آخر الموثقات

  • مـفهـوم الكيميــاء عنـد الصوفيـة
  • صوته
  • يوم خرجت من دمشق
  • المظهرة بالملابس
  • صورتي و خواطر
  • نعمة الإحساس 
  • المعادله لازم تكون واضحه في الأذهان
  • هل قلة الأدب من حسن الخلق ؟
  • وماذا لو جاء معتذرًا؟
  • رواية الهودو - الفصل العاشر
  • رواية الهودو - الفصل التاسع
  • هياكل النجوم -1
  • ما أنا إلا جزء من الكون يسبح
  • مقايضة لا مرئية - قصة قصيرة 
  • يا آسري
  • شخص من عالمي 
  • المخ ... هو المطبخ
  • ثروة المعلم الحقيقية
  • خليليات: رحم الله الاستاذ الدكتور محمود أبو الفتوح
  • الوزيرة والحجاب و العالم الجليل
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة نجلاء لطفي
  5. نور في حياتي

 

في كل القصص التي قرأتها يُعجب الشاب الثري الوسيم بالفتاة الجميلة حتى لو كانت فقيرة وتبدأ بينهما قصة حب ، ويتحدى الكون من أجلها وفي النهاية يُسعدها. هكذا تقول الحكايات وها أنا أُهيء نفسي لتلك الفرصة التي جاءتني على طبق ذهبي، فقد مرض شريك والدي وصاحب عمره الحاج عبدالرحمن ولأنه ليس له أبناء ذكور وابنتيه صغيرتان في المرحلة الثانوية فقد استعان بإبن أخيه المحاسب الذي كان يعمل في دبي لإدارة أعماله، وأصبح ماجد هو الشريك الفعلي لأبي وهو من يتخذ القرارات- حيث أن الحاج عبد الرحمن يمتلك ثُلثي الشركة- خاصة بعد أن أثرت الجلطات على مراكز الذاكرة عند الحاج عبد الرحمن. ومن هنا بدأت أحلامي -التي يشجعها أبي لتحقيق مصلحتنا معا- بالإرتباط بماجد لأصبح زوجة ذلك الثري الذي يديرويتحكم في ثُلثي الشركة بينما يمتلك أبي الثُلث فقط  ، وكنت شبه متأكدة من الإيقاع به بسبب جمالي الملفت للنظر حيث بشرتي الخمرية وعيوني الزرقاء وشعري البني الناعم بالإضافة لجسدي المتوسط الطول الممشوق ، كل تلك الصفات كانت دائما تجذب الأنظار إلي وتجعلني محل الإعجاب ولأني لا أؤمن بالحب فكنت أنتظر ذلك الذي يستطيع إسعادي بماله تقديرا لذلك الجمال، كما كانت أمي تقول لي دائما. كان زملائي في كليتي يسمونني (الليدي ديانا) بسبب جمالي وترفعي عن أي علاقة مع أي زميل فكلهم يحتاجون أكثر من 10 سنوات عمل ليستطيع أن يوفر لي ما أحتاجه وأنا لم أكن لأضيع شبابي وأجمل سنوات عمري من أجل أي شخص.

تقول عني زميلاتي أني مغرورة بجمالي ومادية جدا، لكن في الحقيقة أنا أقدر ما لدي من المميزات جيدا فأنا لست من عائلة كبيرة أو ثرية ولست متفوقة دراسيا، لذا فأهم مميزاتي هي الجمال والأنوثة، أما عن كوني مادية فأنا لا أحب المال في حد ذاته إنما أحبه كوسيلة لشراء ما أحتاجه ولأحيا حياة مريحة لا أشقى فيها لأجمع نفقات تعليمي ، أو أشتاق لشراء فستان ولا أستطيع ، بل حتى حينما أتزوج وعندما يكون لدي أطفال لا أستطيع تعليمهم جيدا أو توفير العلاج المناسب بسبب الفقر وأعيش دائما أحمل هم تدبير نفقات المعيشة. كل ما أريده حياة كريمة لا شقاء فيها ، كما كانت أمي رحمها الله تقول لي:

- عيشة الفقر تقصر العمر

قررت أن أبدأ في تنفيذ خطتي اليوم فسأذهب اليوم للشركة بحجة رؤية أبي الذي نسي أن يترك لي مالا لشراء كتبا دراسية وسأخترع أي حجة ليراني ماجد وبالطبع سيقع صريعا لجمالي، ولن يستطيع مقاومة أنوثتي كغيره وعندها سيطلب الزواج مني وأعيش معه في حياة الرفاهية والثراء.

ذهبت للشركة وأنا أرتدي بنطلون جينز يلتصق بجسدي وفوقه بلوزة قطنية حمراء وأطلقت لشعري الحريري العنان، وعندما اقترب من باب الشركة جاءت سيارة مسرعة بجواري وكانت هناك حفرة تجمع الماء بها فنثرت السيارة الماء على ملابسي ووجهي فتوقف قائدها وقبل أن يتكلم قلت له:

-إيه اللي هببته ده؟ لما ما بتعرفوش تسوقوا بتركبوها ليه؟اللي زيك يركب ميكروباص أو توكتوك مش عربية، كده بهدلت هدومي وشعري؟

-أنا كنت نازل أعتذر لك وأساعدك لكن لسانك الطويل ده خلاني ندمت إني ما دوستش عليكي

-إنت قليل الأدب

-وإنتي مش متربية

تركني وانطلق بسيارته وأنا أستشيط غضبا من صفاقته وغروره . دخلت الشركة وبراكين الغضب تستعر بداخلي ولكن أحد رجال الأمن الذين يعرفونني جيدا أشار علي بدخول حمام للسيدات لإصلاح ما أفسده ذلك الوقح برعونته فوافقت. بعد عدة دقائق صعدت لمكتب أبي وقد تعكر مزاجي تماما وفكرت أن أؤجل لقائي بماجد بسبب ما حدث لي ولكن قبل أن أقرر أي شيء دخل أبي وملامحه متوترة لكنه أخفى ذلك عني وقال:

-صباح الخير يا نور قلبي ياترى إيه سر الزيارة السعيدة دي؟

-صباح الخير بس حضرتك نسيت تسيب لي فلوس الكتب وأنا محتاجاها ضروري

-معلش يا حبيبتي بالي مشغول شوية أدي الفلوش أهي

-ميرسي يا حبيبي

ونهضت لأطبع قبلة على وجنته عندها فُتح الباب ودخل أحدهم ثم قال مرتبكا:

-أسف إني دخلت من غير استئذان بس كنت فاكر حضرتك لوحدك

-تعالى يا ماجد مافيش حد غريب دي نور بنتي

إلتفت لأجده ذلك الوقح الذي أفسد يومي فنظر إلي بإزدراء وقال:

-أهلا

فلم أجبه فتجاهلني وقال :

-من فضلك يا عم حسين لما تخلص عايزك ضروري عندنا إجتماع مهم

فقلت لأبي :

-أنا هامشي وأشوفك بالليل

وانصرفت دون أن ألقي عليه التحية أو أعيره أي إهتمام وأنا واثقة أنه سيأتيني زاحفا يوما.

ذهبت للجامعة وصورة ذاك الوقح لم تفارق خيالي بعينيه السوداء ذات النظرات الحادة، وبشرته القمحية اللون وشعره الأسود المجعد وجسده العريض متوسط الطول وكأنه مصارع خارج للتو من الحلبة.

عاد أبي مساءا متكدرا وحاولت أن أعرف السبب فقال لي بانكسار :

-ماجد عايز يفض الشراكة بيننا وبيقول إنه هيغير أسلوب إدارة الشركة وطريقة العمل ومش محتاج شريك غريب بينه وبين عمه وإن هو هيحل محلي بفلوسه

وقفت مندهشة وغير قادرة على استيعاب كلماته وقلت بغضب:

-الواطي، طب ورأي عمه إيه؟

-عمه ده تركيزه بقى ضايع عشان كده سلم كل حاجه لماجد

-وإنت هتعمل إيه يابابا؟ هتقدر تفتح شركة لوحدك؟

-طبعا لأ فلوسي ما تخلنيش أقدر أشتغل لوحدي المقاولات بتحتاج فلوس كتير

-بس إنت سمعتك كويسة وأي حد يتمنى يشاركك

-أتمنى ألاقي حد يشاركني وإلا خلال 3 سنين بالكتير هنبقى مفلسين

-معقول يا بابا؟

-طبعا العيشة اللي احنا عايشينها وعربيتك وجامعتك الخاصة كل ده محتاج مصاريف كتير

-هانت أنا هاتخرج السنة دي ومصاريفي هتخف عنك

-ولو جالك عريس أجهزك إزاي

-سيبها على الله تعالى بس نتعشى وبعدين نفكر بهدوء

-ماليش نفس كلي إنتي أنا هادخل أنام

-ومين له نفس ما صدها المغرور ده

كنت أتصور أن يأتي أبي اليوم فرحا بسبب طلب ماجد لزواج مني كما يحدث في الروايات، لكن يبدو أن الواقع يختلف كثيرا عن الروايات لقد قرر الوقح أن يتخلص منه تماما ويُلقي بنا في سلة المهملات ليستحوذ على الشركة، لكن سأجعله يندم سأبحث عمن هو أكثر ثراءا منه وأتزوجه وأتركه يتجرع ألام الندم وحده،لكن المهم أين أجده؟ وهل سيسعدني ويقدرني؟لماذا يعاندني القدر ويقف في طريق أحلامي؟

مر بنا أسبوعا كئيبا وخاصة أن أبي انشغل بتصفية الشراكة ونقل كل ملفاته وأشياؤه من مكتبه في الشركة إلى مكتبه في البيت وكان يكبح غضبه ويُخفي حزنه على سنوات جهد وشقاء جاء ذلك الأحمق ماجد ليجني ثمارها بدون تعب ثم يُقصيه بمنتهى الأنانية وكأنه عفا عليه الزمن. في اليوم الأخير لأبي في الشركة أصر ماجد على عمل حفل تكريم لأبي في أحد الفنادق الكبرى وفي نفس الوقت عمل دعاية ضخمة لشركته الجديدة، أصر أبي على رفض الحضور وأصررت أنا على الحضور لنثبت لذلك الأحمق أننا مازلنا نقف على أقدامنا ولم نهتز لفض الشراكة، لن نبدو بصورة الضعفاء الذين خسروا كل شيء واستكانوا في الظل ، بل يجب أن نظهر وكأننا لانبالي ولم نتأثر. سأقف بقوة خلف أبي أدعمه ليتجاوز تلك الأزمة ، لن اتركه يسقط فريسة للحزن، سأبذل كل ما في وسعي ليصبح أفضل مما كان.

في يوم الحفل حرصت أن أكون في أبهى صوري وكأنه يوم عُرسي لأجعل ذاك الأحمق يندم على كل ما قاله في حقي وحتى لايشعر بحزننا على ما فعله بأبي. ذهبنا للحفل التي كانت تضج بكبار رجال الأعمال ممن أعرفهم ومنهم من لا أعرفهم لكنهم كانوا جميعا يعرفون أبي وقد بهرهم جمالي في فستاني الوردي ذو الأكمام الشيفون والذي يصل إلى ركبتي، وشعري البني الحريري الذي أطلقت عنانه وزينتي البسيطة التي أظهرت جمالي ، والحذاء ذو الكعب العالي الذي زاد خطواتي فتنة وأنوثة. رأيت كل العيون تعلقت بي، حتى ماجد رأيت في عينيه نظرات الإعجاب وارتسمت على وجهه ابتسامة وجاء مرحبا بنا وقال لأبي:

-كنت هازعل جدا لو ماجيتش أنا عامل الحفلة دي لتكريمك

ثم مد يده والتقط يدي وقبلها برقة وقال:

-نورتي حفلتنا يا نور هانم

فنظرت له بتعال وقلت:

-ميرسي

اندمجنا مع الحاضرين ورغم نظرات الإعجاب إلا أن شخصا لزجا كان يتبعني بنظراته وابتسامته السمجة أينما وجهت نظري أجده أمامي ، وكنت أقذفه بنظراتي الحادة، لكن ذلك لم يردعه. أقام ماجد مسابقة لملكة جمال الحفل واشتركت فيها وبالطبع فزت بالمركز الأول وبينما ماجد يهنئني أمسك بيدي قبل أن أنصرف وقال :

-ودلوقتي هنعمل مزاد وإيراده هيروح لصالح أي جمعية خيرية تختارها ملكة الجمال، المزاد ده هيكون على أول رقصة مع الملكة

نظرت إليه مذهولة فقد تعمد إهانتي وعرضي كسلعة وقبل أن أتمكن من الإعتراض إنهالت المبالغ المالية من رجال سفهاء ينفقون مبالغ باهظة من أجل الرقص معي ومعظمهم في سن والدي وقبل أن ينتهي المزاد قال صوت من أخر القاعة:

-100 ألف جنيه

نظرت إليه فوجدته ذاك السخيف الذي يتبعني بنظراته وفوجئت أن المزاد قد رسا عليه، فتقدم با بتسامته اللزجة ليصطحبني للرقص وأنا أشعر بالإشمئزاز من لمساته لكني أظهرت لا مبالاتي به حتى لا أحدث فضيحة علنية في الوقت الذي أحاول فيه تحسين صورة أبي وحتى لا يشمت بي الأحمق الأخر ماجد.

عزفت الموسيقى وبدأنا الرقص ولمسات يديه على جسدي تُشعرني بالغثيان فأشحت بنظري عنه ورسمت على شفتي ابتسامة كاذبة خاصة كلما التقت عيناي بماجد. لم نتحدث طوال الرقص ولم يحاول أن يفتح معي حوارا ربما لشعوره باستيائي منه، حتى انتهت الرقصة وظل ممسكا بي فقلت بقرف:

-الرقصة انتهت

-ياريت ترقصي معايا تاني

-الإتفاق كان على رقصة واحده بس

وعزفت الفرقة موسيقى صاخبة فقلت بسخرية:

-وكمان الموسيقى دي مش هتناسب سنك ولا هتقدر تجاريها دي عايزة شباب

-وإنتي شايفاني عجوز؟

-بس مش شباب عن إذنك

فأمسك بيدي وقال متهكما:

-أرقصي معايا وأزود المبلغ

-أنا مش جارية معروضة في سوق الجواري وهتدفع لها أكتر أنا ما قبلتش السخافة دي غير إن الفلوس هتروح لعمل خيري

فزادت سخريته وقال:

-يعني مش هتروح لبابا عشان يفتح شركته الجديدة؟

اعتراني الغضب لكني تمالكت نفسي وقلت:

-لولا إننا في وسط الناس كنت عرفتك مقامك

تركته وانصرفت ففوجئت بماجد يقول في الميكروفون:

-يا جماعة أكرم بيه عرض يضاعف المبلغ مقابل رقصة كمان مع الملكة إيه رأيكم؟

ضجت القاعة بالتصفيق واتجهت النظرات إلي فاتجهت إليهم بابتسامة صفراء ونظرات توعد لكليهما وقلت:

-ميرسي على ثقتكم فيه يا جماعة لكن ما أقدرش أقوم بعمل الخير كله لوحدي عشان كده بصفتي الملكة بارشح الأنسه باكينام وصيفتي إنها تحل محلي في الرقصة دي

صفق الجميع وتركتهم وخرجت للشرفة لأستنشق هواءا نقيا بعيدا عن كل ذلك الكذب النفاق والخداع والدناءة، فلم أعد أحتمل تلك الحفلة بل شعرت بالإختناق . بعد لحظات جاء والدي متهللا وقال:

-نور قلبي باركيلي لقيت شريك وكمان إيه برأس المال بس وسايب لي الإدارة رغم أن نصيبه أكبر من نصيبي، عارفه مين؟ أكرم الدسوقي اللي كنتي بترقصي معاه

ألجمتني الصدمة حتى بانت على ملامحي فقال أبي فرحا:

-أنا كنت زيك كده مش مصدق لحد ما اتفق معايا نتقابل بكرة ومعانا المحاميين ونكتب العقود

-بس يا بابا ده شكله مش مريح

-مش بالشكل يا حبيبتي ده راجل محترم واسمه في السوق زي الجنيه الدهب

-يعني إنت وافقت خلاص؟ كنت خد فرصة تفكر

-الفرصة هي دي ولازم أستغلها صح

سكت ولم أقل له شيء عن وقاحته وعن سوء ظنه بنا، وأثناء تناول الطعام اقترب مني ماجد وقال بمكر:

-أتمنى الملكة تكون راضية عن الحفلة

نظرت إليه بغرور وقلت بابتسامة مصطنعة:

-كويسة وأهي عرفت كل واحد مقامه، وعرفت ناس نيتهم وحشة إن مكرهم بيتقلب عليهم

ضحك وقال:

-أنا طول عمري نيتي كويسة؟

-هتقولي بدليل عرض الجواري والمزاد اللي عملته عليه، بس أهو كله بثوابه فلوسه هتروح للغلابة

-قلبك فيه الخير

-طبعا مش زي غيري

-إنتي مغرورة أوي بس إن جيتي للحقيقة حقك الحلوين لازم يكونوا مغرورين، إيه رأيك ناخد هدنة ونبقى أصحاب؟

-أنا وانت؟ صعب جدا لأنك مغرور أكتر مني وبتكرهني

فاقترب مني وقال هامسا:

-ومين قالك إني باكرهك؟ مش جايز العكس

نظرت إليه بدهشة فانصرف مبتسما، وتركني أقف حائرة حتى جاء أكرم بابتسامته السخيفة وقال:

-هتعملي إيه بالفلوس اللي كسبتيها من الرقص؟

-مش شايف إنك وقح؟ لولا إننا في وسط الناس كنت ضربتك بالقلم

-أنا قدامك أهه وريني شطارتك، مش عارف ليه متعصبة كده مش من حقي أطمن إن الفلوس وصلت لأصحابها؟

- دي مش وقاحة دي قلة أدب وعدم ثقة

-وليه ما تقوليش إني عايز أتأكد إن الخير اللي اشتركنا فيه هيوصل لمستحقيه؟

-فاهمة إنك مش واثق فيه لكن اللي مش قادرة أفهمه طالما مافيش ثقة كدة عايز تشارك بابا ليه؟

-أبوكي سمعته نضيفة في السوق وشغله كويس وخبرته كبيرة، لكن إنتي ما أعرفش عنك حاجة

-يعني لازم أقدملك تقرير فيه قصة حياتي عشان تثق فيه؟

-لأ طلباتي أبسط من كده أنا مش هادفع الشيك لماجد ولا لكي لكن هاجي معاكي المكان اللي تختاريه وادفع لهم الفلوس

-أه بقى كده؟ طيب إديني مهلة يومين أشوف مين المحتاج وأبقى أتفق معاك عن إذنك

-هتوصلي لي إزاي وإنتي مش معاكي رقمي؟

-لما أعوز أوصل لحاجة باوصلها

-مغرورة

-سخييييف

في تلك اللحظة جاء أبي وقبل أن يتكلم قلت له:

-يالا يا بابا عايزة أمشي لأني تعبت جدا

فقال أكرم:

-اسمحوا لي أوصلكم

فقلت بسخافة:

-عندنا عربيتنا لسه

حاول أبي أن يعتذر بكلمات لم أسمعها لأني انصرفت للخارج وفي طريقي قابلت ماجد الذي قال:

-على فين يا ملكة؟

-تنازلت عن العرش والمملكة ومروحه بيتنا

-وتسيبني لوحدي؟أهون عليكي؟

-باقولك إيه بلاش حركاتك دي وابعد عني انت مش أدي

-تراهني؟ هتكوني ليه مهما تطول الأيام وهاكسر غرورك

-بعينك

تركته واتجهت نحو السيارة غاضبة فقد أفسد الأحمقان ليلتي بل وحياتي.

