جلس على مقعده الخاص بجوار المدفأة العتيقة وهو يشعر بارتجافة تسري في كل ذرة في كيانه .. ارتجافة لا تنبع من شعوره ببرودة الجو في تلك الليلة الشديدة البرودة من شهر يناير بل نابعة من ضربات ألام تسيقظ داخل نفسه وقلبه بعد سبات عميق أو هكذا بدا له .. فقد مكث طوال عان كامل يحاول جاهدا وأد آلامه ولوعاته واحساسه المضني بالوحدة وقد إعتقد أنه أفلح في ذلك لكنه تكشف له الآن أنه كان يضع التراب على نيران مستعرة كانت تنتظر إشارة منها تكون بمثابة نفخة لتعود النيران لتستعر في قلبه من جديد
شعر بزلزال يعصف بكيانه كله لا يدري أهو غضب أم أم لوعة أم شوق ولهفة للقائها لايدري ولكن الذي يتيقن منه تماما أن محصلة تلك الأحاسيس هو ألم فاق الاحتمال لم يستطع كثيرا الجلوس مكانه فوقف يجوب الحجرة ذهابا وإيابا متعثرا في خطواته لا يلوي على شيء وفجأة دق الباب طرقات خافتة ثم سمع صوت الخادمة تقول : أستاذ أحمد الأستاذة سمر ...
ها هي قد أقبلت من أيقظت آلامه وأطلقتها كالمارد من القمقم الذي مكث طويلا يخمده بلا طائل .. تعثر في خطواته وهو يعود لمقعده ويجلس عليه محاولا السيطرة على انفعالاته وكأنه يحتمي بحضن مقعده الذي شاركه آلامه لليالٍ طويلة وقال في هدوء : دعيها تأتي
سمع صوت الخادمة وهي تدعوها للدخول وصك أذنيه صوت قرع نعلها الهادئ المتردد وكأنه ناقوس يدق معلنا بدء حرب جدديدة لمزيد من نيران جديدة
سمع صوت الباب وهو يغلق وصوتها وهي تقترب منه وتقول في هدوء متوجس : كيف حالك
رد في اقتضاب وبهدوء مماثل لا يعبر عن السعير الذي ينتشر في أوصاله : بخير حال الحمدلله ... وأشار للمقعد المقابل قائلا : تفضلي
جلست أمامه صامته وهو يشعر أنها تحارب نفسها لتخرج الكلمات ثم قالت : لقد أوحشتني كثيرا .. ظل صامتا جامدا كالتمثال فاستطردت : أعلم أنك غاضب مني وأنك تظن أنني قد تخليت عنك ولكنني أقسم لك أنني لم أقصد أو أتعمد جرحك أو إيلامك في يوم من الأيام .. ما حدث كان رغما عني كنت مضطرة للسفر وأنت وافقت ولم ترفض لم أكن اعلم أنك ستمر بتلك المحن وللأسف أن عدم استيعابي لها جعلني أتهمك بالكذب ربما لأنني لم يكن بيدي شيء أفعله فصور لي شيطاني أنك تختلق الزمات لتجبرني على العودة ووجدت نفسي في هذا مبررا لراحة قلبي لكنني الآن وبعد ان تجلت لي الحقيقة لا أجد من الكلمات ما أعبر به عن أسفي لا أجد سوى أن أرجوك وأتوسل إليك ان تسامحني وتغفر لي .
ظل صامتا ساكنا لا يظهر على وجهه أية تعبير مما دعاها لأن تقول : لما لا تتحدث معي .
أسند ظهره للمقعد وقال : وهل من المفروض أن أحادثك .... قالت في دهشة صادمة : ماذا ؟؟؟!!
قال : أنتي الذي اتصلتي بي وأنتي التي طلبتي المقابلة وأنتي التي رجوتني أن أمنحك فرصة للكلام والدفاع عن نفسك وها أنا ذا لبيت لكي طلبك ولكن لم أعدك أن أبادلك الحديث ليس لتعنت مني ولكن لأن لم يعد في قلبي حديث لكي فقد ماتت لغة الكلام بيننا ولا سبيل لدي مرة أخرى لاحياها .
