا في تلك اللحظة إلى مسرح الحدث. رأيت وجهه، فرأيت فجيعةً ما كنت أتخيل أن عيني قادرتان على احتمالها. كان ممزقًا، تغطيه دماءٌ غزيرة، وقد ضاعت ملامحه تمامًا. لقد كان وجهه مسوًى بالأرض من تحته، مسحوقًا تحت عجلات الحديد. كان المنظر مخيفًا... فظيعًا؛ لا شيء يمكن أن يضاهي هول تلك اللحظة. لقد دهسه القطار، ولم يترك فيه سوى أطيافٍ من ملامح بشرية تلاشت في وحشية الموت.
ورغم اختفاء الملامح، قالت زوجة عمي، بعد أن تفحصت أصابع يديه بعينٍ دامعة وذاكرة يقظة:
– الحمد لله، ليس حسن.
كان أخوها حسن مقطوع الخنصر الأيمن منذ طفولته، أما هذا العسكري، فكانت أصابعه مكتملة سليمة. كان ذلك التفصيل الصغير كفيلًا بأن يبدّد شكها، ويعيد إليها أنفاسها، رغم أن الفجيعة لم تكن أقل وقعًا على من حولها.
بدأ الناس يتساءلون بوجوهٍ مصفرة، وشفاهٍ ترتجف:
– هل سقط من القطار؟
– أم أنه كان يعبر السكة الحديد؟
لكن الاحتمال الأخير بدا مستحيلًا، فالكل يعرف أن هذه المنطقة لا تحوي منازل سوى بيتنا، ويفصل بيننا وبين الخط الحديدي سدٌّ من جذوع النخل، أقمناه منذ زمن فوق مياه ترعةٍ عميقة، ليكون معبرًا ضيقًا لا يمر عليه سوانا وأهلنا. إذاً، ما من شك أنه غريب... وقد سقط من القطار.
كل شيء من حولي بدأ بالتسارع. الأصوات تعلو وتزداد، الرجال يهرعون إلى مكان الحادث، النساء يندبن، الأطفال يتدافعون ليظفروا بنظرةٍ عابرة، وأنا... أصبتُ بالذهول. لم أعد أسمع الأصوات بوضوح، صارت كأنها تأتي من بئرٍ عميق. لا أدري كم من الزمن مضى، حسبته دهرًا. وقفت في مكاني كأنني جُمدت، عاجزًا عن الحركة أو النطق. كنت متجمّدًا، كلوح ثلجٍ في ليلة شتويةٍ قارسة. جفّ حلقي، وابتلعت لساني، وأصابني الخَرَس. لم أعد قادرًا على الكلام أو حتى على تحريك قدميّ خطوة واحدة.
كان المشهد أمامي أكبر من طاقة طفولتي. تخيلت أنني أشاهد لقطةً من فيلمٍ أجنبي، فيلم دموي يقتحم الشاشة بلا رحمة. وعندما رأيت أحد الرجال ينحني ليمسك جزءًا من ساق العسكري – وكانت قد بُترت وابتعدت عنه مسافة – أدركت أن ما أراه ليس خيالًا ولا سينما. عرفت أنه حقيقي... حقيقي حد الفزع. مشهدٌ لا يمكن لعقلٍ صغير أن يستوعبه بسهولة. لقد كانت تلك أول مرة في حياتي أشاهد فيها حادث قطار عن قرب، وكنت أظنه من قبل شيئًا لا يقع إلا في الأخبار أو في الحكايات.
سامح الله زوجة عمي التي أصرت على كشف وجهه... لولاها لربما بقي المشهد غامضًا، وربما بقيت صورته إنسانًا مجهول الملامح. لكن إصرارها جعل الدم واللحم الممزق ينطبعان في ذاكرتي إلى الأبد.
لا أدري من الذي أسرع إلى إبلاغ الشرطة والإسعاف، ولا كيف وصلت الأخبار بهذه السرعة، لكني رأيت رجال الشرطة والمسعفين يقتربون بخطواتٍ حذرة، يطلبون من الناس الابتعاد عن مكان الحادث، حتى يتمكنوا من أداء عملهم دون إعاقة.
وبينما كان الضابط يراقب المشهد بوجهٍ متجهم، انحنى أحد المسعفين إليه، وقال بصوتٍ خفيض يكاد يهمس:
– القتيل مضروب بسكين حاد في صدره... ضربات متعددة.
عندها فقط، بدا أن ما حدث لم يكن حادث قطار عابرًا... بل جريمةً أعمق مما ظننا.





