جفاني النوم وأنا أستعرض حياتنا التي انقلبت رأسا على عقب في أيام قليلة، وهذان الأحمقان اللذان يتنافسان لإفساد حياتي،كم تمنيت أن يكون ما أنا فيه كابوسا وسرعان ما أستيقظ منه، لكنه للأسف واقع علي أن أتعامل معه.

انشغلت بدراستي فأنا في التيرم الثاني من عامي الأخير في الجامعة وأريد التخرج بتقدير حتى أستطيع إيجاد وظيفة تليق بي، وتوفر لي دخلا جيدا يُعينني على الإدخار ليكون لي مشروعي الذي طالما حلمت به وهو شركة كبرى لتصميم الأزياء حيث أني كنت دائما موهوبة في ذلك المجال وحصلت على كورسات كثيرة ، فهل يتحقق الحلم؟ انشغل أبي كذلك مع أكرم في تأسيس الشركة ، وكان أكرم تقريبا كل يوم في بيتنا إما أن يأتي صباحا لإصطحاب أبي أو مساءا لإعادته للبيت حيث أن أبي أصر على بيع سيارته والإحتفاظ بسيارتي فقط حتى تتحسن الأحوال.

أصبح أكرم بكل سخافته مقرر يومي وعلي أن أتعامل معه بلطف من أجل مصلحة أبي، وذات يوم بعد إرتدائي ملابسي للذهاب للجامعة صباحا فوجئت به يجلس في غرفة الإستقبال ويتناول الشاي فقال مبتسما:

-صباح الخير، الملكة اتفاجئت بوجودي؟

-وأتفاجىء ليه إنت بقيت مقرر علينا كل يوم أنا خايفه تنزلي من الحنفية بعد كده

ضحك وقال:

-أد كده وجودي بيضايقك؟

لم ينتظر جوابي إنما وقف واقترب مني وقال هامسا:

-أومال هتعملي إيه لما نتجوز؟

-إيه؟ إنت بتخرف؟ مستحيل

-اقعدي واسمعيني بهدوء مش هاقولك مجنون بحبك وما بانامش الليل من التفكير فيكي، لكن هاقولك عجبتيني ولو وافقتي هاحقق لك حياة كلها رفاهية فيلا وعربية ومجوهرات واللي تطلبيه، بس ليه شرط واحد

-وكمان انت اللي بتتشرط؟ خير

-عايز ولد يشيل اسمي ويورث كل ده

-وده هاجيبه من السوبر ماركت؟ انت اتجوزت مرتين وطلقت حسب معلوماتي مش جايز يكون العيب منك؟

-لأ أنا متأكد وعملت كل الفحوصات اللازمة

-طب ولو ما خلفتش غير بنات؟

-قدامك حل من اتنين إما تفضلي تخلفي لحد ما تجيبي الولد أو أتجوز اللي تجيبه

-فيه حاجه إنت ناسيها إن الأولاد والبنات دول رزق ربنا ماحدش فينا له دخل فيه، بس بما إنك شريك بابا أنا ممكن أديلك نصيحة مفيدة حاول تروح لدكتور نفسي يعالجك وماتخافش هتتحسن عن إذنك إتأخرت

-هاسيبك أسبوع تفكري ومستني ردك

-طلبك مرفوض

-مش هاسمع ردك غير بعد أسبوع

-مجنون

تركته ومشيت وأنا أتعجب من تفكيره هل حقا مازال هناك من يفكرون بتلك الطريقة؟ وليته كان جاهلا إلا أنه متعلما ومن الطبقة الراقية، حقا الإنسان مخلوق من طمع يمتلك أشياء كثيرة ولا يحمد الله عليها ويظل دائما يبحث عما ينقصه. كلما تذكرت عرضه ضحكت وقلت يجب أن ينشر إعلانا يقول فيه ( مطلوب زوجة لإنجاب الصبيان فقط) حتى قابلت ماجد أثناء تناولي الطعام مع صديقاتي في مول قريب من الجامعة فرحب وقال مبتسما:

-يا سلام على التواضع الملكة بتقعد عادي مع الرعية، أخبارك إيه؟

-كويسة

-سمعت إن بابا لقي شريك

-أه وواثق فيه وفي إدارته

-وياترى إيه المقابل؟

-مش فاهمة؟

-يعني مافيش في البيزنس حاجه ببلاش كل حاجه ولها تمنها ياترى إيه التمن اللي دفعتوه؟ علاقة معاكي مثلا

رفعت يدي لأصفعه لكنه أمسك بيدي بقوة وقال مبتسما بمكر:

-إهدي بس أنا على إستعداد أشارككم تاني بشرط نبقى أصحاب

-إنت قذر وعقلك القذر بيصورلك اللي إنت عايز تشوفه، أنا أشرف منك ومنه ومن الكل

-خلاص ماتزعليش يا ست الشريفة ممكن نخليه جواز عرفي

-وليه مش علني لما إنت عاوزني؟

-لأني لازم أتجوز بنت عمي عشان الميراث ما يطلعش بره، لكن إنتي هتبقي حبيبة القلب

-طلبك مرفوض يا ماجد بيه، لأنك قذر في تفكيرك وشغلك وحياتك ولأنك مش اللي اتمنى أتجوزه

-يبقى هتفضلي معنسه كتيرلأن جمالك ده لعنة بتخوف رجالة كتيرمن الجواز بواحدة زيك هتتدلع عليه وطلباتها مالهاش أخر أو هتتجوزي راجل كبير على مراته أو عشان تربي عياله ، الجمال له سن بينتهي فيه يا حلوة

-وليه بتقول كده إنت خايف أتجوز اللي أحسن منك؟

-مين ده اللي أحسن مني؟ أنا مال وشباب ونفوذ يعني فرصة مش هتتكرر

-قريب أوي هتعرف مين اللي أحسن منك يامغرور باي

تركته وأنا أشتعل غضبا هل حقا الجمال لعنة؟ هل سيخشى الكثيرون الإرتباط بي؟ لقد وصلت لسن الزواج ولم يتقدم للزواج بي سوى رجلين ولم يكونا مناسبين لي، هل يقصد تخويفي لأقبل بعرضه؟ أم أنه يقول الحقيقة؟ شعرت بتشوش أفكاري وانتابتني الحيرة وكم تمنيت أن تكون أمي معي لأستشيرها وتنصحني ككل الفتيات، وللأسف ليس لي إلا خالة لكنها منشغلة بحياتها عني أراها في المناسبات فقط ،أما الأقارب والأصدقاء فقد اعتزلهم أبي بعد صدمة وفاة أمي المفاجأة، فصرت وحيدة وليس لي سوى أبي ورغم عشقه لي إلا أن هناك أشياء كثيرة تحتاج الفتاة لأمها لتحكيها لها وتخجل ان تحكيها لأبيها مهما كان حبها له وتعلقها به.

شغلني كثيرا كلام ماجد حتى فوجئت بأكرم يقول لي:

-مش ملاحظة إن الأسبوع عدى من غير ما أعرف ردك؟

-ردي؟

-على موضوع جوازنا

وقفت أنظر إليه وكأني أراه لأول مرة فهو لم يتجاوز الخامسة والثلاثين رغم وجود بعض شعيرات بيضاء في رأسه، كان أطول مني بنحو 10سم ووبشرته الخمرية وعيونه العسلية الفاتحة يجعلانه جذابا إلى حد ما، كم أن أهم مايميزه ثراؤه الذي ورثه عن أبيه ذلك الرجل العصامي الذي حفر في الصخر حتى كون إمبراطوريته، وأيضا ميراثه من والدته الأرستقراطية لم يكن هينا. أفقت من شرودي على صوته يقول:

-سرحتي في إيه؟

-ممكن نتكلم بالعقل؟

-طبعا

-أنا ممكن أوافق على الجواز بشرطين أولا لو ماخلفتش صبيان وانت قررت تتجوز غيري هتطلقني وده شرط هاكتبه في عقد الجواز قلت إيه؟

-والشرط التاني؟

-هنكون شركاء في شركة أزياء إنت بفلوسك وأنا بمجهودي

-خلصتي؟

-أه

-أنا موافق على شروطك واعملي حسابك هنتجوز بعد شهر

-لأ لما أخلص امتحاناتي

-اتفقنا

سعد أبي كثيرا بنبأ زواجي من أكرم فقد كان يراه زوجا مناسبا لي وخاصة أن ثراؤه سيحقق لي حياة كريمة، وأن الشراكة بينهما ستقوى.

كان أكرم مناسب لي بمقاييس العقل وكان زواجنا قائم على الصراحة فكل منا حدد ما يرغبه من الزواج، لم نخدع بعضنا بمشاعر كاذبة أو وعود زائفة. رأيت كثيرا زيجات قامت على الحب وفشلت في النهاية أما الزواج بالعقل فهو من يستمر ويصمد أمام رياح الحياة العاتية،هكذا كانت تقول أمي فزواجها من أبي  كان بالعقل والقلب كما كانت تقول لي و بينهما تفاهم واحترام مما جعل الزواج يستمر بنجاح كما كنت أرى لكنها كانت ستصبح أسعد حالا لو كنا أكثر ثراءا لتؤمن لي مستقبلي فلا أضطر للزواج بمثل أكرم. لم أكن أؤمن بالحب الجارف الذي يعطل العقل ويعمي البصيرة، كان رأي كل زميلاتي أني باردة ومشاعري متحجرة وجمال بلا روح لكني لم أبالي فالجمال الذي لا يتبع العقل يصبح نقمة على صاحبته.

تمت الخطبة بعد أسبوع وحرصت أن تقتصر على عدد محدود من الأصدقاء والأهل وكان على رأس المدعوين ماجد وخطيبته المرتقبة، ارتديت يومها فستانا بلون السماء من الدانتيل الذي يلتصق بجسدي ليبرز مفاتنه وله ذيل من الستان يحيط بخصري ويمتد حتى طرف حذائي ذو الكعب العالي، وكان الفستان بلا أكمام إنما كان معلقا برقبتي ليكشف كتفي ومعظم ظهري، وصففت شعري بحيث يغطي ظهري وحرصت أن تكون زينتي بسيطة . بمجرد أن رآني أكرم ظهر الإعجاب في عينيه لكن لما لاحظ نظرات المحيطين قال هامسا:

-الفستان مبين من جسمك أكتر من اللي ساتره

-الله جميل يحب الجمال

-بس ما بيحبش ان جسمك يكون فرجه للناس

-إنت هتبتدي تحكماتك؟ إنت واخدني وعارف ان ده لبسي ولا عايز تقولي إنك بتغير؟

-لو مش باغير أبقى مش راجل

-ممكن نأجل الكلام ده بعد الحفلة؟

-أوامر جلالتك يا ملكة الجمال بس دي أخر مرة تلبسي لبس مكشوف فاهمة؟

أخرج من جيبه علبة قطيفة فخمة وبها سوار من الماس لم أر في روعته وخاتم مشابه له ووضعهما في يدي فتأملتهما بسعادة فلم أتوقع أن يكون ذوقه راقيا هكذا، فقال هامسا:

-يارب ذوقي يكون عجبك

-جدا ما كنتش أعرف إن ذوقك هايل كده

 ففوجئنا بماجد الذي جاءلتهنئتنا يقول:

-طبعا ذوقه هايل ده أخد الكريمة اللي على وش التورتة حد أده؟ مبروك يا أكرم باشا

-الله يبارك فيك وعقبالك قريب

-إن شاء الله بس يارب حظنا يكون ربع حظك

-اعتبر دي معاكسة لخطيبتي؟

فضحك ماجد وقال:

-لأ اعتبره حسد، ألف مبروك يا ملكة الجمال

فقلت بمكر:

-وأنا كمان مش هتحسدني؟ أنا أخدت راجل مافيش زيه ابن أصول ورجولة وأخلاق عاليه

فقال ماجد بخبث:

-ومال ونفوذ برضه تستاهلي الحسد

انصرف ماجد وفي عينيه معنى واحد (لن تفلتي من يدي) لم أهتم به فمع أكرم -رغم عدم حبي له – كنت أشعر بالأمان لأنه رجل حقا كما ظهر من سلوكه معي ومن عدة مواقف له مع أبي. انتهى الحفل وبعد أن عدنا لبيتنا جاء معنا أكرم وقال لي:

-يمكن ماكانش عندنا وقت نعرف بعض كويس ونعرف طباع بعض ، لكن لازم تعرفي إني باغير على كل حاجه تخصني ومن النهاردة مش هاسمح لك باللبس المكشوف اللي بتلبسيه ده، ما أقدرش أشوف عيون كل واحد بتاكلك وأنا قاعد أتفرج

-تاني؟

-تاني وتالت ورابع، أنا ده طبعي ولازم تتعودي عليه وكمان لما نتجوز لازم تتحجبي

-فيه أوامر تانية؟

-دي مش أوامر ده خوف عليكي وباصونك من عيون الناس المفروض تكوني مبسوطة مش زعلانة

-بس اللي إنت عايزه ده محتاج وقت عشان أقدر أغير لبسي كله وأجيب غيره

-لبسك المكشوف ده خليه تلبسيه ليه لوحدي في بيتنا

قالها وابتسم بمكر فقلت غاضبة:

-على فكرة إنت قليل الأدب

-ماتفهمنيش غلط أنا قصدي مش هترميه هيكون له لازمه برضه

فنظرت إليه بغضب أكبر فقال:

-وإن كان على اللبس الجديد أنا هاشتريلك كل اللي يلزمك

-لأ سيبني أنا هاختار على ذوقي أنا

-اتفقنا بس المهم يكون حشمة

تعجبت بيني وبين نفسي هل حقا يغار علي وهو لا يحبني؟ هل يريد أن يصون جمالي عن العيون؟ لم يقابلني رجل مثله بل الكل –حتى أبي- كان يتباهى بجمالي أمام الجميع، يبدو حقا أنه رجل مختلف.

انشغلت بمذاكرتي وامتحاناتي التي كانت على الأبواب وانشغل هو مع أبي في تأسيس الشركة الجديدة لكنه كان يتصل بي يوميا ليعرف ما فعلته طوال اليوم وماهي خطتي لليوم التالي، لم يلاحقني بكلمات الحب والغزل كما يفعل معظم الرجال معي، أو كما يفعل كل رجل مع خطيبته، فكان ذلك يثير غيظي ويشعرني أني لست جذابة بالنسبة له وهواحساس لم أعرفه مع أحد من قبل.، لكن بررت ذلك بأنه ربما متحفظ لأننا مازلنا مخطوبين لكن بعد الزواج سأسمع منه على الأقل كلمات الإعجاب والغزل لا أقول الحب بل كلمات ترضي غروري كأنثى.

