يوسيجيرو أوزو من المخرجين الذين أتجنب مشاهدة أعمالهم إذا وقع الإختيار على أحد أفلامه، لسبب واحد فقط، إلا وهو الصمت الذي يغلف الخيبات التي تكابدها الشخصيات في أفلامه
كنت أتساءل عن السبب وراء الإبتسامة التي تعلو محيا وجوه شخصياته، وهم ينظرون مباشرة إلينا، ويتفوهوا بأقسى الكلمات. ربما لم أفهم وقتها، ربما لاعتيادي على طباع الشعوب التى تعبر عما بداخلها بكل ما أوتي لهم من وسيلة
لكن اليوم وانا أشاهد فيلمه «غسق طوكيو»- Tokyo Twilight أدركت مالم أدركه من قبل
تدور أحداث الفيلم حول شقيقتين تدركان وجود أمهما- التي تخلت عنهما في الصغر- في طوكيو. الأخت الكبرى متزوجة من زوج يسيء معاملتها بسبب إدمانه الخمر، فتترك منزلها وتذهب للعيش برفقة والدها المصرفي العجوز، وبرفقة شقيقتها الصغرى التي تحاول الخروج من ورطة لا يعلم بها أحد
هناك أمثلة شعبية تذكرتها أثناء المشاهدة أولها (يا مخلّف البنات، يا شايل الهم للممات)، بخلاف ان المثل يُقال للأم، وليس للأب، لكنه من الأمثال التي تلائم طبيعة المجتمعات الأبوية مهما اختلفت الألسنة مثل المجتمع الياباني، وهو يصف في الفيلم حال الأب العجوز
يبني المخرج ما لا يقال في فيلمه من المشاهد الأولى، نرى الأب في إحدى الحانات، عندما تخبره مالكتها أن زوج ابنته قد نسى قبعته عندما ثمل برفقة أصدقائه، يرد عليها الرجل لابد إنه سيعود لاستردادها، يستخدم اوزو القطع والانتقال بين اللقطات لتكون بمثابة سبب ونتيجة، بمعنى نرى بوادر القلق على وجه الأب، ثم ينتقل للقطة التالية على قبعة زوج الابنة، وبهذا يعرض علينا المخرج السبب والنتيجة، كما يؤسس بداية من هذا المشهد أسلوب بصري يتميز به الفيلم، وهو إستخدام لقطات شبه جانبية خلفية لشخصياته مع احتفاظه بمسافة بيننا وبينهم
ترتبط هذه اللقطات ارتباطا وثيقاً بالصمت المتعمد لشخصياته، ويأتي هذا من سمة (الغامان) وهي قيمة يابانية تعني الصبر والتحمل، وهي ذات ارتباط وثيق بثقافة كبت المشاعر لصالح الحفاظ على الانسجام المجتمعي.
نرى الشخصيات تمر بأزمات لكن لا تقربنا كاميرا المخرج منهم، بل تبتعد عنهم وتحافظ على مسافة بيننا وبينهم احتراماً لمشاعرهم، ولتوضيح تحملهم اياها في صمت
يستعرض الفيلم الآثار السلبية على حياة الفتاتان بسبب غياب الأم، فهناك ما تعجز هاتان الفتاتان عن قوله لابيهم، فتحاول الكبرى أن تحل محل الأم في حياة الصغرى، لكنها تحتاج بدورها لمن يساندها في محنتها مع زوجها، وكأن لسان حالهن (اللي من غير ام حاله يغم)
وربما مأساة الصغرى هي التي ستهز كيان هذه العائلة التي لا تدري مصابها، فهى تحمل خارج إطار الزواج من صديق لها، بعدما تركت دراستها الجامعية حتى تكون بقربه، زد على ذلك اعتيادها على ارتياد الحانات ومقاهي القمار، تمثل هذه الفتاة الجيل الجديد الذي يعيش شبابه بعد الحرب العالمية الثانية في اليابان، جيل لا يحسن ابتلاع الصمت مثل الجيل الأكبر المتمثل في الأب والأخت الكبرى. وتدفعها مأساتها نحو الإنفجار والتعبير عن حزنها بالبكاء والغضب، والقاء اللوم على الأم
ويرافق الصمت، كبح المشاعر التي يعبر عنها الأداء المقيد الذي هو سمة مميزة في أفلام أوزو، وهذا أيضاً له علاقة بمفهوم ياباني أخر يسمى (إيشين دينشين) وهو تعبير ياباني يعني حرفياً **”التواصل من القلب الى القلب “**، ويشير إلى التواصل غير اللفظي أو الفهم الضمني بين الأشخاص دون الحاجة إلى كلمات. يُعتبر جزءًا من التواصل **”عالِي السياق”** في الثقافة اليابانية، حيث تُفهم الرسائل عبر الإيماءات أو الصمت أو السياق المُشترك
يتجلى هذا في اداءات الممثلين الرئيسين في الفيلم وعلى رأسهم الممثلة (سيتسوكو هارا)، بطلة أغلب أعمال (أوزو). في أحد المشاهد بعدما تلقى باللوم على أمها لمصاب شقيقتها الصغرى، تعاقب والدتها بالصمت، في المشهد التالي لهما، ونظراتها تعبر عن اللوم والحزن الدفين بداخلها، ثم تنفجر في البكاء لأول مرة في الفيلم
تفرض الصورة بسطتها في التعبير عما لا يقال، مثل المشهد التالي لمشهد تخلص الاخت الصغرى من حملها، يجعل (أوزو) رضيعة الابنة الكبرى هي التي تتصدر المشهد التالي، ويقطع بينها وبين خالتها، جريحة الفؤاد جراء فعلتها تلك
كما يستخدم المخرج الأحوال الطبيعية للمناخ تعبيراً عن سياق المشاهد، مثل مشهد اعتراف الابنة الصغيرة اكيكو لحبيبها كايجي عن حملها، يستغل (أوزو) وقت الغسق الملبد بالغيوم دلالة على انحدار حال الفتاة، وإشارة كذلك لمأساويتها، ونذير مرئي لما سيحدث بين الحبيبين
يعج الفيلم بكثير من اللقطات الصامتة التي تعبر عما يحدث، او نذير لما سيحدث، او كدلالة لمشكلة تعاني منها الشخصيات، مثل استخدام المخرج للقطة تأسيسية يستهل بها مشهد حوار يدور بين الأب وزوج الابنة الكبرى مدمن الخمر، تبرز في الإطار زجاجة الخمر سبب كل المشاكل، ثم نرى بعدها الأب المهموم بمصاب ابنته التي حرمها من شاب أحبته في الماضي من أجل زواج تقليدي دبره لها
يبدأ الفيلم بمشكلة الأخت الكبرى، وينتهي معها أيضا بعد تعلمها الدرس من مصاب شقيقتها الصغرى، ومن أنانية والدتها، فتتدارك خطأها من أجل مصلحة رضيعتها، ليختتم اوزو الفيلم بلمحة أمل بعد أحداث ثقيلة الوطأة طوال مدة أحداث الفيلم التي تتجاوز الساعتين
تكمن عالمية أفلام أوزو في المواضيع الإنسانية التي يتناولها، لكنها في نفس الوقت شديدة الخصوصية بالشعب الياباني، في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتأثير الاحتلال الأمريكي لليابان، ربما نجد في سينما معاصريه الشخصيات تبوح باسراريرها، وكذلك في موجة السينما اليابانية الجديدة التي تبعت فترة اوزو واقرانه أمثال كينجي ميزوجوتشي وناروسي، لكن الصمت عند أوزو له صوت يعلو صخب أبلغ الكلمات





