اقتربت منه وشعر بقرب أنفاسها مما زاد من تأجج النيران بداخله وكاد يغرق مرة أخرى مستسلاما لأمواج حبها التي عادت تتلاطم بداخله لولا ان مدت أناملهلها لتلمس يده فهب واقفا كمن لدغه عقرب قائلا : أرجوكي ... وكاد يسقط وهو يتعثر الخطا حتى أنها اقتربت منه لتساعده إلا أنه أزاح يدها عن ذراعه في غلظة وقال محتدا : لم أطلب مساعدتك .. لا تتخيلين أنني طالما صرت ضريرا سأحتاج لكي أو لغيرك أو انني أصبحت مرتعا للشفقة والعطف منك أو من غيرك .. ثم شد هامته وقال في صرامة وتحد أنا لا أحتاجك ولا أحتاج أي شخص على الاطلاق
صرخت ملتاعة : أحمد أرجوك سا محني ولا تسيء الظن بي
قال متهكما : أسيء الظن !!! ليتني فعلت ما كنت تجرعت كل تلك المرارة التي اودعتيها في حلقي .. تدعين أنكي كنتي مضطرة للسفر وما الذي إضطرك سوى طموحك وأحلامك التي كنتي تريدين تحقيقها لنفسك بعد أن اتهمتيني بالتقصير في أن أمنحك ما تريدين .. ألم تكوني تعلمين أن أكثر ما يجرح كرامة الرجل وكبريائه هو أن يشعر بالفشل في منح من يحب ما تصبو اليه .. ان يشعر أنه عاجز غير قادر عن احتوائها وكفايتها من كل شيء .. لم تفكري ولو للحظة واحدة في أو قي مشاعري كل ما يهمك هو أنتي وأحلامك .. تقولين انني قد وافقت على سفرك .. وماذا كنت أفعل وانا أراني ضئيلا في نظرك ألم يكن أدنى شيء أقدمه لكي ألا أقف في طريق أحلامك وطموحك .. لقد قلتي لي أنكي تشعرين ني اتعذب من ابتعادك ومجرد فكرة سفرك ورغم ذلك لم تتراجعي لم تشعريني أنكي تفعلين شيئا من أجلي في الوقت الذي أبذل فيه نفسي وكرامتي من أجلك .. الحب أخذ وعطاء أما الحب لديك فهو أخذ فقط ...
اانتحبت قائلة : كنت اشعر بوحدة وعدم أمان كنت أريد ان أفعل شيئا للزمن ..
قال صارخا : وحدة وعدم أمان يالها من أسباب رائعة ومنظقية لمن تعيش في كنف رجل .. رجل لا تكتمل رجولته امام من يحب الا عندما يشعر أنه أمانها وملاذها فإن لم يكن كذلك فما قيمته .. فما قيمة الحب بينهما من الأساس ... اتهمتيني أنني أختلق الأكاذيب لتعودي.. هراء .. وحتى إن كان فهذا مشروع فهذا دليل على حبي واحتياجي لكي ولكنك رايته تحاليل وألاعيب وأكاذيب .. والآن وبعد أن تكشفت لكي الحقيقة ورايتني قد فقدت البصر إثر هذا الحادث الذي لم تصدقينه ولم تحاولي للحظة التحقق منه واكتفيتي بفسخ خطبتنا وفسخ كل رباط محبة بيننا بعين باردة .. الآن وبعد أن تكشفت لكي الحقيقة تاتين لتعيدي ما كان بكلمة اعتذار وبضعة دموع .. لا لن أبذل كرامتي من أجلك مرتين
صمتت برهة ثم قالت : أتسمح لي أن أسألك سؤال وتجيبني بصراحة
قال وهو يحاول استعادة هدوءه : تفضلي
قالت : هل مازلت تحبني .. "كانت تعلم أنه سيجيبها بالرفض ولكنها محاولة يائسة لاسترجاعه"
قال دون تردد : نعم مازلت أحبك .. مع الأسف
آلمتها الكلمة فرددتها : مع الأسف !!
قال : نعم بل يحبك يجري بدمي ولكن كالسرطان فسرطان الدم يسري بالدم هل معنى ذلك أننا سعداء به .. الحب الحقيقي هو الذي تشعر معه أنك تحمل بين ضلعوك كنز منفرد به عن غيرك حب تسعد به وهي ينطوي متدثرا بحنايا قلبك وليس حب كل ذرة في كيانك ترفضة وتأباه بشدة وتتمنى اللحظة الذي تلفظه فيه كالرحم حينما يلفظ ابن الخطيئة
استنكرت : أتسمي كل هذا الحب ابن الخطيئة ..
تهكم : كل هذا الحب .. كنا نتصوره كذلك ولكنه تكشف عن حقيقته عندما زال عنه الانبهار والاعجاب وهدأت العاطفة وبدأ أول اختبار حقيقي لمن يضحي من أجل الآخر .. من تحمل من أجل الآخر لم يصمد وبدت حقيقته الواهية
ثم تنهد قائلا : لا يوجد فائدة من الكلام لقد اسدلت كلمة النهاية منذ أن أثرتي ابتعادك دون أن تعيري مشاعري أدنى اهتمام وما حدث بعد سفرك ما هو الا رقصات طائر ذبيح يحتضر حتى سكن سكون الموت
سمعها تبكي وتنتحب وقال في صوت لايدري ان كانت سمعته ام لا : أحمد الله كثيرا أنني صرت ضريرا حتى لا أراكي وانتي تبكين والا كنت سلمتك صك عبوديتي مرة اخرى ..
قالت كمن لم تسمعه : إذا فلن تسامحني
قال وهو يعاود الجلوس : لقد تجاوز ما بيننا حد التسامح
سمعها تودعه وتخرج وصوت قرع نعلها يصك قلبه هذه المرة فانكمش في مقعده وقال : ولكن إن كانت لا ترى عيناي دموعك فاحساسي بها مزق نياط قلبي
ولكن عذرا قلبي انها كرامتي