أخذتني المذاكرة والإمتحانات من أفكاري حتى انتهت وبعدها صمم أكرم على تحديد موعد الزفاف ، فرفضت بحجة أني أحتاج لفترة أكبر لتجهيز الفيلا وتغيير مايلزم فرفض بشدة وقال إن أردت أن أغير شيئا فليكن غرفة النوم فقط أما باقي الأثاث فقد قام بتجديده منذ شهرين بواسطة أكبر مكاتب الديكور ، أذهلني رفضه فكل عريس يرغب في تدليل خطيبته وقد يستجيب لبعض رغباتها أو حتى يرفض برقة لكني فوجئت به جامدا لا يلين. وافقت على رأيه وأنا مستاءة وأخترت غرفة نوم من أحد الكتالوجات التي عرضها علي ، كما اخترت لون الطلاء وباقي الكماليات فتعهد بتنفيذ ما أريد وطلب مني أن أستعد للزواج خلال شهر وطلب مني أن أختار القاعة التي أريدها للفرح.

لم أشعر بفرحة الفتاة المقبلة على الزواج بسبب جمود مشاعر أكرم، حقا لا أؤمن بقصص الحب الملتهبة ولكن ذلك لا يعني أن يعاملني بكل هذا الجفاء ولا يُشعرني بأنوثتي ولا بحقي كعروس، وزاد إحساسي بالفتور لأني أفتقد وجود أمي معي وليس لي أصدقاء سوى كريمة تلك الفتاة قريبة والدتي التي كانت تشاركني في ذكريات الطفولة، فقررت أن أطلبها لتكون معي في تلك الأيام فقد كانت أمي تحبها كثيرا وكم أوصتني عليها ولأني لم يكن لي سواها بعد سفر خالتي مع ابنتها فلجأت إليها

رحبت كريمة كثيرا وظلت تلازمني لشراء احتياجاتي مما خفف عني كثيرا ورغم هدوءها إلا أنها كانت خبيرة في الشراء والفصال فساعدني ذلك كثيرا وخفف عني وأشعرني أن لي سند. عرفت منها أنها تقيم في شقة خالتي- التي ربتها- لكنها تبحث عن عمل فوعدتها أن تعمل معي في شركة الأزياء التي أنوي افتتاحها بعد زواجي فأنا لا أئتمن أحدا غيرها، وسألتها:

-ما اتجوزتيش ليه لحد دلوقتي؟

-ومين هيفكر يتجوز واحده لا مال ولا جمال ولا عيله؟ كل واحد عايزني اما شغاله لأمه أو مربية لأولاده لكن لنفسي محدش فكر فيه عشان كده قررت إني أفضل لوحدي أحسن

-بس إنتي مش وحشة وخريجة جامعة وعندك خبرة كويسة وشخصيتك حلوة

-محدش بيدور على الشخصية كله بيدور على الجمال أو المال أو النفوذ

فقلت بأسى:

-عندك حق

في يوم زواجي كانت معي طوال اليوم في مركز التجميل وأصريت على أن تتزين من أجل الحفلة التي كانت ترفض حضورها بحجة أنها لا تليق بها ، فرفضت واشتريت لها فستان سهرة بسيط مثلها ووضعت القليل من المساحيق وارتدت حجابا يليق بالفستان، كم بدت جميلة ذلك الجمال المريح للنفس. كانت عيونها بها شيء محبب لقلبي ويجذبني إليها لم أكن أعرف ماهو لكني بررت ذلك بحب أمي لها وأنها شاركتني معظم أيام الطفولة والصبا وكانت دائما من تنصحني وتحميني -لأنها تكبرني بثلاثة أعوام- وربما لأنها كانت تحبني رغم جفائي معها أحيانا ولكن ذلك لم يبعدها عني، وحتى كُره أبي الشديد لها –والذي لم أعرف سببه- لم يبعدها عني فكانت تتصل بي أحيانا. حضرت معي كريمة الفرح وعرفتها بالجميع أنها قريبتي وكنت ممتنة لها جدا لأنها كانت بجواري ولم تتركني بمفردي. أقام لي أكرم فرحا أسطوريا حضره كبار رجال الأعمال وبالطبع كان ماجد من الحاضرين وجاء لتهنئتي مع خطيبته التي كانت أشبه بفتيات الإستعراض بفستانها الأحمر العاري وشعرها الأسود الغجري وعينيها التي أخفتها بعدسات زرقاء  وضحكاتها التي كانت تلفت الإنتباه إليها، بالإضافة لما كانت ترتديه من حلي ذهبية تكفي لفتح محل صائغ، وعندما جاءا لتنهنئتنا قالت بغرور:

-انتي بقى اللي الكل بيحكي عن جمالك اللي ماحصلش؟ عادية يعني

فقال ماجد بحدة:

-منال

-عموما مبروك عليكي صفقة مناسبة هتريحك إنتي وأبوكي

فقال أكرم الذي لم تعجبه وقاحتها:

-الله يبارك فيكي وأنا بصراحة الكسبان إني اتجوزت ملكة الجمال

فقلت لها:

-عقبالك ما هي برضه جوازتك هتبقى صفقة

جذبها ماجد من يدها وقال بابتسامة مرسومة:

-ماتزعلوش منها أصل منال بتحب الهزار ، مبروك

أدركت أنها تكرهني في أعماقها ولكني لم أعرف لذلك سببا. انتهى الفرح وودعني أبي بالدموع وهنأتني كريمة واحتضنتني وهي تبكي وقالت:

-أنا فرحانه من قلبي عشانك

-عقبالك

انصرفت مع أكرم لأبدأ حياة جديدة كنت خائفة منها لأنه شخص جاف المشاعر عملي لأقصى درجة.لم يُخيب أكرم ظني فيه فقد كان جاف المشاعر لأقصى درجة ، كنت بالنسبة له مجرد وعاء لتفريغ رغباته وإنجاب أطفاله وواجهة اجتماعية جيدة أمام الناس، وعندما أصر على حجابي ظننته يغار علي لكني أدركت فيما بعد أن من يغار لابد أن يكون محبا بينما هو يغار على كل ممتلكاته –وأنا من بينها- حتى لا يتمتع بها غيره.

بدأت بعد عشرة أيام من زواجنا في تأسيس شركتي لتصميم الأزياء وكانت كريمة هي يدي اليمنى في كل شيء ، يسر لي أكرم الكثير من الإجراءات واخترت شقتين متجاورتين ليكونا مقرا للشركة ، وبدأت في عمل المقابلات لاختيار من يعمل معي. بدأنا العمل وكانت كريمة مديرة مكتبي بمرتب لائق ، وحرصت أن يكون هناك زي موحد لكل الموظفات لأتجنب مهرجان الألوان اليومي التي قد تُسيء للشركة.

بعد شهرين اكتشفت حملي في طفلي الأول فسعد أكرم بذلك وراح يعاملني برقة لم أعهدها من قبل حتى عرف أن الجنين فتاة فعاد لقسوته وجفاء مشاعره وكأن تحديد نوع الجنين بيدي أو يده ، إنه رزق من الله وشعرت بالسعادة لأنها فتاة فكم كنت أشتاق لمن تشاركني حياتي وتخفف عني عبئها تكون صديقتي لا ابنتي فقط. انشغل عني والدي في شركته لكنه كان يحرص على اصطحابي للطبيب لمتابعة الحمل فقد كان سعيدا لأنه سيصبح جد وزادت سعادته عندما علم أنها فتاة فقال:

-البنات دول وش الخير والنسمة الحلوة في البيت، جوزك ده عبيط بس بكره لما يشوفها يغير رأيه

-كل اللي يجيبه ربنا خير

-ربنا يقومك بالسلامة يا حبيبتي

جاءت ندى للدنيا وكانت حقا اسم على ما يسمى فقد كانت جميلة ورقيقة كقطرة الندى لكن ذلك لم يحرك قلب أكرم-الذي يبدو أنه خُلق بلا قلب أو مشاعر- وظلت معاملته لها لا تختلف كثيرا عن معاملته لي فهو ملتزم بالإنفاق عليها فقط ولم يلاعبها يوما أو حتى يحملها، إنما اكتفى بتحمل نفقات مُربية لرعايتها ، فكنت أتعجب لجموده أنا أرى لهفة أبي على كل حركة ابتسامة منها.أحضرت لي كريمة إحدى جاراتها التي طُلقت بسبب عقمها فكانت تفيض بأمومتها على ندى، صارت ندى مدللة الجميع فأنا وأبي وكريمة نعشقها ورضا المربية تدللها لكنها حازمة في نفس الوقت و فقد كانت على دراية بتربية الأطفال بسبب كثرة قراءاتها، وكأن الله أراد أن يعوضها بنا عن جفاء أبيها.

ازدهر عملي وخلال عامين صار لي اسم في السوق وسمعة لا بأس بها وشعرت أني بدأت أضع أولى خطواتي على سلم النجاح وعندها طالبني أكرم بإنجاب طفل أخر لعله يكون الولد فوافقته وبالفعل بعد 4 أشهر حدث الحمل وفي تلك المرة كان أكرم أكثر تحفظا في إظهار فرحته حتى ذهب معي لمعرفة نوع الجنين ، وعندما علم أنها فتاة تركني عند الطبيب وانصرف مما أحرجني كثيرا فقال لي الطبيب:

-قوليله يحمد ربنا غيره بيتمنى ضفر طفل ، وناس بتتمنى طفل سليم وهو مش عاجبه؟

-هو عايز ولد عشان يورث ماله

-مايمكن يجي الولد بس هو اللي يضيع المال

-ربنا يهديه

زادت عصبيته علي طوال أيام الحمل وكأني أعانده وأنجب البنات بإرادتي، لكنه لا يعلم أني أريد الولد أكثر منه لعله يُغير معاملته الجافة أو يُظهر لي بعض المشاعر التي صرت أحتاجها، فأنا أستمع لكلمات الإعجاب من كل من حولي وأرى نظرات الرغبة في عيونهم ماعدا زوجي الذي لم يُسمعني يوما كلمة إعجاب حتى عندما يرغبني يقول لي:

-تعالي عايزك

ويؤدي عمله بشكل آلي وبعد أن يفرغ مني يتركني وينهض دون كلمة أو لمسة تعبر عن حب أو حتى حنان، ولايدرك أني صرت مُتعطشة لكلمة أو لمسة حانية لتكون بمثابة حصن أحتمي به من مشاعر الأخرين التي يريدون أن يغمرونني بها بينما زوجي يضن علي بها. كنت أدعو الله ليل نهار أن يُنجيني من تلك الفتنة وكانت كريمة بجواري ودائما ما تحثني على الإقتراب من الله فإن في ذلك راحتي وحتى يحفظ لي بناتي، خاصة وأن نادين –طفلتي الثانية- كانت ضعيفة البنية وعُرضة لكثير من الأمراض. بالفعل صرت أقرب لله فالتزمت بالصلاة والصدقات  والصيام أحيانا فكان قربي من الله هو ملاذي الذي أحتمي به من ضعف نفسي، وما جعلني أرضى بقسمتي وأحمد الله على نعمه علي.

انشغلت بعملي ورعاية الطفلتين و ما هون علي الحياة وجود أبي نبع الحنان بجواري، ليعوضني أنا وبناتي جفاء وقسوة أكرم.مرت الأيام بنا وأكرم لم يتغير وألمح في عينيه رغبة في تكرار الحمل فعرضت عليه أن نستشير الطبيب لأني تعبت في حملي لنادين وفي ولادتها فوافق وجاء معي فقال له الطبيب أننا لابد أن ننتظر عاما أخر حتى لا تؤثر ضعف صحتي على الطفل القادم فرضى على مضض. كان هذا العام بالنسبة لي سر إنطلاقي لعالم الشهرة والنجومية فقد حققت تصميمات الشركة شهرة ونالت إعجاب الجميع بسبب أناقتها وأنها عملية في آن واحد، كما حرصت على أن تكون الخامات ملائمة لطبيعة مناخنا الحار. زاد الطلب على منتجاتنا وقرر والدي أن يفتح مصنعا لتصنيع منتجاتنا وأن يكون بإسمي حتى لا يشاركني فيه أحد بعد موته فعرض علينا ماجد أن يكون شريكا لنا ونفتح مصنع على أعلى مستوى ونطلق له حملة دعاية ضخمة وأن نتعاقد مع كبرى شركات التسويق من أجل منتجاتنا فرفضت رفضا قاطعا فعرض علي أن تشاركني زوجته إن كنت أرفض مشاركته فرفضت أن تكون لي أية صلة بهما، لأني أعرف أن طرق ماجد في التعامل ملتوية وقد يخالف القانون وأنا أريد أن أحافظ على سمعتي، كان هذا السبب المُعلن، أما السبب الخفي فكان خوفي من ضعف نفسي أمام إعجاب ماجد وملاحقته لي، وعندما استشرت أكرم قال بلا مبالاة وبروده المعتاد:

-ده شغلك وإنتي حرة فيه

اكتفيت أنا وأبي بمصنع صغير كبداية، بدأ العمل بالمصنع الذي جعلت كريمة مديرته وصاحبة الكلمة الأولى والأخيرة فيه ورغم رفض أبي إلا أني صممت وقلت له أني لا أئتمن غيرها على مالنا،فوافق على مضض وأنا أتعجب من بغضه لها رغم طيبتها المفرطة ، كما أن أبي لم يكره أحدا في حياته.

بدأ المصنع في إنتاجه وحقق نجاحا لا بأس به وعندها طالبني أكرم بالإنجاب مرة أخرى فوافقته وحدث الحمل وأنا أدعو الله أن يرزقني بالولد لعل معاملته لي تتغير ، وحتى يرحمني من ألام الحمل والولادة. كانت فترة الحمل تلك أصعبهم كلهم فكنت دائما أشعر بالغثيان والدوار وألتزم بالبيت ولولا وجود كريمة وأبي بالعمل لضاع كل ما حققته. حانت لحظة الولادة التي عجل بها الطبيب خوفا علي وعلى الفتاة التي كنت أحملها بسبب إصابتي بتسمم الحمل، ورغم خطورة الحالة وإحتمال تعرضنا للموت لم يكن أكرم معنا إنما كالعادة أبي وكريمة تلك القريبة التي صرت قدرها وتتحمل مسئوليتي كأني ابنتها. تمت الولادة وبقيت في المستشفى حتى تستقر حالتي وكذلك بقيت ابنتي بالحضانة . جاءت الممرضة بها لأول مرة لأراها وأرضعها فقلت :

-سبحان الله اللي كانت هتموت وتموتني هي أجمل بناتي

فسألتني الممرضة :

-هتسميها إيه؟

-نوارة

-ده اسم غريب أوي معناه إيه

-معناه الزهرة أول ماتفتح

-تعرفي إنه لايق عليها ربنا يبارك لك فيها أمال أبوها فين؟

-ماجاش لأنه عايز ولد

-دي البصة في وش نوارة بالدنيا كلها صدقيني هو الخسران

-ربنا يهديه

خرجنا من المستشفى وعدنا للبيت فلم أجد أكرم وعندما اتصلت به عرفت أنه سافر للخارج في صفقة مهمة وقد يغيب لعشرة أيام، حزنت بسبب قسوته علي وعلى بناته ونحن في أشد الحاجة إليه، لكن حمدت الله أن أطال في عمر والدي ليغمرنا جميعا بحبه ورعايته.

عاد أكرم بعد فترة وكان جافا مع البنتين كعادته حتى أنهما كانتا تتجنبانه وعند عودته للبيت تلتزمان غرفتهما، حاولت رغم كل شيء أن أجعله يرضى بما قسمه الله ، لكنه رفض حتى أن يرى نوارة وقال:

-أنا قلت لك عايز ولد؟

-لو تقدر تخلقه اخلقه

-بتتريقي عليه؟ بدل ما تجيبيلي ولد

-تقدر تقولي أجيبه منين؟

-بعد الأربعين تحملي تاني

-إنت عاوز تموتني؟ الدكتور منعني من الحمل والولادة نهائيا لأن صحتي ما بقتش تستحمل وده خطر على الطفل

-يبقى أنا هاستخدم حقي وأتجوز اللي تجيبلي الولد

-لو عملتها هاستخدم أنا كمان حقي وأطبق الشرط اللي في عقد الجواز واتطلق

سكت قليلا ثم قال:

-أنا هاسيبك تفكري وتختاري حل من اتنين اما تخلفي لحد ما تجيبيلي الولد أو أتجوز غيرك ولو عاوزة تفضلي أو تطلقي براحتك

تركني وغادر وأنا لا أقدر على البكاء لكن الألم بنفسي كان أكبر من كل الكلمات، أي إنسان هذا؟؟ وما كل تلك القسوة والجبروت؟ أيظن أن الله سيمنحه كل شيء الصحة والمال والمركز الإجتماعي والولد؟ ألا يحمد الله على نعمة البنات الجميلات؟ ألا يعلم أنهن وسيلته لدخول الجنة؟ أي رجل هذا الذي يفرط في زوجة تتقي الله فيه رغم كل مساوئه ؟ أي رجل هذا الذي يهدم بيته ويضحي ببناته من أجل ولد قد يكون عاقا أو فاسدا؟؟

مرت الأيام وأنا أتوقع أنها مجرد لحظة إنفعال وغضب وستنتهي، لكني فوجئت به بعد أسبوع يعود للبيت بعد طول غياب ويقول:

-قررتي إيه؟

-أنا مش هاعرض حياتي للخطر وفي الأخر تجيلي بنت كمان وغضبك يزيد، احمد ربنا إن عندك بنات من غير أمراض وفي منتهى الجمال إنت في نعمه بلاش تتبطر

-ده أخر كلام عندك؟

-أه

-يبقى أنا هاتجوز

-يبقى تطلقني

-براحتك بس افتكري ان دي رغبتك يعني من حقي تتنازلي لي عن المؤخر ومالكيش نفقة

-ده كل اللي يهمك؟ مش هامك عشرة السنين ولا مستقبل بناتك؟

-إنتي اللي اخترتي الطلاق وبناتي مش هاحرمهم من حاجه مصاريفهم هتوصلهم أول كل شهر وأنا متكفل بكل طلباتهم

- اتفقنا يبقى المأذون اللي هيجوزك غيري يطلقنا وأنا هابريك

-برضه انتي مش خسرانه عندك مشروعك وعربيتك وفيلا بإسمك

-فعلا أنا مش خسرانه أنا عندي بناتي وأبويا وكريمة لكن إنت لوحدك متشعبط في حلم مش عارف هيتحقق ولا لأ

تركني ولم أبكيه ولو للحظة واحدة فهو لايستحق إنما بكيت سذاجتي وظني أن السعادة في المال فقط، إنما السعادة في الرضا بالمقسوم  وأنا لم أكن راضية بما لدي والذي تتمناه غيري فتركت كل هذا وسعيت وراء المال الذي امتلكته لكنه لم يسعدني كما كنت أتوقع . لم يؤثر غيابه علي أو على بناتي كثيرا فقد كان دائما الحاضر الغائب في حياتهن ، رغم صغر سنهن إلا أنه لم يكن فارقا جوده عن غيابه وكان وجود أبي باستمرار كافيا ليعوض غيابه، وطالبت أبي أن ينتقل للإقامة معنا فرحب لأنه أصبح يخشى الوحدة مع كبره.

