كنت أعتبر الوقت في طريقي اليومي من مدينة الإنتاج الإعلامي حيث مقر عملي بقناة اون تي في إلى مصر الجديدة عمرا ضائعا، لكنني بعد فترة قصيرة أدمنت القراءة والكتابة خلال الطريق في الصباح.
أما في طريق العودة فقد كنت أتعذب لأن باص القناة غير مؤهل للنوم بسبب سائقه الذي كان عصبيا منفعلا معظم الوقت يعتبر القيادة حلبة مصارعة أو سباق رالي وهو يقوم بدور مايكل شوماخر، كان هذا حتى بدأت "أم هاني" تركب معنا.
أم هاني سيدة نوبية ضخمة البدن طيبة الملامح حفر الزمن بقسوة خريطة شقاء واضحة المعالم على قسماتها، يحبها الجميع ويعتبرها اما له، نظيفة، لا تنبعث منها رائحة، وهو أمر عظيم لمن ابتُلِي مثلي بأنف حساس لأي رائحة.
أم هاني تعد "الشاي والقهوة والذي منه" للعاملين بأون تي في، الكل يعرفها.
المهم بدأت أم هاني تركب الباص بجانبي في طريق العودة وتنزل في رمسيس وتراني أتعذب وأنا أغفو وأتساقط وأفيق فزعة على كلاكس يصرخ أو مطب قميء.
كان ذلك من عاداتي حتى أعارتني أم هاني كتفها إشفاقا، هي اعتادت أن تناديني بـ "يا أستاذة"، لكنها حين أشفقت عليّ وقررت أن تعيرني كتفها لأنام عليه قالت لي "نامي يمّه"، ثم أناخت لي كتفها الحنون اللدن نظرا لضآلة حجمي مقارنة بها.
كتف ممتلىء دافىء نظيف الرائحة، رحت بعدها في غيبوبة عميقة واستيقظت ممتنة في رمسيس.
أم هاني هي وسادتي السمراء الحنون الطيبة النظيفة.
أم هاني أصبحت وبدون كلام تركب الباص وتجذبني كعصفور أصابته "نبلة" من عيل "غتت" دروخته ولم تقتله، فتخفض لي جناحها لأنام وهي تهمس"نامي يمّه" بكل طيبة وسماحة فنصير سويا لوحة عجيبة لصقر أسمر قوي وعصفور مسكين منهك ارتاح آمنا على نفسه تحت جناحه.
هؤلاء الطيبون الذين يعبرون حياتنا يضعون لمسات بسيطة حانية دون انتظار لأي شيء، مجرد إنسانية نفتقدها كثيرا هذه الأيام، فطوبى لهؤلاء المارين في سلام.