لم يمض شهر حتى وصلتني ورقة طلاقي وعرفت بزواج أكرم من إحدى قريباته وهي فتاة  فقيرة لم يسبق لها الزواج، ورغم فارق السن بينهما الذي يقارب العشرين عاما إلا أنها كانت سعيدة بالزواج والحياة المرفهة. لم أهتم أو أحزن بالعكس لقد شعرت أن هناك حجرا ثقيلا كان جاثما على قلبي وأزحته فصرت أعيش حياتي وأنا أكثر سعادة، لا أنتظر نظرة رضا، أو كلمة إعجاب، ولا أتحمل قسوة أو كلمات موجعة من أحدا. ساعدني هذا الشعور على الإنطلاق والإبداع في عملي، فعدت بروح جديدة وتابعت العمل بالمصنع لأول مرة والتقيت بالموظفين هناك ولا حظت أن رئيس الحسابات عيناه لا تفارقان كريمة أثناء اجتماعنا بكبار الموظفين، أنه يبتسم لها وحدها فابتسمت وقلت:

-باين الحب هيدق بابك يا كريمة بعد طول هجر

تعمدت أن أُبقيه معي أنا وكريمة بعد الإجتماع لمناقشة الميزانية فتأكدت ظنوني . حددت موعدا في بداية كل شهر لمقابلة رؤساء الأقسام بالمصنع واستماع شكواهم وحل مشكلاتهم. وذات مرة قلت لكريمة:

-مش ملاحظة حاجه يا كوكي؟

-خير؟

-الأستاذ عبدالرحمن؟

-رئيس الحسابات؟ ماله؟

-عاشق ولهان

-لمين؟

-لكي طبعا

-إنت باينك سخنه وبتخرفي، أنا كبرت على الكلام ده والراجل أرمل وحزين على مراته

-يعني إنتي مافيش حاجه خالص ناحيته؟

-لاهو ولا غيره أنا كبرت يا نور

-مافيش ست بتكبر على الحب والإهتمام، مافيش ست ما بتحلمش ببيت وأولاد وزوج حنين

-فوقي هيبص لي على إيه؟

-على قلبك الكبير وروحك الحلوة وإخلاصك في شغلك ونجاحك فيه ومركزك الكبير، إنتي مش حاسة بنفسك ليه؟

-فيه حاجات كتير ماتعرفيهاش، أنا مكسورة من جوايه وما أقدرش أسعد حد

-تبقي عبيطة في تفكيرك شوفي نفسك مع البنات، أنا متهيألي بيحبوكي أكتر مني أنا أوقات باغير منك

ضحكت كريمة وقالت:

-مني أنا؟؟ واضح إنك اتجننتي بعد الطلاق قومي شوفي شغلك وماتعطلنيش عن شغلي

- بكرة تقولي نور قالت إن ماجاش يخطبك مني أبقى ما بافهمش

تركتها وبعد أسبوع جاءني إتصال منه يطلب مني التوسط لديها لقبول الزواج منه وأنه يريدها لنفسها وإن كانت لاترغب في أن تعيش ابنته معهما فسيتركها في رعاية أمه فوعدته أن أخبرها برغبته ثم سكت قليلا وقلت:

-تعرف الأحسن إنك تفاتحها إنت في الكلام وتعرض عليها ظروفك وتسمع منها ظروفها

-تفتكري ما يكونش فيها إحراج؟

-أفتكر ده الأفضل

عرض عليها الزواج وارتبكت كعادتها ولم تقل له كلمة واحدة فمنحها فرصة أسبوع لتفكر فجاءتني في يومها للبيت وهي مضطربه فقلت بمكر:

-مالك شكلك عامله بلوه

-انا مرتبكة ومش عارفه أعمل إيه

-احكي وأقولك رأيي

حكت لي ما قاله لها فقلت:

-وانتي قولتي إيه؟

-ولا كلمه أنا ما كنتش قادرة أتنفس

-وفين المديرة اللي راعبه الدنيا؟

-اتبليت في شبر ميه

-أعتقد إنك محتاجة حاجتين أول حاجه تقعدي معاه لوحدكم وتحكي له ظروفك وتسمعي منه أكتر، وبعد كدة تعملي صلاة استخارة

-تفتكري لسه ينفع أتجوز في سني ده؟

-سنك إيه يا شابة؟ ده عمرك كله 35 سنه أمال لو كنتي 60 سنة؟ بس برضه وقتها كنت هاقولك اتجوزي وعيشي حياتك

-بس أنا مش هاقدر أقوله عايزة أقابلك

-مالكيش دعوة أنا هاتصرف

اتصلت به وطلبت منه الحضور يوم الجمعة في الخامسة مساءا لبيتي حتى تتاح له فرصة التعرف أكثر على كريمة بعيدا عن رسميات العمل، وافق وحضر في الميعاد وفوجئت بحضور أبي للجلسة وظل يُثني على كريمة- كما لم يفعل من قبل- وقال له أنها بمثابة ابنته ، تركناهما ليجلسا معا بمفردهما فقال أبي خجلا عندما صرنا بمفردنا:

-عارف إني كنت ظالمها لكن أنا فرحان عشانها هي بنت جدعه واحده غيرها كانت تكرهنا وتفكر تنتقم مننا لكنها طلعت أصيلة وأنا قررت أعوضها عن اللي فات

-مش ملاحظ إنك مكبر الأمور أوي يابابا؟

-إنتي مش فاهمه حاجه

انتهت الزيارة وبعد عدة أيام أخبرتنا كريمة بموافقتها فاتصل به أبي وطلب منه الحضور من أجل الإتفاق وعندما حضر جلس مع والدي يستمع لطلباته فقال:

-أنا اللي هاطلبه مؤخر كبير يضمن حقها لو أنا مت أما باقي الطلبات هي اللي تطلبها

فنظرنا إليها جميعا فقالت بخجل:

-أنا عايزة بنتك تعيش معانا ما أقدرش أوعدك إني هاكون لها زي أمها بس هاحاول أعوضها

ثم نظرت لأبي الذي انصرف بحجة موعد دواؤه فأدركت أن بينهما سر لابد أن أعرفه. انصرف عبد الرحمن بعد أن حددنا موعد الخطبة في بيتي بعد أسبوع. صعدت لأبي وقلت له:

-فيه إيه إنت وكريمة مخبينه عليه؟

-إنزلي وخلي كريمة ما تمشيش وأنا جاي

نزلت وجاء والدي وجلسنا ثلاثتنا صامتين حتى قال أبي بصعوبة:

-سامحيني يا كريمة

فقلت:

-تسامحك على إيه؟

-هاحكي بس لازم تسمعوا الحكاية من الأول، أنا وأمك منيرة كنا جيران وكنا بنحب بعض وبس كنت مستني أخلص كلية الهندسة وأتعين عشان أطلبها رسمي ، وبعد ما أخدت هي الثانوية وقبل ما تخش الجامعة نزل من السعودية رفعت ابن عمها وطلبها للجواز وطبعا هي حاولت ترفض وأبوها صمم وضربها وحبسها في البيت، كان لسه فاضلي سنتين في الكلية ورغم كده اتقدمت لوالدها فقالي:

-ده لعب عيال وبكرة تكبروا ومشاعركم تتغير ، وانا كأب مش معقول أرفض ابن عمها عشان الغريب، مستحيل أرفض العريس الجاهز واربطها بواحد لسه ما اتخرجش ولسه هيكون نفسه

-مش كل حاجه الفلوس المهم الحب

-ده كلام الأغاني والروايات لكن الواقع بيقول إن الفلوس مهمه جدا لو جعتم هتاكلوا حب؟ لو عندك طفل وعيان هتعالجه بالحب؟ الواقع مختلف عن الأفلام

-يعني هتغصبها تتجوز واحد ما بتحبوش ؟

-بكرة العشره تخليهم يحبوا بعض

اتجوزته فعلا وسافرت معاه وغرقت أنا في الحزن وألام الفراق ، لكن صممت أنجح عشان أخلي أبوها يندم وفعلا نجحت واتخرجت اتعينت في شركة كبيرة واشتريت شقه بالقسط وعربية صغيرة ، في كل أجازة كنت باشوف منيرة مع جوزها وبنتها ، لكنها كانت دبلت وبقت جسم من غير روح، عرفت انها بتتعذب زيي، حاولت أرتبط بغيرها وفشلت فقلبي كان ملكها وحدها، لحد مانزلت أخر أجازة وعرفت إن جوزها اتوفى في حادثة استنيت العده لحد ما خلصت واتقدمت لها تاني ساعتها أهلها كانوا طايرين من الفرحة بيه لأني مش متجوز قبلها وهاعيشها في عز لكني اشترطت إن بنتها ما تكونش عايشه معانا ، حاولت منيرة تترجاني لكن رفضت لأن البنت كانت نسخه من أبوها وكل ما أبصلها أفتكر اللي سرق قلبي وروحي مني، صممت على رفضي فضغط عليها أهلها كالعادة ووافقت وسابتها مع أمها بس عمري ما منعتها عنها ولما أمها ماتت اترجتني ناخد البنت لكن شيطاني كان أقوى مني ورفضت فكانت أختها مطلقة ومعاها بنت ورافضة الجواز تاني فأخدت البنت تربيها مع بنتها مقابل مبلغ شهري تدفعه منيرة لأن أختها ما كانش لها مصدر دخل

شهقت وقلت بصدمة:

-اوعى تقولي ان البنت دي تبقى كريمه؟ يعني كريمة أختي؟

أومأ أبي برأسه فقلت بحدة:

-حرام عليك كل السنين دي تحرمها من أمها وتتربى زي الغريبة في بيت تاني وأمها عايشه بسبب أنا نيتك؟ ليه كده يا بابا ؟؟ وأنا كنت باقول مافيش أحن منك؟ بس كنت دايما مستغربة كرهك لها

فالت كريمة من خلال دموعها :

-كفاية يا نور أنا سامحته من زمان بس كان نفسي أفهم بيكرهني ليه وأنا ماعملتش حاجه، ودلوقتي لما فهمت عذرته

-يعني مسامحاني يا بنتي؟ كتير كان ضميري بيأنبني وكنت أدي منيرة فلوس كتير وأقولها اشتري لكريمة لعب ولبس وكل اللي نفسها فيه، لكن ماقدرتش أتغلب على كبريائي

فقالت كريمة:

-كنت وأنا صغيرة باكره أمي وباكرهك وباكره خالتي اللي بتميز بنتها عني وباكره حتى نفسي،الوحيدة اللي ماقدرتش اكرهها هي انتي يانور كنت دايما بحب برائتك وابتسامتك الجميلة ، وكنت باترجم الكره ده لعنف ضد كل زمايلي لحد ماقعدت مع أخصائية اجتماعية وسمعت حكايتي فقالت لي:

-ظروفك مش هتقدري تغيريها يا تقبليها زي ما هي وتتعودي عليها يا تخلي نار الكره تحرقك وتدمرك، حبي نفسك وسامحي ماتعرفيش ظروف أمك إيه، سامحي عشان تقدري تعيشي وحولي طاقة الغضب دي لطاقة نجاح واثبتي للكل إنهم غلطوا في حقك، قربي من ربنا هتحسي براحه كبيرة

فعلا استجبت لكلامها وبدأت أتغير واتقبل حياتي وانجح وأقرب من ربنا ، حياتي اختلفت لحد ما أمي ماتت لقيتني بابكي بقهرة وأقولها مسامحاكي يا أمي وياريت تسامحيني على الكلام اللي كنت باوجعك بيه، وسامحتك يا عمي وخاصة لما بقيت تسمح لنور تزورني وتودني ، فعلا مدرستي كان عندها حق الكُره نار بتحرق صاحبها والتسامح بيحيي النفوس.

فأخرج والدي من جيبه ورقه وأعطاها لكريمة وقال:

-وأنا باجمع كل حاجتي عشان أجي أعيش هنا لقيت في أوراق منيرة الورقه دي ، دي فلوس حطتها وديعة بإسمك ولأنها ماتت فجأة ما لحقتش تقول لحد عليها

فقالت كريمة:

-بس دي من فلوسك ياعمي وأنا ما استحقهاش

-منيرة لما مات أبوكي ورثت منه مبلغ بس أنا عمري ما سألتها عملت بيه إيه فأكيد هي حطته في وديعة بإسمك عشان تضمن مستقبلك، صدقيني أنا ما كنتش أعرف عنها حاجه غير قريب جدا

-مصدقاك يا عمي

-ممكن أطلب منك حاجه كمان؟

-اتفضل

-تسمحي لي أكون وكيلك يوم جوازك

ظهرت الدهشة على وجه كريمة ثم قالت:

-أنا عمري ما حلمت حتى بكده، كنت دايما خايفه وأقول لو اتجوزت مين هيكون وكيلي خاصة بعد انشغال العيلة كلها عني، طبعا ده يشرفني يا عمي وهاكون سعيده جدا

ضمها أبي لصدره وقال:

-هاحاول الأيام الجاية أكفر عن ذنبي يا بنتي يمكن ربنا يسامحني

تعجبت من حال الدنيا كيف أن مشاعرنا قد تأخذنا في طريق لا نريده ثم نعود ونندم على المُضي فيه، كيف يرسل الله لنا من يأخذ بيدنا للطريق القويم ويترك لنا الخيار أنمضي في طريق الخير أم الشر ونتحمل وحدنا نتيجة الإختيار. بقيت ساهرة حتى قرعت رضا المُربية بابي ودخلت فقلت لها بلهفة:

-البنات كويسين؟

-أه ماتخافيش أنا كنت عاوزه أتكلم معاكي ممكن؟

-اقعدي فجلست على الكرسي القريب من الفراش وقالت وهي مُرتبكة:

-أنا عندي مشكلة، صاحبة الشقة عاوزه تطلعني منها عشان تجوز ابنها فيها وأنا عشان أأجر حتى أوضة بسعر كويس هتاخد نص مرتبي وهتكون بعيدة عن هنا و المواصلات هتاخد الباقي منه وكمان هاضطر أمشي بدري عشان ألحق أوصل قبل الوقت ما يتأخر، أنا لفيت ودورت لما تعبت فجيت قلت أسألك لو تعرفي حد ممكن يأجر لي أوضة بسعر كويس وتكون قريبة؟

نظرت إليها للحظات وقلت:

-لو انتي مش معايا من سنين وعارفاكي كنت قلت بتلفي عليه عشان أزودلك مرتبك

-طب والله اللي باقوله حقيقي حتى تعالي وإسألي صاحبة البيت

-مصدقاكي يا رضا بس سيبيني كام يوم بعد خطوبة كريمة وهاحل لك مشكلتك

-ربنا يكرمك يا مدام نور ويعوضك خير

(يعوضك خير) كلمة كان لها وقع مختلف على أذني وتساءلت هل بإمكاني الزواج مرة أخرى؟ وبناتي لمن أتركهن؟ هل أكررخطأ أمي؟ ربما هي ضحت من أجل من تحب ولكن ليس هناك من يستحق التضحيه بهن من أجله. تقدم لي الكثيرون لكنهم كانوا طامعين في المال والجمال فقط أما نور الإنسانة فلا أحد يبالي بها. حتى الوقح ماجد عرض علي الزواج في السر فرفضت رفضا قاطعا وقلت له:

-مش أنا اللي أتدارى لما أعمل الحلال، اللي بيتدارى ده حد عامل حاجه غلط

لقد لفظت الرجال من حياتي وسأكرس حياتي لبناتي، كنت أظن أن المال هو سر السعادة لكني أدركت أني كنت مخطئة فهناك أسباب كثيرة للسعادة أهمها وجود ثلاث شموس يُنرن حياتي، وجود عائلة كعائلتي تدعمني وتقف بجواري في كل المواقف.

تمت خطبة كريمة في حفل عائلي وكان فستانها من تصميمي فبدت كأميرة حقا ، كنا نحن أسرة كريمة أما عبدالرحمن فأحضر سما ابنته التي تماثل نادين في العمر وأخوه وزوجته وأخته وزوجها وأولادهم. وبعد الحفل انصرف الجميع وبقي عبد الرحمن الذي جلس مع كريمة في حديقة الفيلا بمفردهما. كم كنت سعيدة من أجلها فهي تستحق كل الحب والسعادة، أفقت من أفكاري على صوت رضا وهي تقول:

-البنات ناموا ممكن أمشي أنا؟

-تعالي عاوزاكي

اخذتها إلى حجرة مجاورة للمطبخ كنت أستخدمها لتخزين مالا أحتاجه من الأثاث والأوراق المهملة فقلت لها:

-إيه رأيك؟

-في إيه؟

-في الأوضة

-عايزة تتنضف

-فعلا هانضفها وأبيضها وتبقى أوضتك من غير إيجار ولا مواصلات وتعيشي معانا هنا منها تراعي البنات أي وقت لو أنا سافرت ومنها تطمني إن محدش هيطردك من سكنك وكمان فلوسك كلها هتحوشيها لنفسك

-أنا..

-فكري ولو الفكرة عجبتك قوليلي أوضبها

-ربنا يسعدك يا مدام نور من غير تفكير موافقة وأنا عندي سريري ودولابي هانقلهم فيها

-بكرة إن شاء الله هنوضبها لك

سعدت لسعادتها فهي ستسفيد وأنا أيضا أضمن تواجدها المستمر بجوار البنات وخاصة أن كريمة ستنشغل بعد زواجها الذي تحدد بعد ثلاثة أشهر.

انتقلت رضا للعيش معنا فأصبح البيت يضمني أنا وأبي وبناتي ورضا ، كنت سعيدة بوجود من أحبهم حولي فقد كنت أعاني دائما في طفولتي من الوحدة حيث قاطعنا أهل أبي بسبب زواجه رغما عنهم من أمي،ولم يكن لنا سوى خالتي وابنتها وكريمة وكنا نراهم يوم الجمعة فقط أما باقي الأسبوع فكان البيت باردا جافا.

مضت الأيام في الإستعداد لزواج كريمة وشراء مستلزمات الفرح ، وكذلك الإستعداد لعروض أزياء عالمية لو نجحنا فيها لحققنا شهرة واسعة. كنت كمن تدور في طاحونة لكني رغم ذلك كنت راضية وكانت أسعد لحظات حياتي حينما أختلي ببناتي ونلعب معا ويحكين لي عن مغامراتهن اليومية.

تم زواج كريمة وكانت في قمة سعادتها فلم أرها يوما متألقة والفرح يملأ عيونها كاليوم، وطلبت من عبدالرحمن أن تبقى معنا سما عدة أيام وكانت قد اعتادت علي وعلى البنات فوافق وحاصة وأنه سيصطحب كريمة لتركيا في رحلة شهر العسل. كانت سما فتاة رقيقة وسرعان ما تأقلمت مع البنات وأبي الذي أحبها كثيرا ، وعندما عادت كريمة سألتها هامسة:

-إيه الأخبار؟

-ربنا عوضني عن كل ألم السنين بحنية عبده وقلبه الطيب

-ياختي مش بسأل عن حنية عبده بسأل عن شطارته

فاحمر وجهها وقالت:

-إنتي قليلة الأدب

فضحكت وقبلتها وقلت:

-مبسوطه عشانك جدا وهاخلي سما معانا يومين كمان عشان تتمتعي بحنية عبده

فضحكت وقالت:

-لأ كفاية كده ليفتكرني مش عايزاها

-ربنا يسعدك

انغمسنا في في العمل وكنا ننتقل من نجاح لأخر وبدأت سمعتنا تنال شهرة واسعة وحمدت الله على ذلك فقد منحني أكثر مما أستحق. كنت نسيت أكرم وكأنه لم يكن في حياتي من قبل، نسيت كل ما يتعلق به من قسوة وجفاء ولم أكن أتذكره إلا في أول كل شهر عندما يرسل لمكتبي شيكا بمصروفات البنات. علمت بعد نحو عامين من زواجه أن الله رزقه بولد لكنه كان من ذوي الإحتياجات الخاصة وأنه منذ أن وُلد وأكرم يذهب به لكل الأطباء في الداخل والخارج أملا في شفاؤه. تعجبت من إرادة الله فقد رزقه الطفل الذي كان يتمناه لكن ليس سليما كما تمنى فمن منا يملك لنفسه شيئا؟! كلنا خاضعون لمشيئة الله عزوجل.

بعد عام من إنجابه للطفل وبعد أن فقد الأمل في شفائه طلق زوجته وتركها هي وولدها وصفى كل أعماله في مصر ، حتى مشروعه مع والدي باعاه معا لماجد –الذي عرض علي أن يكون شريكا لي ولوالدي وإن كنت أرفض شراكته فلتكن زوجته شريكتي فرفضت رفضا قاطعا وتم فض الشركة- وقرر أكرم إستثمار أمواله في مشروع في دبي، وسافر وترك الجميع خلفه دون كلمة وداع لبناته حتى،فلم أتعجب فمنذ طلاقنا لم يفكر حتى في رؤيتهن إنما اكتفى بإرسال المال، وقبل سفره أرسل لي رساله يقول فيها:

(عارف إنك شمتانه فيه لكن سبتلكم البلد كلها ومشيت ومش هاقدر أبعت مصارف البنات غير لما ابتدي أشتغل وأحقق أرباح، وبكره هاكون أحسن من الأول هاجيب الولد اللي يسكتكم كلكم)

لم أجبه لأن كلماته لا تستحق حتى عناء الرد عليها، فلا أنا شامتة ولا حاقدة عليه لكني تعجبت من هروبه من كل مسئولياته تاركا أبناؤه بلا رحمة  ولا حماية، وخاصة ذلك الطفل الصغير الذي يحتاج لرعاية خاصة ، أدركت حينها كم هو متحجر المشاعر وكأنه خُلق بلا قلب. بعد أسبوعين من سفره جاءت لمكتبي بالشركة شابة تطلب مقابلتي فلما سمحت لها وجدتها شابة في بداية العشرينيات خمرية اللون ،متوسطة الطول ،ممتلئة إلى حد ما، سواد عينيها يحمل لمحة انكسار وحزن ، ترتدي عباءة سوداء وغطاء رأس، رحبت بها فقالت:

-طبعا إنتي مستغربة أنا مين وجاية ليه، أنا بسمة طليقة أكرم بيه اللي اتجوزني عشان يجيب الولد وأخدني من البلد وعيشني في مصر في عيشه عمري ما حلمت بيها وكان طاير بيه لما عرف إني حامل في ولد لكن أول ما خلفت ولقاه عيان فرحته انطفت، لف بيه على الدكاترة ولما لقى مافيش فايدة إنه يخف قام نقلنا في شقة صغيرة في حي شعبي عشان مكسوف سكان العمارة الشيك يعرفوا إن ابن أكرم بيه عنده مرض داون وبعدها اتفاجئت إنه طلقني ودفعلي مؤخري ونفقة سنة وإيجار سنة للشقة وسابني أنا وابني وهو عارف إني ماليش حد في الدنيا ، عشان كده جيت لك لما عرفت إنك عايشه وشايله هم البنات لوحدك، جيت أسألك أعمل إيه وأعيش إزاي؟

-إيه اللي خلاكي تفكري فيه؟ ماخفتيش أطردك أو أقابلك وحش؟

-هيجرالي إيه أكتر من اللي أنا فيه؟ قلت أجرب وعشان خاطر شهاب أستحمل أي حاجة

-قولتي لي ابنك اسمه شهاب؟

-أه

-هو مريض بمتلازمة داونز؟

-أه بس الحمدلله حالته كويسة مش وحشة والدكاترة قالوا هيتحسن بالعلاج والمتابعة

-معاكي شهادات إيه؟

-دبلوم تجارة

-تعرفي تشتغلي إيه؟

-أي حاجه، بس أنا كنت في البلد خياطة شاطرة

-كويس كده ممكن أشغلك في المصنع عندي إيه رأيك؟

-موافقة طبعا وهابتدي إمتى ؟

-من أول الأسبوع تكوني رتبتي أمورك وهاكون دبرت لك حضانة قريبة ومتخصصه لشهاب ، ويوم الجمعة هاتي شهاب وتعالي قضي اليوم معانا عشان إخواته يتعرفوا عليه

سكتت للحظات ثم قالت:

-بجد اللي بتقوليه ده ولا هتضحكي عليه ؟ إنتي بتساعديني ليه؟ مش المفروض تكرهيني؟

-أيوه اللي باقوله بجد وده الكارت بتاعي فيه كل أرقامي وده عنوان المصنع وده عنوان البيت، أما باساعدك ليه مش عارفه بس يمكن لما أساعدك ربنا يكرمني أنا وبناتي ، كمان ابنك وبناتي إخوات ومهما نعمل مش هنغير الواقع ده، أما إني أكرهك فده أمر مش وارد لأنك ما أخدتيش جوزي مني، كمان مش أكرم الإنسان اللي أزعل عليه، بالعكس إنتي ضحيته على الأقل أنا عندي أبويا وشغلي وبيتي لكن إنتي ماعندكيش حاجه خالص، فهمتي؟ ممكن بقى تسيبني أشوف شغلي ونكمل الحكايات في البيت يوم الجمعة؟

-متشكرة أوي يا مدام نور

-بس لما تيجي ما تتكلميش عن أكرم بشكل وحش قدام البنات مش عشانه هو ما يستاهلش لكن عشانهم بيزعلوا أوي

-حاضر أستأذن

-اتفضلي

كم هي مسكينة فقد رفعها لسابع سماء ثم رماها للقاع فجأة، يالقسوته وأنانيته، غدر بها لأنها ضعيفة وليس لها من يقف أمامه ، كم هو مجرد من المشاعر كي يتخلى عن طفل مسكين مريض في أمس الحاجة إليه.

جاءت بسمة يوم الجمعة وهي محرجة ولا تعلم كيف سنستقبلها ، لكنها فوجئت بتجمع الأسرة كلها في إنتظارها وبناتي كن متلهفات للعب مع شهاب الذي بدا خجولا ثم سرعان ما اندمج مع نوارة التي كانت أقربهن في السن إليه وخاصة عندما أحضرت له بعض اللعب وجلس الأطفال معا في ركن بعيد يتسامرون ويلعبون مع شهاب الذي تشع عينيه براءة تجذب القلوب، وجلست رضا بالقرب منهم تلاحظهم وتلعب معهم أحيانا. جلست بسمة معي أنا وأبي وحكت لنا كل تفاصيل زواجها وكيف رحب عمها بتزويجها لرجل ثري رغم فارق العمر وقال لها أنها محظوظة وعندما طلقها أكرم رفض عمها استضافتها هي وابنها ، لذلك فكرت في أني يمكنني مساعدتها لذلك لجأت إلي وهي تدعو الله ألا أخذلها كما فعل الأخرون.فقلت لها:

-طيب لو كنت طردتك كنتي هتعملي إيه؟

-كنت هادور على شغل لحد إيجار السنة ما يخلص وبعد كده مش عارفه كنت هاعمل إيه بس فكرت أودي شهاب جمعية تراعيه وتعالجه وتربيه أحسن ما يموت معايا من الجوع

-ومافكرتيش ترفعي قضية نفقة على أكرم عشان حق ابنك؟

-الفلوس اللي ارفع بيها القضية ناكل وأوديه للدكتور بيها لأنه لازمه متابعة مستمرة، كمان مش عايزة أعادي أكرم يمكن قلبه يحن ويرجع لنا

-يعني لو رجع توافقي؟

-طبعا هالاقي بيت أعيش فيه مستورة أنا وابني، الناس الغلابة اللي زينا حسبتهم في الحياة مختلفة عنكم، إنت مش محتاجاه عشان عندك بيت وأب وفلوس وشغل لكن أنا محتاجه راجل يحميني وأعيش في ضله.

-عموما إنت حره في تفكيرك بس أنا جبت لك إسم حضانة كويسة لشهاب واتفقت مع دكتور يتابعه وطول ما أكرم غايب ومابيصرفش عليه أنا هاتكفل بفلوس الحضانه والدكتور والعلاج ولما أكرم يظهر ليه حساب معاه، وكل يوم جمعة هتيجوا تقضوه معانا لازم شهاب يتربى وسط إخواته.

-إنتي إنسانة غريبة ما قابلتش زيها، شكلك وطريقة كلامك يبين إنك جامدة لكن قلبك طيب، كلامك دبش لكن بتساعديني ومش عايزه مني حاجه وإنتي مش ملزمة ممكن أعرف ليه؟

نظرت إلى أبي وقلت:

-باسدد دين قديم أوي

عندها جاءت كريمة ممسكة بيد عبدالرحمن وفي يدها الأخرى سما التي حيتنا بابتسامتها الرقيقة وسرعان ما انضمت لركن الأطفال وبدأت تتعرف على شهاب وتلعب معهم، جلست كريمة بجواري وقالت هامسة:

-مين دي؟

-أعرفكم ببعض دي كريمة أختي الكبيرة واللي دخل معاها ده جوزها الأستاذ عبدالرحمن وسما بنتهم، ودي بسمة طليقة أكرم واللي بيلعب مع الأولاد هناك ده شهاب ابنها

-أهلا يا بسمة

هنا دخلت أم حسين المسئولة عن كل أعمال البيت وقالت:

-الغدا جاهز

فقلت لها:

إعملي ترابيزة للأولاد وحطي للكبار على السفرة

فقالت بسمة:

-أنا هاكل مع الأولاد عشان أأكل شهاب

-أكليه وتعالي كُلي معانا

ابتسمت وانصرفت وتركتنا أنا وكريمة بمفردنا-حيث كان عبدالرحمن منهمكا في الحديث مع أبي- فقالت كريمة بفضول:

-احكي الحكاية من أولها

فحكيت لها فاندهشت وقالت:

-بتعملي كل ده ليه هو مش مسئوليتك؟

-ده أخو أولادي وضعيف ومالوش حد وأديكي شايفه وعارفة أكرم وقسوة قلبه والولد محتاج رعاية وأمه ضعيفة وممكن ترميه، مش عايزة أكرر غلطة زمان ويفضل قلبه شايل مننا ويمكن يكرهنا، كمان أنا مش خسرانة بالعكس كسبانة هاقرب الإخوات من بعضهم وأعلم أولادي يساعدوا المحتاج وياخدوا بإيد الضعيف، الإحسان للناس ده تحويش يعني يمكن عمل طيب أعمله النهاردة حد يرده لبناتي بكرة

-إنتي اتغيرتي خالص ما بقيتيش نور اللي كل همها نفسها وجمالها وبس، بقيتي نور اللي بتنور حياة كل اللي حواليها

-بس مش لاقيه حد ينور حياتي، لولا وجود بابا معايا مسنوده عليه ومطمنه معاه كنت وقعت وضعفت من زمان

-ياااه يا نور إنتي مفتقدة أكرم؟

-وده حد يفتقده ؟؟ ده الحجر فيه روح عنه، أنا مفتقده مشاعر الإهتمام، إن يكون لي حياتي زي أي ست، بس الظاهر ده قدري وأنا رضيت بيه

تناولنا الطعام وخرج الأولاد للحديقة ومعهم رضا وأم حسين لرعايتهم وجلسنا جميعا معا فقلت لبسمة:

-مدام كريمة هتكون مديرتك ولازم تسمعي كلامها، وافهمي كويس إن القرابة في البيت بس لكن الشغل جد وكريمة ما بتقبلش بأي دلع ولا تقصير، والأستاذ عبد الرحمن جوزها هو رئيس الحسابات في المصنع، وأنا كل فترة باجي المصنع أتابع الشغل، الحضانة قريبة من الشغل ، ويوم الجمعة هتقضوه دايما هنا.

-مش عارفة أشكرك إزاي بس لازم أمشي عشان الوقت إتأخر

-استني هاخلي السواق يوصلك وهو كل يوم جمعة هييجي ياخدك ويرجعك.

بعد ذهاب الجميع غمرتني الفتيات بأسئلتهن وحاولت إجابتهن بقدر ما يناسب عقولهن فقالت ندى بحزن:

-هو ليه بابا بيعمل كده ومش زي باقي الأبهات بيحبوا أولادهم ويعيشوا معاهم ويخرجوا ويتفسحوا؟ هو مش بيحبنا؟

-لا يا حبيبتي بيحبكم بس هو طبعه كده مش بيعرف يقول انه بيحبكم

-طب وشهاب الصغير كمان مش بيحبه؟ ليه سابه؟

-أكيد بيحبه بس كل واحد له ظروفه

-أنا باكرهه

-هازعل منك لو كررتي الكلمة دي تاني ، قبل ما تزعلي من حد اسمعيه وبعد كده ابقي احكمي عليه، وبعدين رضا بابا عليكي من رضا ربنا ولا عايزة ربنا يزعل منك؟

ضممتها لصدري وقلت:

-خلي دايما قلبك يسامح عشان ماتتعبيش، اللي بيسامح بيعيش مرتاح اتعلمي تسامحي وتعذري الناس وتقبلي أعذارهم

أخذتها في حضني هي وإخوتها وقبلتهن جميعا وأنا أتعجب من أكرم الذي حرم نفسه – بغباؤه- من أجمل ما في الكون ، محبة الأولاد ودفء البيت.

مضت بنا الأيام كل في عمله ونجتمع يوم الجمعة لنقضي اليوم معا ويلعب الأطفال ويغمروننا بصخبهم وضحكهم وشجاراتهم التي لا تنتهي وألعابهم التي نتعثر فيها في كل مكان، ورغم كل هذا الضجيج والفوضى كنا ننتظر ذلك اليوم بفارغ الصبر. انتظمت بسمة في العمل وشهاب في الحضانة وفي موعد متابعة الطبيب كنت أذهب معها لأعرف تعليمات الطبيب وأحرص على تنفيذها بدقة. وجاءت الأجازة التي كان الأولاد ينتظرونها بشغف للإنغماس في اللعب واللهو طوال النهار، لكني كنت أشغل وقت البنات في التدريبات الرياضية في النادي بين السباحة والجمباز، وفي البيت تأتي لهن المحفظة لتحفظهن القرآن وكانت سما تحضر معهن دروس التحفيظ، وبعدها ينغمسن جميعا في اللعب واللهو.

فوجئت ببسمة تتصل بي وتطلب لقائي بشكل عاجل فلما سمحت لها قالت وهي مرتبكة:

-عمي اتصل بيه من البلد وعايزني أروح له ضروري ومش هاقدر أخد شهاب معايا لأنهم هيعاملوه وحش ويتريقوا عليه وكمان عشان ميعاد متابعته مع الدكتور فلو ممكن أسيبه معاكي يومين؟؟ أنا عارفه إنك هتراعيه زيي وأكتر وهو بيحبك إنتي والبنات

-وعمك افتكرك دلوقتي ليه؟

-مش عارفه ، بس هو صعب أوي وما أقدرش أرفض له طلب

-طيب سافري وارجعي بسرعة ومن حظك إن النهاردة الخميس يعني بكرة وبعده أجازة بس اعملي حسابك السبت بالليل تكوني هنا

-حاضر ربنا يخليكي لنا يا مدام نور

-كلمي الحضانة وقوليلهم إني أنا اللي هاخد شهاب النهاردة وانتي يالا سافري عشان ترجعي بسرعة

سافرت وأخذت شهاب معي وكان تحت رعايتي الشخصية ولم أغفل عنه لحظة واحدة وعندما بكى لغياب أمه أخذته ندى في حضنها وحكت له الحكايات التي يحبها وأحضرت له نادين كتاب ملون عن الحيوانات ، بينما أعطته نوارة دميتها المفضلة فاحتضنها ونام على الأريكة فحملته معي لغرفتي فأصرت ندى أن ينام على سريرها ونامت هي بجوار نوارة. حمدت الله أن غرس الحنان لذلك الطفل الضعيف في قلب بناتي ولم يجعلهن يغرن منه أو يكرهنه، فربما يكن حبهن له فيه تعويض عن غياب أكرم.

جاء مساء السبت ولم تتصل بسمة ولم تأت فشعرت بالخوف من أن يكون أصابها سوءا وندمت لأني لم أعرف رقم موبايل عمها لأطمئن عليها،خاصة بعد أن اتصلت بها عدة مرات بينما كان هاتفها مغلقا. ظل القلق ينهشني وزاده بكاء شهاب لأنه يفتقدها فحاولنا جميعا إرضاؤه حتى نام من كثرة البكاء. جافاني النوم وألف هاجس سيء يخطر على بالي حتى أفقت منهم على صوت رسالة ففتحت الواتس آب فوجدتها من بسمه تقول فيها:

-سامحيني ما قدرتش أواجهك وأقولك إن عمي جابلي عريس كويس ، شاب قريب مني في السن وأرمل من غير أولاد وعايش في قطر وعايزني من غير شهاب، وافقت فعلا وتم الجوازو مسافره معاه حالا، وماكانش قدامي حل غير إني أسيبه معاكي أو أوديه دار أيتام، عارفة إنك بتشتميني في سرك، بس أنا فعلا محتاجة راجل في حياتي يحميني ويكون سندي في الدنيا، كمان أنا صغيرة ومسئولية شهاب تقيلة عليه، وأنا محتاجة أعيش حياتي اللي ماعيشتهاش، بس لو ماقدرتيش تشيلي مسئولية شهاب اتصلي بأبوه أو وديه أي دار رعايه بس ابعتي لي عنوانها وتليفونها ومهما عملت مش هاقدر أرد جميلك

نظرت إلى الرسالة كثيرا وأنا متعجبة من تصاريف القدرالذي يصر على تحميلي المزيد من مسئوليات الأخرين لكن تلك المرة هل علي أن أتحملها؟ وهل أنا على قدر تلك المسئولية؟ لا أعرف. والأعجب كيف لأم أن تتخلى عن طفلها المسكين من أجل أن تحيا هي؟ لن أحكم عليها لأني لست مكانها، لكن هل يحق لها أن تستغل كرمي معها بذلك الشكل؟ لم يُلقي الجميع مسئولياته على كاهلي؟ ألا يظنون أني بشر مثلهم وقد أضعف وأنهار تحت ذلك الحمل الثقيل؟ كم شعرت بالأسى على شهاب الذي لفظه أبوه لأنه غير طبيعي ولم يحقق أماله، وتخلت عنه أمه من أجل سعادتها، ورفضه زوجها دون أن يراه، بينما زرع الله حبه في قلبي وقلب بناتي لحكمة لا يعلمها إلا هو، هل أتخلى عنه أنا أيضا؟ أم أتحمل مسئوليته بعدما تخلى عنه الجميع؟ حائرة وخائفة ولا أعرف كيف أتخذ قرار. قررت أن أستخير الله وغدا أعرف رأي أبي وكريمة في ذلك، لعلهما ينيرا بصيرتي ويرشداني للقرار الصحيح.

في الصباح اصطحبت شهاب لحضانته وقلت للمديرة أن والدته سافرت وتركته تحت رعايتي ففوجئت بأن بسمة أخبرتها بذلك. ذهبت للمصنع وجلست مع كريمة في مكتبها وحكيت لها ما حدث فسألتني:

-وهتعملي إيه؟

-مش عارفه إيه رأيك؟

-هو مسئولية كبيرة ومحتاج رعاية خاصة لكن في نفس الوقت مسكين والكل بيرمي حمله على التاني، لكن إنتي مش مسئولة عنه خاصة في وجود أبوه وأمه

-أنا باقولك فكري معايا مش حيريني، لو إنتي مكاني هتعملي إيه؟

سكتت للحظات ثم قالت:

-هاربيه أنا بالذات ما أقدرش أتخلى عن طفل محتاجني

-تمام هاسيبك بقى وأروح أشوف شغلي وربنا يعمل اللي فيه الخير

ذهبت لعملي وفي ميعاد الحضانة طلبت منهم أن يأخذه السائق الخاص بي إلى بيتي وأعطيتهم مواصفاته ، ثم اتصلت برضا وطلبت منها العناية به حتى عودتي.عدت في ميعادي ووجدت الصخب يعم البيت بسبب سعادة البنات وشهاب بوجودهم معا في غير يوم الجمعة فتناولت الغداء مع أبي وجلسنا لنشرب الشاي في الحديقة وطلبت رأيه فسكت ثم قال:

-هتقدري تربي ولد مش ابنك وتتقي الله فيه؟

-أقدر لأنه غلبان ومالوش حد ومش ذنبه إن أكرم أبوه

-هتقدري تراعيه وخاصة مع ظروفه ومرضه؟

-أهو ده اللي مخوفني خايفة أقصر معاه وربنا يحاسبني، أو يوم أتعب من الحمل التقيل وأتخلى عنه زي الباقيين وساعتها صدمته هتكون كبيرة لأنه هيكون كبر وفهم.

-يبقى استخيري ربنا قبل أي حاجة

في الليل عندما صعدت لغرفتي جاءت لي ندى وقالت:

-يا ماما أنا من غير قصد سمعت كلامك مع جدو عن شهاب، صحيح مامته سابته وإنتي كمان هتسيبيه؟

-إنتي رأيك إيه؟

-خليه معانا يا ماما وأنا هاخلي بالي منه، ده صغير وعيان يعني لو سبناه مين ياخد باله منه؟ وهو ينفع حد يسيب إخواته؟ فاكرة لما اتخانقت مع نادين وطردتها من أوضتي قولتي لي محدش ينفع يزعل إخواته ولا يبعد عنهم دول نعمة من ربنا وأكتر حد بيحبنا؟ طب إزاي أسيب شهاب أخويا؟ خليه يا ماما عشان خاطري هيبقى ماعندوش ماما ولا بابا ولا حتى إخوات؟ كده حرام

قالتها وبكت وتركت الغرفة فأدركت أنها رسالة من الله إلي وقبل أن أتخذ قراري اتصلت بأكرم وأخبرته بما حدث فقال لي بجفاء:

-لو مش عايزاه ارميه في أي دار أيتام وما تكلمنيش عنه تاني

عندها اتخذت قراري بأن شهاب سيبقى معنا ودعوت الله أن يعينني على ذلك الحمل الثقيل، وفي الصباح جمعت الكل وأخبرتهم بقراري وطلبت من أم حسين أن تُعد له غرفة نوارة وأن تنقل متعلقاتها لغرفة نادين التي تذمرت لكن نظرة مني كانت كفيلة بإسكاتها، ثم وضعت قواعد على الكل الإلتزام بها فكل منهن تعلم مواعيد تمارينها ولا تغيب عنها بأي حجة والموجودة منهن في البيت عليها أن تهتم بشهاب. ذهبت لطبيب شهاب وحكيت له الموقف وطلبت منه مساعدتي  وإرشادي لأجعل شهاب يتجاوز تلك الأزمة، كما طلبت منه أن يدلني على فتاة مُدربة جيدا للتعامل معه فقال لي:

-كفاية الحضانه وهو بيفضل فيها للساعة 4 الوقت الباقي مش هيحتاج رعاية جامده خاصة إن نسبة ذكاؤه كويسة وبيتعلم يدخل الحمام لوحده وهيبتدي ياكل لوحده ، هتفضل بس مشكلة ان حد يلبسه هدومه، جربي أول أسبوعين وأنا هاتابع معاكي ولو احتاجتي أي حاجه في أي وقت كلميني ده رقمي الشخصي ورقم العيادة

-شكرا يا دكتور

-اسمحي لي أقولك يا مدام نور إن مسئوليتك مش سهلة بس بجد إنتي بطلة

ضحكت وقلت :

-ولا بطلة ولا حاجه بس ربنا يقويني

-متخافيش هاكون معاكي خطوة بخطوة

لا أعرف لم لمست كلماته أوتار قلبي، ربما لأني كنت في حالة ضعف وأحتاج من يقوي عزيمتي ويدعمني ويساندني في خطوتي المقبلة، وربما لأني كنت أتلهف لسماع كلمة حلوة تروي ظمأي في صحراء حياتي القاحلة المشاعر، لا أعلم لكن كل ما أعلمه أن كلماته أسعدتني ومساندته قوت عزيمتي.

في البداية كنت أموت رعبا كل ليلة أن يُصيب شهاب مكروها وأتحمل وزره، لكن مع الوقت تأقلمت مع حياتي ومسئولياتي وتأقلمت الفتيات معي على حياتهن وتحملن معي مسئولية شهاب رغم صغر سنهن، فكل منهن كانت له أما أو أخت كبرى ترعاه في غيابي، حتى أبي –الذي صفى كل أعماله بسبب كبر سنه –تفرغ لرعاية الجميع وشمل شهاب بحبه ورعايته، أما شهاب فمع مرور الوقت تأقلم على وجوده معنا حتى أنه صار يناديني (ماما) كما تفعل إخوته فكانت تلك اللحظة من أسعد لحظات حياتي، عندها فقط علمت أن الله أراد مكافأتي بشهاب.

بعد إتخاذي لقرار بقاء شهاب معنا ارسلت لبسمة رسالة على الواتس آب وقلت لها:

-قررت أنا والبنات إننا أولى بشهاب من أي حد وهيعيش وسطنا، وياريت ماتحرميهوش من إنه يكلمك ويشوفك بالفيديو في أي وقت يناسب ظروفك، عشانه وعشانك، ماتحرميش نفسك من حب ابنك ومتعة انه يكبر قدام عينيكي

وبالفعل عاودت بسمة الإتصال بنا وشاهدت شهاب بالفيديو وأخبرته أنها سافرت لتعمل وتحضر له مزيدا من اللعب وطلبت منه أن يكون مطيعا لي، سعد شهاب كثيرا بذلك وهدأ نومه وصار ينتظر مكالمتها بفارغ الصبر ليحكي لها عما فعله. كانت تلك نصيحة دكتور سامر الذي لاحظ حزن شهاب وفقدانه لشهيته فنصحني بالتواصل مع أمه لعل ذلك السبب ، فكان لتلك المكالمات تأثير السحر عليه.

مرت بنا الأيام بحلوها ومُرها بين مشاغل عملي ومسئوليتي عن الأطفال، بل وعن أبي الذي أنهكته الشيخوخة، حتى كريمة كنت أحمل همها لأنها كانت دائما حزينة بسبب عدم إنجابها فقد كانت تحلم بطفل يملأ عليها حياتها، فكانت تغمر سما بكل حبها ورعايتها وتمارس معها أمومتها حتى سافرت للعمرة مع عبدالرحمن وتركت سما معي وبعد عودتهما بنحو شهرين فوجئت بحملها فكادت أن تطير فرحا لكن الأطباء حذروها من الحركة نهائيا حتى يكتمل الحمل، فأحضرت لها رضا إحدى قريباتها لخدمتها، وصار عبد الرحمن مديرا للمصنع في غيابها حتى لايتعطل العمل. خلال فترة حملها بدأ إهتمامها بسما يقل وصار كل إهتمامها منصبا على الطفل القادم ، وزادت فرحتها عندما علمت أنهما توأم. كدت أن أفقد كريمة في ولادة متعثرة للغاية لكن بفضل الله ورحمته نجاها هي وطفليها فأنجبت لنا يارا ويوسف، فسعدنا جميعا وخاصة سما لأنها سيكون لها إخوة ، لكن فرحتها لم تدم لأن كريمة بدأت تفرق في المعاملة بيت سما والتوأمين وكلما نبهتها أنا أو عبدالرحمن تحججت بأن حمل التوأمين يرهقها فلا وقت لديها لتدلل سما كما كانت تفعل. لكن كريمة التي كانت تعاني من تفرقة أمي في المعاملة بيني وبينها صارت تفرق في المعاملة بين توأميها وابنة زوجها تلك اليتيمة التي كانت تعتبرها تعويضا لها عن أمها، كم هي غريبة تلك الحياة وكم تتبدل قلوب البشر بين عشية وضحاها.

كبر شهاب وحان الوقت ليلتحق بالمدرسة فاستشرت دكتور سامر حول المدرسة التي يجب أن يلتحق بها فقال:

-دخليه مع اخواته نفس المدرسة هو نسبة ذكاؤه كويسة ولو اندمج مع تلاميذ عاديين هيتحسن، كمان إخواته هيهتموا بيه ويخلوا بالهم منه

-بس المناهج مش هتكون تقيله عليه؟

-خلينا نجرب ونشوف قدراته وبعد كده نقرر

اتصلت بأكرم –الذي صار يرسل لي مصروفات البنات مرة أخرى ومعها نفقات شهاب- وحكيت له ما حدث فقال:

-اعملي اللي انتي عايزاه أنا مسئوليتي مصاريفهم وبس واحمدي ربنا إني هادفع له مصاريف وهو متخلف

-شهاب مختلف مش متخلف

-ماشي يا ست المثالية

دخل شهاب المدرسة مع أخواته فكان سعيدا أنه صار مثلهن يذهب للمدرسة، ووهبه الله القدرة على إختراق القلوب فكانت كل المعلمات يحببنه ويتعاطفن معه، ويعاقبن كل من يضايقه أو يتعرض له بسخرية أو أذى. فحمدت الله أن سخر له من يدافع عنه ويحميه من بطش السفهاء وتمنيت أن يُطيل الله عمري حتى يعتمد شهاب على نفسه.

توطدت صلتي بدكتور سامر الذي قال لي مرة:

-تعرفي إنك إنسانه غريبة عمري ماقابلت زيك أبدا

-ليه؟ عشان باربي أخو بناتي؟

-لأ عشان بتربي طفل مش ابنك وياريته عادي لا ده محتاج رعاية خاصة، والأعجب إن أهله عايشين ومتمتعين بحياتهم  وإنتي اللي شايلة الهم لوحدك

-أحيانا باحس إنه هم فعلا وأحيانا باحس إنه نعمة في حياتي علم بناتي العطاء والإحساس بالمسئولية ، كمان علمني حاجات كتير أهمها إني ما احاسبش حد على حاجات هو مش مسئول عنها

-مش باقولك إنسانه غريبة فكرت فيكي كتير وحطيت نفسي مكانك لقيتني ما أقدرش أتقبل طفل مش ابني واتحمل مسئوليته وخاصة إن أهله رموه عشان يعيشوا ليه أنا مش من حقي اعيش زيهم؟

ابتسمت وقلت:

-يمكن ربنا خلاني مختلفة عشان أراعي طفل مختلف زي شهاب

يومها أدركت أنه يقصدني بكلامه فهو يريدني وأشعر بذلك في كلامه ونظراته واهتمامه، لكنه يريدني وحدي بدون بناتي وشهاب، لكنه لا يدرك أني لا أكون أنا إلا وأنا معهم ولا أكتمل إلا بهم، فلولاهم لم أكن تلك الشخصية التي أعجبته بل كنت سأظل نور المعجبة بنفسها وجمالها، وكأن الله أراد أن يُنير دربي ويعلمني أن الجمال جمال القلوب، والنور ليس في الوجه لكن في الروح.أما سامر فيريد أن يحصد الثمار دون أن يبذل مجهودا في الزرع وهذا مستحيل لأنه سيقطفها مرة واحدة وبعدها ستذبل وتموت الشجرة أما إن بذل جهدا معها فستظل مثمرة طول العمر. هاهو رجل أخر يريد الجمال أو المال لكنه لايريد نور الإنسانة بكل مسئولياتها وإلتزاماتها.

مرت الأيام وكبر الأولاد وضعفت علاقتي بسامر مع الوقت وخاصة عندما كبر شهاب ولم يعد بحاجة إليه وكانت أخر صلتي به عندما نصحني بإلحاق شهاب بأي رياضة لأن ذلك سيساهم في تطور حالته للأفضل وبالفعل ألحقته بالكاراتيه في نفس النادي مع أخواته اللائي كن يراعينه ويتبادلن الذهاب معه للتدريب.

قررت ندى أن تستكمل دراستها في الخارج ولم أعترض إنما من اعترض كان أكرم بسبب النفقات فقالت له أنها حصلت على منحة مجانية وسيتكفل فقط بنفقات الإقامة والطعام فوافق عندما علم أنها قد تُفيده في مشروعاته التي تضخمت لكن بلا وريث –كما يقول- فكانت ندى سعيدة بالسفر لتبدأ حياة جديدة وعندما سألتني كريمة:

-مش خايفة عليها؟

- ربنا هيحفظها

-المجتمع هناك وحش

-هي متربية كويس واللي بيعوز يعمل حاجه بيعملها في أي مكان ما بيهموش حد

-إنتي قلبك جامد

-أنا واثقه في بنتي وباتمنى لها الخير

سافرت ندى وقلبي يتمزق لفراقها وكنت أبكي كلما اختليت بنفسي لفراقها ولكني لم أظهر ذلك لأحد ولا لها ، فقد أردتها أن تكون قوية ومعتمدة على نفسها، أن ترى الحياة وتعرف كيف تتعامل مع كل أنواع البشر.

حزن إخوتها كثيرا لغيابها وكان شهاب أكثرهم حزنا لأنها كانت له أختا و صديقة أحيانا وكثيرا ما كانت أماً له فكنا نحدثها كل يوم فخفف ذلك عنا ألام الغياب، حاولت أن أعوض شهاب غيابها فكنت أذهب معه التدريب أحيانا. جاء يوم البطولة وكانت نادين ونوارة لديهما امتحانات فقررت أنا أن أذهب مع شهاب الذي كان خائفا فقلت له:

-متخافش إنت بطل وحتى لو ماحققتش مركز إنتي بطلي أنا يا هوبه

فابتسم وقبلني وذهبنا للصالة التي تُقام بها البطولة وجلست بين المشاهدين ووجدت نفسي أتخلى عن وقاري وأشجع شهاب بحماس حتى حصل على المركز الأول فكنت أصرخ فرحا وجاء إلي مسرعا ليحتضنني فقبلته وقلت له:

-مش قلت لك إنت بطلي

ضحكنا معا وجاء رجل في أواخر الأربعينيات وقال:

-مبروك يا شهاب

-شكرا يا كابتن؟

ثم نظر إلي وقال:

-مبروك يا مدام

-الله يبارك فيك

-حضرتك والدته؟أنا أول مرة أشوفك

-لأنه دايما بيجي مع إخواته لأني باشتغل

-أعتقد إن اهتمامك بابنك أهم ميت مرة من شغلك وإثبات ذاتك زي ما بتقولوا

تركني ومضى وأنا أريد أن أصفعه على غروره وصفقاته فمن هو ليحاكمني ويحكم علي؟ من هو ليقرر لي ماذا أفعل؟ماذا يعلم عني ليُحاكمني ويتهمني بالإهمال؟ لم أشغل نفسي به إنما كافئت شهاب واحتفلنا به جميعا وأرسلت لبسمة –التي أنجبت ثلاثة أطفال- رسالة على الواتس أخبرها بتفوق شهاب كي تهنئه فقد انشغلت عنه بأولادها فصارت مكالماتها متباعدة. كما جاءت كريمة بقبيلتها –كما كنت أسميهم- سما الهادئة الرقيقة والتتار الصغار يوسف ويارا الذين أشعلوا البيت بضجيجهم مع شهاب، كم سعدت بتجمعنا معا لكني كنت أفتقد أبي الذي رحل العام الماضي وتركني وحدي في هذا العالم فافتقدنا كلنا حبه وحنانه واهتمامه بنا جميعا، شعرت في غيابه أني فقدت الظهر والسند حتى لو كان مسنا يعتمد علي فهو كان دائما مصدر الأمان لي. أفقت من شرودي على صوت إتصال ندى التي تكلمنا بالفيديو كل يوم جمعة لترانا كلنا فكانت تصرخ وتضحك وتهلل مع الأولاد وكأنها معنا ، فرح شهاب كثيرا باحتفالنا جميعا به ونظرت إليه وتساءلت ترى من فينا أمه؟ بسمة التي كانت مجرد وعاء حملته ثم تركته لغيرها؟ أم أنا التي لست من دمه لكنه قطعة من قلبي؟ أنا التي كبرت وربيت وتعبت؟ هل الأم من تحمل وتُهمل أم من ترعى وتحب وتهتم وتعرف كل كبيرة وصغيرة عن أولادها؟

صرت أذهب مع شهاب في تدريب يوم الخميس من كل أسبوع أما التدريب الأخر فكان مسئولية نادين، فقابلت ذلك المدرب عدة مرات وتجاهلته كما كان يرمقني بنظرات حادة. عرفت من أولياء الأمور أنه ليس مدربا عاديا بل هو المسئول عن تدريب كل أصحاب القدرات الخاصة، لكن ذلك لم يُغير من معاملتي له بسبب جفاؤه في التعامل معي. بعد عدة أشهر من انتظامي في الذهاب مع شهاب نظم النادي بطولة ودية لأصحاب القدرات الخاصة فطلب ذلك المدرب من شهاب شهادة ميلاده وعدة صور فأرسلتهم له مع نادين لأني يومها كنت مشغولة جدا. في يوم البطولة فاز شهاب بالمركز الثاني وكان سعيدا فقال لي المدرب المغرور:

-مبروك يا مدام بسمة

-أنا مش بسمة

-مش حضرتك والدته؟

-أنا ولي أمره

-مش فاهم

-مش مهم دي تفاصيل عائلية ماتخصش غيرنا عن إذنك

فقال له شهاب:

-سلام يا كابتن علي

-سلام يا شهاب

انشغلت كثيرا عن تدريبات شهاب بسبب اشتراكنا في أكثر من عرض أزياء عالمي فحلت نادين محلي في رعايته، ثم عدت لاصطحاب شهاب فقابلني كابتن علي مبتسما وقال:

-أنا عايز أعتذر لحضرتك عن سوء التفاهم اللي حصل لأني كنت فاكرك والدته وخجلانه من ظروفه

-وليه ما فكرتش إني ممكن أكون والدته ومشغوله بشغلي عشان أوفر له مستوى معيشي كويس؟ ليه الناس بتحكم وتحاكم قبل ما تسمع وتفهم؟ ليه الناس ما بتقدرش ظروف بعضها؟

-عندك حق أنا غلطان وباعتذر مرة تانية

-مافيش داعي للإعتذار الموضوع بسيط

-أنا كنت عايز أتكلم معاكي في موضوع بخصوص شهاب

-اتفضل

-أنا ملاحظ إنه شاطر في الكاراتيه وكمان أكتر واحد في الفريق بيساعد الصغيرين وبيقدر يعلمهم إزاي يعملوا الحركات صح ففكرت إنه ممكن يكون المساعد بتاعي وخاصة في الصيف لأن عدد الأولاد بيكون كبير وده مش هياخد منه غير يوم زياده عن الأيام اللي بيجي فيها، كمان هو بدأ يضايق من وجود حد بيتابعه وحاسس إنه كبر خلاص وده معاه حق فيه هو عنده 15 سنة يعني مش طفل ويقدر يتصرف لوحده ممكن ييجي مع إخواته وهم جايين ويمشي معاهم أو حد يوصله وهو يرجع لوحده

- ممكن أخلي السواق يوصله ويستناه في اليوم اللي إخواته مش معاه، بس لازم أستأذن والده الأول

-هو عايش؟ انا افتكرته مات

قلت في نفسي:(هو ميت فعلا)

-لأ عايش بس مهاجر

-تمام هانتظر رد حضرتك

كنت أعلم رد أكمل مسبقا ولكني كلمته فقال:

-ماليش دعوة  اعملي اللي انتي عايزاه

-مش ناوي تعمل بني أدم مرة وتنزل تشوف أولادك؟

-سبت لك الإنسانية، أنا هاسافر هولندا وهاقابل ندى هناك

-ندى؟ اكيد عايز منها حاجه

-هو انا ان بعدت أبقى وحش وإن قربت أبقى عايز حاجه؟ مطلوب مني أعمل إيه؟

-تكون صريح وتجيب من الأخر عاوز منها إيه؟

-تيجي تشتغل معايا وتدير الشركة وهي أولى من الغريب

-لسه قدامها سنتين على التخرج

-أهو تدرب في الأجازة

-طيب اعمل حسابك نادين هتخليها تدور لها على منحة معاها

-موافق بس بشرط يا تمسك شغل معايا أو معاكي

-هي هتدرس تصميم أزياء

-موافق أهي فلوسنا ماتروحش للغرب

-إنت ما بتتغيرش كل همك الفلوس

-ماهي كانت همك زمان، والا انتي اتجوزتيني عشان بتموتي فيه؟

-بس الزمن علمني إنها مش كل حاجه ولا أهم حاجه فيه حاجات كتير في الدنيا مهمة

-أنا بقى الزمن علمني إن الفلوس والنفوذ أهم حاجه ومش ناوي أتغير

-مافيش فايدة

تحدثت مع شهاب عن رغبة كابتن علي في أن يكون مساعده وهل يريد ذلك؟ فكانت إجابته بنعم فطلبت منه إن شعر بأي تعب أو إرهاق أن يتوقف مباشرة فقال لي:

-متخافيش يا ماما نور أنا راجل

-عارفة يا حبيبي ربنا يحفظك

لم اعد أذهب معه للتدريب إنما لم يقل اهتمامي به إنما كنت أجلس معه مساء كل يوم أستمع لما يحدث في يومه ، حقا لم يعد يحتاجني كما كان طفلا لكني أنا الأن التي أحتاج حبه واهتمامه خاصة بعد سفر نادين وسما للدراسة في الخارج فلم يبق سوى شهاب ونوارة قلبي تلك الرقيقة التي تعشق شهاب وهما صديقان.

عندما انتهى شهاب من المرحلة الإعدادية استشرت سامر عن نوعية التعليم المناسب له فاقترح الثانوية الأمريكية ، وعندما أخبرت أكرم وافق على إلتحاقه بها رغم التكلفة وقال:

-أهو يبقى معاه شهادة يمكن تنفعه ولو إني مش فاهم اللي زيه هيعمل بيها إيه؟

-شهاب مستوى ذكاؤه كويس بالنسبة لغيره هو بس عنده مشكلة بسيطه في النظر وبيلبس نظارة مش أكتر، يعني هو عادي زيه زي أي ولد في سنه

-إنتي بتهوني مصيبتي ولا بتضحكي عليه؟ أنا عارف إنه زي قلته والفلوس لو سبتهاله هتضيع عشان كده بافكر اتجوز تاني يمكن ييجي الولد

-ولو جت بنت هترميها ولا هتضيفها للي عندي؟ هو انت فاهم إن الطبيعي إنك تخلف وأنا أربي عيالك؟ مش كفاية الإتنين اللي نصبوا عليك وأخدوا فلوسك؟ إنت لا بتتعلم ولا بتحمد ربنا على اللي عندك

-إنتي بس اللي غيرانه إنك كبرتي ومش هتقدري تخلفي تاني وخايفة إني  أجيب الولد اللي ياخد فلوس بناتك

-اعمل اللي انت عاوزه بس ابعد عن بناتي

-ماتنسيش إنهم بناتي أنا كمان

-لا متخافش مش ناسية ولا هم ناسيين

التحق شهاب بالثانوية الأمريكية وكانت نوارة على وشك الإنتهاء منها فساعدته في مذاكرته. كنت أخشى أن تتركني نوارة وتسافر لكنها قررت الإلتحاق بالجامعة هنا لأنها لا ترغب في السفر ولاتريد ترك شهاب وحده، فحمدت الله على ذلك. أما ندى فبعد أن أنهت دراستها سافرت لدبي لتعمل في شركات والدها وكانت تأتي لنا في الأجازات، فكنت أخشى أن تتأثر بها ويأخذها عالم المال والأعمال وتنسى أن تعيش حياتها، إلا أنها فاجئتني بأنها تعرفت على شاب سوري وهو شقيق صديقتها في الدراسة ويعمل معها في دبي وهي تحبه وترغب في الإرتباط به ومنتظرة رأيي فقلت لها:

-أبوكي يعرف؟

-لأ ومن امتى هو يعرف حاجه عنا؟

-المفروض انك بتشتغلي معاه يعني قربتي منه

-أكرم باشا ما بيقربش غير من نفسه، علاقتنا كلها شغل

-خلاص لما نادين وسما ينزلوا أجازتهم هارتب مقابله معاه، بس مش عايزة عواطفك تتحكم فيكي لوحدها ولا عقلك لوحده لازم الإتنين مع بعض

-حاضر يا ماما

عندما عادت نادين وسما كنت أعد للمشاركة في أسبوع الموضة في دبي ، وعادة لم أكن أذهب للحضور لإرتباطي بعائلتي لكن في هذا العام قررت السفر واصطحبت نادين معي لتتعرف على أحدث خطط الموضة حيث أن تلك هي دراستها وبالطبع لم أستطع ترك شهاب ولا نوارة خاصة بعد وفاة أم حسين وصارت رضا هي المسئولة عن البيت لكن بمساعدة إمرأة أخرى فلم أكن أطمئن على شهاب ونوارة وحدهما خشية وقوع أي حدث ولا يستطيعان التعامل معه بمفردهما. رجتني كريمة قبل السفر أن تأتي معي سما وستتحمل كريمة نفقاتها، لأنها لم تعد تحتمل وجودها في البيت فقلت متعجبة:

-كريمة إنتي اتغيرتي خالص مش دي اليتيمة اللي كانت بتفكرك بنفسك؟ واللي حبيتي تعوضيها؟ كل ده اتنسى لما خلفتي؟

-ماتقسيش عليه زي عبده، انا بحبها بس مش زي أولادي طبعا ، لكن عبده بيحبها أكتر مني ومن الولاد وبيفضلها علينا وده مجنني ، أقولك وماتضحكيش عليه؟ متهيألي إنه ممكن يرمينا في الشارع عشان خاطرها وده مخليني مش طايقاها عشان كده شجعت فكرة سفرها للدراسة

-حرام عليكي ده بيحبك وقايدلك صوابعه العشرة شمع، انتي بتغيري من يتيمة مالهاش غيره؟

-انا اتحرمت من الحب طول عمري كنت عبء على الكل ، ومصدقت لقيت حد يحبني نفسي يبقى ليه لوحدي مش هي كمان تشاركني فيه

-حاولي تروحي لدكتور يساعدك يا كريمة

-حاضر هاروح بس خوديها معاكي

-هاخدها بس مش عشانك لأ عشان المسكينة تتفسح في أجازتها بدل ما تعكنني عليها

تعجبت من تقلب قلوب البشر وتغيرهم من حال لحال، فتلك الكريمة التي كانت تحضني على القرب من الله وأن أتسامح وأتعلم خشية الله في السر والعلن، هي من تسامحت مع كل من أذوها لا تستطيع تقبل فتاة يتيمة تشاركها حب زوجها.

سافرنا جميعا لدبي لحضور عرض الأزياء وانتهزت الفرصة ربما أراد أكرم مقابلة أولاده والتعرف عليهم، لكنه رفض لأنه كان مشغولا بزواجه الجديد. التقيت بجاسر ذلك الشاب الذي يرغب في الزواج من نادين عدة مرات وتحدثنا في عدة موضوعات وفي النهاية أعلنت له موافقتي لكن لابد من موافقة والدها. قابله أكرم وعندما عرف أن أسرته ثرية وأن راتبه في دبي عال وافق على الخطبة لكنه لم يحضرها. أقمت لهما حفل كبير في بيتي حضره الأسرة والأصدقاء ودعا شهاب كابتن علي الذي رحبت به عرفته على أفراد الأسرة، فهنأني وقال:

-واضح إن فكرتي عنك كانت غلط خالص أنا عرفت من شهاب طبيعة علاقتكم وأحب أقولك إنك ست عظيمة مش أي حد يقدر يعمل اللي إنتي عملتيه

-أنا عملت اللي ضميري شافه صح وقتها ولو الزمن يرجع بيه هاعمله تاني

-مش كل الناس عندها ضمير ولا القدرة على التضحية عشان غيرها

نظرت إليه فوجدته ينظر إلي ويبتسم فشكرته على كلماته وذهبت لأرحب بضيوفي، فلم تعد الكلمات تؤثر في فبعد كل تلك السنوات وبعد مئات الكلمات الجميلة التي تُقال في حقي لم أجد رجل واحد يأخذ موقفا جادا أو لديه الإستعداد لتحمل المسئولية معي بل كلهم معجبون بشخصيتي من بعيد. كثير من الكلمات وقليل من الأفعال ،هكذا هم كل من مروا بحياتي وعبروا عن إعجابهم بي، وأنا لم أعد أصدق الكلمات ولا نظرات الإعجاب، لم أعد أصدق ذلك الإنبهار الذي أراه في عيونهم، حتى قلبي كف عن الخفقان عند سماع تلك الكلمات الجوفاء. يبدو أن بعض الرجال لا يتحمل أن يتزوج بإمرأة قوية ومستقلة ، والبعض لا يحب أن يشاركه أحد في إهتمام زوجته، والبعض الأخر يرفض أن يتحمل مسئولية أبناء ليسوا أبناؤه. لقد رضيت بحياتي كما هي جافة بلا حب ولا مشاعر فيبدو أن ذلك هو قدري.

سافرت ندي وجاسر لعملهما بعد أن اتفقنا ان مدة الخطوبة عام حتى يستطيعان التعارف على بعضهما جيدا ويستطيع جاسر إعداد مسكن الزوجية، وحذرت ندى من الإنصياع وراء قلبها بلا تفكير وأن تضع دائما خوفها من الله أما عينيها ولا تفعل ما يغضبه، وبالطبع كنت أحدثها كل يوم وزاد اطمئناني عندما عرفت أن أكرم- كعادته- يستنفذ كل وقتها في العمل مقابل الراتب الذي يمنحه لها كغيرها من الموظفين.

كان شهاب يشرف على تدريب الصغار للحصول على الحزام الأصفر للكاراتيه فحضرت معه عندما حصل المتدربين معه على الحزام الأصفر وفرحته بهم وشكر أولياء الأمور له، كم كان سعيدا وعندما اقتربت منه لتهنئته قال لي:

-شفتي يا ماما مش قولت لك أن بقيت راجل

-طبعا يا حبيبي وأنا فخورة بيك جدا

فاقترب كابتن علي وحياني وهنأ شهاب ودعانا للإحتفال بنجاح شهاب فحاولت الإعتذار فصمم على دعوتنا للغداء في النادي فوافقت وجلسنا وظل يتحدث عن عمله بالتدريب وأنه يمتلك صالة جيم وأنه يقضي معظم وقته بينها وبين النادي فسأله شهاب إن كان له أولاد فارتسم الحزن على وجهه وقال:

-كان عندي ولد واتوفى وهو صغير

ثم سأل شهاب:

-مافكرتش بعد ما تاخد شهادتك هتعمل إيه يا شهاب؟

-لأ مش عارف بس أنا باحب الكاراتيه وباحب الأولاد الصغيرين خاصة اللي عندهم ظروف زيي وباحب أعلمهم وأساعدهم

-طيب ممكن بعد ما تاخد شهادتك نعمل في الجيم مكان لتدريب الصغيرين اللي عندهم ظروف خاصة وأنا وإنت ندربهم وبكده يكون عندك شغل بتحبه إيه رأيك؟

- أنا موافق إيه رأيك يا ماما؟

-ماعنديش مانع بس تاخد شهادتك الأول اتفقنا؟

-اتفقنا

التقيت بعلي عدة مرات في النادي وفي كل مرة كان يحرص على الحديث معي عن تفاصيل حياته ويسألني عن حياتي وذات مرة قال لي:

-تعرفي أنا أول مرة شفتك حكمت عليكي غلط ليه؟ لأني اتجوزت زمان قريبتي وكانت محاسبة في بنك وماكانتش عايزة تخلف عشان ماتنشغلش عن شغلها وطموحاتها لكن مع اصراري خلفنا وربنا رزقنا بأحمد وكان من أطفال متلازمة داون لكن كان عنده مشاكل صحية كتيرة وهي كانت من أول يوم كارهاه إزاي هتتعامل معاه وتواجه بيه المجتمع، كمان مرضه هيعطلها عن شغلها ويقف في سبيل طموحها وهو صغير ودته حضانه خاصة تناسب ظروفه لكن طبعا الحضانه اهتمامها ورعايتها مش زي الأم وبعد سنتين من المشاكل والخلافات ورفضها له  واهتمامي أنا بيه على أد ماقدرت،اتوفى وكأنه هو اللي رافض يعيش في دنيتنا مع أم أنانية زيها ، ماقدرتش أتحمل الحياة معاها فطلقتها ومن يومها ما قدرتش أتجوز تاني وقررت أخصص جهودي للأطفال اللي لهم ظروف خاصة عشان أنا أكتر واحد نفسي أساعدهم وحاسس بألام أهلهم ولما قابلتك وقلت انك والدة شهاب وإنك دايما سايباه مع إخواته افتكرت طليقتي اللي كانت بتتكسف منه ودايما مشغولة بشغلها عنه، عشان كده كنت باعاملك بعدوانية.

-أنا اتجوزت والد شهاب وهو مصمم يخلف ولد وكل مره تيجي بنت لحد أخر مرة كنت هاموت أنا ونوارة والدكتور منعني من الحمل فقرر أكرم انه يتجوز تاني عشان يجيب الولد، واختار واحده غلبانه ويتيمة عمها كل همه يبيعها بالفلوس ولما خلفت شهاب أكرم اتضايق انه مش طبيعي وقرر يسيبها هي وشهاب بس هيتحمل مصاريفها، هي متعوده إن فيه راجل يشيل مسئوليتها وتتحامى فيه فكانت مسئولية شهاب تقيله عليها جدا ولما جاتلها فرصة جواز طارت عليها من غير ماتفكر في مصير شهاب وسابته عندي بحجة إنها مسافرة يومين وراجعة واتفاجئت بيها بتقول ياتربيه يا توديه دار رعاية، قلبي طبعا ما طاوعنيش والبنات كانوا متعلقين بيه فقررت إني أربيه لوجه الله والحمدلله بقى من أجمل الحاجات اللي في حياتي

-تعرفي إني مليت من الوحدة وبافكر إني أتجوز، محتاج ونس وعيلة

-من حقك

-يعني لو قلت لك عاوز اتجوزك هتوافقي؟

-أنا؟

-عندك مانع؟

-أنا حملي تقيل وبعد فترة هتزهق من الدوشة اللي أنا عايشة فيها، كمان من حقك يكون لك طفل وأنا كبرت في السن و الدكاترة منعوني من الحمل من زمان

-أنا كمان كبرت على إني يكون عندي أطفال أربيهم لكن محتاج دفا الأسرة ولمة العيلة

-إنت اخترتني عشان شهاب؟ بس انت ماتعرفش عني حاجه

-لأ أنا اخترتك عشان إنتي إنسانة متميزة ، تباني قوية وشديدة لكن قلبك كله حنيه وطيبه، إنسانه عمليه وناجحه ورغم كده مهتمه بكل فرد من أسرتك، أنا محتاجك إنتي بكل ظروفك بعيلتك بدوشتك ومسئولياتك

-هتقدر تعيش مع واحده بربع عقل وقلب؟

-يمكن لما أشيل معاها الحمل وأشاركها مسئولياتها ألاقي لي مكان أكتر

- أنا قلبي قفلته من زمان واتعودت على وحدتي مش عارفة هاقدر أتأقلم على حياتي معاك ولا هاتعبك

-هاسيبك تفكري وهانتظر ردك بس وانتي بتفكري عايزك تفهمي اني مافكرتش في الجواز غير بسببك ولو ماوافقتيش مش هاتجوز غيرك

نظرت إليه بذهول غير مصدقة أني بعد كل هذا العمر وكل سنوات الجفاف في مشاعري ،فجأة أجد من يحبني ويريدني بكل مشاكلي وهمومي، هل حقا مازال الحب موجود؟ وهل هناك من يحب من هي في مثل عمري؟ وهل يريدني حقا؟ كنت غارقة في تساؤلاتي فقررت أن أستعين برأي كريمة التي أصابها الذهول وقالت:

-مش ده اللي كنتي مسمياه الجلف؟

ضحكت وقلت:

-شكلي حكمت عليه غلط زي ما عمل معايا

حكيت لها كل ما حدث فسكتت قليلا وقالت:

-وإنتي حاسة بإيه؟

-مرتبكة ومخضوضة لأول مرة حد يحبني مش عشان جمالي ولا مالي، لا بيحبني أنا بكل مشاكلي ومسئولياتي

-أنا بسألك عن مشاعرك إنتي

-مش عارفة مبسوطة وخايفة ، بارتاح في الكلام معاه وخايفة اتصدم فيه أو يغدر بيه وأنا تعبت ومحتاجة أرتاح

-رأيي وافقي من حقك تعيشي وتحبي زي كل الناس وارمي الخوف ورا ضهرك إيه يجبره يشيل الهم ده معاكي إلا إذا كان بيحبك فعلا؟

-هاستخير ربنا وأشوف

أخذت برأي البنات فوافقن وقلن أني حرمت نفسي من سعادتي من أجلهن وحان الوقت لأعيش حياتي لكن نادين لم تكن سعيدة بدخول رجل غريب حياتنا، ولما سألت شهاب عن رأيه قال انه يحبنا ويتمنى أن نكون معا حتى لا نتركه. استخرت الله كثيرا وكنت أشعر بارتياح تجاه علي أكثر فقررت أن أتم الزواج وأبلغته موافقتي بشرط أن نعيش في بيتي حتى لا أغير حياة أولادي أو أحدث فيها أي ارتباك فوافق وحددنا موعد الزواج بعد شهر. كنا نتحدث يوميا عبر الهاتف أو نتقابل أو يأتي لزيارتنا في البيت ، كم كنت أشعر بالخجل والسعادة في آن واحد ، فخلال تقاربنا اكتشفت به إنسانا يحمل قلبا حنونا ، جاد جدا في عمله ويحب الأطفال بشكل كبير فشعرت بألم لأني سأحرمه من أن يكون له طفل فصارحته بذلك فقال:

-أنا كبرت على إني أخلف طفل واتحمل مسئوليته وباعوض ده مع الأولاد اللي بادربهم

تم الزواج في حفل عائلي بسيط حضرته ندى وجاسر وكريمة وأسرتها ، كنت أرى في عيون نادين غيرة من أن يدخل رجل في حياتي ويشغلني عنهم، لكني كنت أعلم أن لا شيء في الكون يشغلني عنهم. بدأت حياتي مع علي واكتشفت معه أني لم أعش قبله، فقد كنت أحيا بقلب ميت وروح موؤدة حتى جاء بحبه وحنانه فأحياني،عشت معه أحاسيس لم أعرفها يوما ولم أتخيل لها وجود.ترى هل سيتغير عندما ينغمس معي في مسئولياتي؟ هل سيغار ممن يشاركونه قلبي؟ لا أعلم لكني صممت أن أستمتع بحياتي وبلحظات السعادة التي من علي بها القدر.

انغمسنا سريعا في واقعنا الذي نعيشه بكل مافيه فكنت أتابع ندى وتجهيزات الزواج، كما كنت أتابع نادين في دراستها هي وسما، وأتدخل بين حين وأخر بين كريمة وزوجها لأحل مشاكلهما بسبب شدة غيرة كريمة عليه أحيانا، وبسبب تدليلها التوأمين أحيانا أخرى، وحمدت الله أن نوارة سرعان ما تأقلمت مع علي وتقبلت وجوده في البيت بل وجدت فيه تعويضا عن الأب الغائب، وبالطبع كان شهاب سعيدا بوجوده فكانا يتشاركان في الكثير خاصة مباريات كرة القدم والمصارعة. كنت أخشى أن يكون علي عبئا جديدا يُضاف لأعبائي لكني وجدته سندا لي يحمل عني بعض مشاكلي ويتدخل أحيانا ليحلها أو يشير علي بالرأي الصواب، كم كنت أفتقد وجوده في حياتي من قبل.كانت بيننا بعض الإختلافات لكننا لم ندعها تفسد حياتنا ولم نتركها تكبر.

حان موعد زواج ندى فكنت أريد السفر أنا ونوارة ونادين قبلها بأسبوعين لنساعدها في إعداد البيت لكني لا أستطيع ترك شهاب وخاصة وأنه على وشك الإمتحان بعد يومين فقال لي علي:

-ماتخافيش سافري وأنا معاه

-بس أنا عمري ما سبته لوحده

-هو مش لوحده

-ومذاكرته ؟

-سما وعدتك إنها هتذاكر معاه مش هاتسيبه وهو قالك سافري

-تعرف ياعلي لو ماكنتش انت موجود كنت عمري ما أسافر وأسيبه كنت هأجل الفرح، لكن وجودك طمنني وشلت عني مسئوليات كتير ربنا يخليك لنا

قبلني في وجنتي وقال مبتسما:

-مبروك يا أم العروسة

-هاستناكم ما تتأخروش

سافرنا وكنت أكلمهم عدة مرات في اليوم، ورغم أنه لم يمض على زواجنا سوى عدة أشهر إلا أني شعرت –لأول مرة- أني أفتقد علي بهدوئه وابتسامته الحنون ، لكني كنت انغمس في التجهيزات حتى أتغلب على مشاعري، وعندما جاءا هو وشهاب ذهبت إلى المطار لأستقبلهما وضممتهما بشوق فقد كنت أفتقد كلاهما، فضمني علي بقوة وقال لي هامسا:

-وحشتيني جدا جدا

-وإنت كمان

وفي يوم الزفاف قال لي هامسا وهو يمسك بيدي:

-ماينفعش الأم تبقى أجمل من العروسة

-بطل مجاملة

-تصدقيني لو قلت لك إنت أجمل واحدة في عيوني

ابتسمت بزهو وأمسكت بيده وكأني أتعلق به خشية أن يضيع مني بعد كل تلك السنوات التي حُرمت فيها من الحب. لم يحضر أكرم الزفاف وعندما اتصلت به نادين أخبرها أن زوجته على وشك الوضع ولابد أن يكون معها ،فبكت ندى وقالت:

-حتى في يوم زي ده سابني برضه، مين هيبقى وكيلي؟ وأهل جاسر هيقولوا عني إيه؟

سكتنا جميعا فقال علي:

-لو ترضي يا ندى يشرفني إني أكون وكيلك

قالت ندى بذهول:

-صحيح ياعمو هتبقى وكيلي؟

-طبعا أنا باعتبرك بنتي ودي هتكون من أسعد لحظات حياتي

وضع علي يده في يد جاسر وتم الزواج ونسيت ندى حزنها وغضبها من أبيها فقد تصرف كعادته معنا لكن الله عوضنا بعلي.بعد إتمام الزواج جاءته نادين وقالت من خلال دموعها:

-أنا كمان يوم فرحي عاوزاك تكون وكيلي

-هو أنا أطول يا حبيبتي، أقولك على سر لو كنت قابلتك الأول كنت اتجوزتك إنتي

فضحكت فقال :

-أيوه كده مش عايز أشوف دموعك دي طول ما أنا عايش

-ربنا يخليك لنا

عدنا لبيتنا وعندما صرنا بمفردنا قلت له:

-إنت أنقذتنا بوقفتك معانا

-تصدقي إني طول عمري باحلم ببنتى اللي هاكون وكيلها يوم فرحها وأسلمها لعريسها وقلت لما جه فرح ندى مستحيل الحلم يتحقق لأن أبوها موجود وأكيد مش هيفوت لحظة زي دي واتفاجئت إنه ماجاش وكأن ربنا أخيرا عاوز يحقق حلمي مش قادر أقولك أد إيه كنت سعيد بيكم كلكم وبسعادتكم وأد إيه أبوها مسكين إنه حرم نفسه من اللحظة دي وفي نفس الوقت ضاع منه الطفل اللي بيستناه طول عمره.

-عمره ما وقف جنبهم لا في حلو ولا في أي موقف هو مجرد ممول لحياتهم، كنت باشوفهم بيتقطعوا من قسوته ومش عارفه أعمل إيه، بالعكس كنت باحس بالذنب لأني اخترته يكون أب لهم، كنت خايفه منك إنك تمل من مشاكلنا أو تقول وأنا مالي وساعتها كنت هاعذرك لكن لقيتك أجمل من كل تصوراتي وأحلامي بتعمل كل جهدك مش بس عشان تسعدني لأ وعشان تسعد أولادي كمان، بجد إنت مكافأة ربنا ليه بعد سنين قسوة وتعب.

-أنا سعيد بوجودكم في حياتي خليتوا لها طعم وخلتوني أحس إني عايش وليه فايدة في الدنيا، كنت عايش لوحدي في كهف ضلمه ما بيشوفش أي نور، لحد ما دخلتي حياتي ومليتيها بنور روحك وقلبك اللي مافيش أجمل منهم ، إنتي نور حياتي ، مش بس حياتي لأ وحياة كل اللي حواليكي.

الحياة بقدر ما تحرمنا من أشياء فإنها تمنحنا أشياء أخرى، وقد يكون الحرمان إختبار لقدرتنا على الصبر، أو لأنها تمنع عنا أذى ، وعندما نصبر تكون المكافأة، فسر السعادة في الحياة في الرضا بالمقسوم.

تمت

23-3-2019

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
المتواجدون حالياً

711 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع