فرضوا الحظر، والقلق فرض سطوته على قلوبنا قلقًا من هذا الكوفيد، أُُسدلت ستائر الصمت على الشوارع، غَلقت الضوضاء كل منافذها، وسكنَّا بيوتنا ...معًا ...وجهًا لوجه نواجه ما كنا نهابه، ونهرب منه متعللين بالانشغال. هذا القناع الهادئ صباحًا، حتى تمر ساعة الصباح وينشغل كل منا، ونختم اليوم بقناع الإرهاق، والهروب إلى الوسادات كنعام ندفن رؤوسنا فيها هذا أيضًا فسد؛ فأين المفر؟؟؟ سنتوقف في أيام الحظر لنرى حياتنا من الداخل، تلك الصورة الهادئة على صفحة الماء.... هل ستتغير؟ هل يمكن أن تصمد أمام حجر المواجهة؟؟
نظرت إلى جانبي فلم أجدها، استيقظت وقد شبعت من النوم، أبت جفوني الاسترخاء، فلم يكن هناك مواعيد تستدعي الاستيقاظ مبكرًا، نظرت إلى ساعة الهاتف لأجدها الثامنة فهلعت أفرك عيني متوسلًا إلى النوم أن يعود أدراجه إلى عيني، ولكن بلا فائدة، كان عليَّ أن أواجه أول أيام الحظر، لم يصل إلى مسامعي إلا أصوات خفيفة تأتي من المطبخ، ذهبت إلى الحمام، ومررت الماء على وجهي، محدثًا مرآتى:
"ابق هادئًا، مررنا بعواصف ضارية وكلانا منشغل بأعماله الخاصة؛ لذا حاول أن تنشغل، إذا لم تكن هادئًا لعل الأمر ينتهي بك كقاتل."
ابتسمت لنفسي بالمرآة، أقنعها أن الأمور ستكون على ما يرام، وذهبت بخطوات مثقلة إلى المطبخ, أجر قدمي, وقفت ببابه دون أن أتحدث، تلبس ثوبًا قصيًرا أظنني لم أره من قبل ...لا... أنا أحضرته لها بأول عام من زواجنا، تذكرته جيدًا، بكت فرحًا حينما أهديتها اياه دون مناسبة، ياللهول!!! هل فقدت الكثير من وزنها متى حدث هذا؟؟
منشغلة بإعداد الافطار... شعرها؟؟؟ أصابتني مفاجأة أخرى شعرها قصير؟؟؟ من تلك الجميلة أين امرأتي ؟
الدهشة ملأت ملامحي كدت أسالها لكن .
-"بابا أريد ماء"
لألتفت لصغيري عمار الذي يمسك ببنطالي، نظرت إليه وابتسمت، ومددت يدي إلى زجاجة ماء معدنية فتحتها لأعطيها له؛ لينظر لي بخيبة ويهز رأسه بالرفض، وقبل أن انحني له لأفهم السبب، انطلقت من جانبنا تاليا كالسهم نحو أمها كأنني شبح لا تراه لتقول بمرح :
-"أمي.. لقد وصلت أولاً، أريد الماء بالليمون"
لتلتفت حنان وعلى وجهها بشاشة صباحية بنكهة حديقة من زهور الياسمين، لتصفعني الدهشة من جديد، تزينت على غير عادتها، هي لا تحب وضع المساحيق، هل الفيرس الجديد له اعراض نفسية أم ماذا ؟
أعطت تاليا زجاجة زهرية, فركض عمار نحو أمه قائلًا بحماس طفولي:
"وأنا"
أعطته زجاجة زرقاء
لأحدث نفسي كمتفرج ..يا ويلتي لا أعرف كيف يتناول توأمي الماء صباحًا ..
انتبهت من شرودي على صوتها الهادئ
-"تعال حازم حضرت البيض المقلي كما تحب، وقهوتك دقيقة وتكن جاهزة"
تقدمت نحو عائلتي الصغيرة تننتابني مشاعر مختلطة، سعادة، وراحة، وخيبة، وبعض الضياع، ولأول مرة أجلس على طاولة طعام الصباح منذ سنوات دائمًا ما أتناول شيئا خفيفًا وأنا ألوح لهم مسرعًا لعملي.
أراقبهم كأنني لم أرهم منذ وقت.
كل منا أمامه ما يحب صغاري حبوب الذرة بالحليب، وأنا التوست الفرنسي والبيض مع القهوة الفرنسية، وهي ؟؟؟؟
هي تنظر إلى هاتفها وليس أمامها أي طعام، سألتها لأول مرة على ما أظن منذ ثماني سنوات
-"حنان ألن تتناولي فطورك؟"
لترفع أهدابها الطويلة المجملة وقالت بدهشة
-"ماذا؟ لا أتناول وجبة الصباح غالبًا عندما ينتهي عمار وتاليا من فطورهما ويذهبا إلى المدرسة كنت أتناول قهوتي هذا قبل الحظر طبعًا، لا أهتم كثيراً بوجبتي الصباحية، بعض البسكويت يكفي، لا تكترث لقد اعتدت."
كانت تكمل كلامها وهي منشغلة ما بين الصغار وهاتفها، لا تنظر إلىَّ أو بمعنى آخر تتفادى النظر هذا ما شعرته.
انتهينا من الفطور، لأتناول هاتفي وأذهب إلى غرفة المعيشة، محاولًا أن أستعد لمعارك صغاري فسن الثامنة ليس بالهين، لا يتوقفا عن الحركة أو الأسئلة، وإن كانا يلعبا بالألعاب الالكترونية يُدوي الصياح ، أتمنى حقًا ألا يطول أمر الحظر، ونمر من هذا الأمر سريعًا وسالمين.
مر بعض الوقت، وأنا مستغرق بهاتفي؛ أبحث بصفحات البورصة، وأتابع أمور شركتي وأتواصل مع موظفي الشركة إذا لم أدير الأمر خلال الحظر ستكون الخسائر طائلة، شعرت بحاجتي إلى فنجان قهوة، فرفعت رأسي، محاولًا أن أنصت، لكن لا يتناهى إلى سمعي أي صوت، ..ما الأمر هل ناما مرة اخرى صغيري؟ أم جُنت حنان وخرجت بهما...
وقفت متجهًا إلى المطبخ حيث تركتهم، كان المطبخ خاليًا نظيفًا مرتبًا إلا من بعض الأواني على الموقد أظنها وجبة الغداء، كدت أخرج، لكن رأيت خيالًا يمر أمام باب المطبخ الآخرالمؤدي لحديقتنا الخلفية؛
فتوجهت إليه، وفتحته ببطء، حنان تجلس على الطاولة المستطيلة، التي أصرت أن تصنعها من جذع شجرة، وكذلك مقاعدها كانت جذوع شجر بلا مساند، في الحقيقة كانت رائعة التصميم، لكن ليست مريحة، إلا أنها دومًا تجد سكينة عندما تجلس عليها هكذا تقول دائمًا، تحب أن تجلس إلى حاسوبها لتكتب رواياتها، وخواطرها، حنان كانت صحفية، وكاتبة قبل زواجنا، ولكننا اتفقنا أن تترك كل شيء، إلا أنها متمسكة بكتابة بعض التفاهات على بعض المواقع وصفحتها الشخصية.
بحثت عن طفليَّ كيف أحوالهما في ظل انشغالها، لأرى مشهد غير متوقع....
جلسا الصغيران بهدوء على مساحة خضراء من الحديقة، وكلا منهما أمامه لوح يجمع به قطع من البازل، ليكون صورة تعجبت لهذا المشهد حقًا، فأنا كنت أعمل طوال النهار، وأرجع إلى البيت في السادسة للغداء، والراحه ساعتين، قبل أن أخرج للاجتماعات ليلًا، وكانت من أسوأ ساعاتي، لأنني كنت أجدهما يلعبا بالألعاب الالكترونيه ، والصياح يكاد يقتلني، وكنت أفرغ جام غضبي على حنان، وتركها لهما أمام تلك الألعاب، وتنشب بيننا الخلافات دومًا وخاصة حينما تصر أنها تعد لهما جدول لتنظيم أمورهما، لكن الحقيقة لم أكن أرى سوى نفس المشهد، كيف أقنعتهما أخيرًا بلعب البازل....
فجأة قفزت تاليا
-أنا انتهيت أولًا، أنا سأجمع الطماطم
لتصفق حنان بمرح وتنظر لطفلتنا وتشير بيدها في تساؤل محفز
-"اولاً؟؟؟"
فترد تاليا بشقاوة، وهي ترفع إصبعها متفهمة:
-"أرتدي القفازات"
ترتدي قفازات صغيرة حمراء من المطاط تناسبها تمامًا، وتأخد سلة، وتجلس أرضًا، إلى جانب هذا الجزء الذي زرعته حنان بثمرات الطماطم، تبدو حمراء ناضجة في مشهد رائع بين أوراقها الخضراء الداكنة، لتبدأ تاليا بحصادها بمنتهى الحرص.
أدرت رأسي نحو عمار مازال منهمكًا بترتيب قطعه،
عجبًا...عجبًا.. كيف لم يستاء، ويصرخ كعادته حينما تسبقه تاليا إلى شيء ما؟؟!كيف لم يتوقف، ويرمي القطع بعيدًا، يفعلها بأي سباق مع أخته، قفز فجأة
-"أنا كذلك انتهيت، واحتللت المركز الثاني أنا جامع الجوافة"
تركض حنان تجاهه مشجعة، وأعطته عصا طويلة خشبية وسلة كأخته، وتوجه إلى شجرة الجوافة اليانعة بحديقتنا ليهز الجوافة، وتسقط الواحدة تلو الأخرى ويجمعها بالسلة بسعادة تغمر ملامحه .
وجدتني أبتسم ومنبهر بما يفعل طفلىَّ، تقدمت نحو حنان التي جلست منهمكة بحاسوبها وقلت لها
-أي تعاويذ ألقيتها على تاليا وعمار؟؟
لتبتسم دون ان تدير رأسها وترد بهدوء
-"لقد كبرا يا حازم.. فقط كبرا"
داعبت شاربي وذقني المشعثة
-"مازلت أريد توضيحًا كيف قَبل عمار بالمرتبة الثانية؟؟"
اتسعت ابتسامتها لأرى بجانب عينيها تجاعيد لم أكن قد لاحظتها من قبل،ولكن وجدتها تزيد من ملامحها جمالًا وقوة لترد وهي تلتفت نحوي دون النظر مباشرة إلى عيني لكن لتشير إلى عمار
-لأنه يريد المرتبة الثانية بالفعل، الجائزة الأولى كانت جمع الطماطم التي ترعاها تاليا حتى نضجت، ولأنني أعرف أن تاليا الأسرع بالبازل جعلتها الجائزة الأولى، وعمار يعشق ضرب الكرات مثل تنس الطاولة أو كرة السرعة، لذا يحب للغاية إسقاط ثمرات الجوافة هكذا تم الأمر، الحقيقة لا أدخلهما بمنافسة معًا أنا أجعلهما يتعبا ليصلا لما يحبا أن يفعلاه فعلًا.
كنت أنظر لها بإعجاب غير مصدق، ومنبهر بطريقة تفكيرها قد أكون مندهش كذلك لكن في الحقيقة لم أعبر عن هذا الإعجاب قد تصاب بالغرور أو تظن أنها على صواب دائمًا لذا أخذت نفسًا قويًا وقلت لها:
- "ممكن قهوة ؟؟"
أدارت رأسها نحو حاسوبها وهي تهزه بالموافقة وأجابت:
-"حالًا.. حالًا.. كنت أبحث فقط عن آخر مؤشرات انتشار الكوفيد، والتوقعات لم سيأتي أتمنى الخير."
جلست بجانبها وأنا أتأملها، على ما يبدو أنها لم تنشغل بشيء طوال الوقت سوى البيت وطفلينا، همست بجانب أذنها
-"حنان أعلم أن سؤالي قد يؤدي لهبوب عاصفة بيننا، لكن متى قصصتِ شعرك، ولِمَ؟؟!! كان يصل إلى ركبتيك، وكنتِ تعتنين به ، لِمَ قصصته؟؟!!"
كنت أتوقع أن تنقض متهمة إياي بعدم الملاحظة قبل اليوم لو أنها قصته منذ فترة .
لكنها لم ترفع عينيها لي، ارتسمت ابتسامة لا توحي بأي شيء على شفتيها، غير أنها ابتعدت قليلًا كأنها تتفادى أنفاسي أو هكذا خُيل لي قائلة بهدوء
-"أصبح يًعيق أنشطتي بالبيت، وقررت أن أتخلص من كل ما يُعيقني"
شعرت بالقلق من تلك الجملة، وتذكرت حينما دب بيننا خلاف منذ سنتين، لرغبتها العودة للعمل وصرخت بأنني أُعيق نجاحها،أظن أنه تهديد واضح، وتلك الأيام مثالية، ابتلعتُ لعابي، وكنت أنوي أن أقل شيئًا مضحكًا يخفف وطأة الأمر، لكن وصلت لها رسالة على هاتفها، لترفع عينها لي، وتقف ومعها هاتفها
-"ميعاد القهوة... ابق مع الأولاد حتى أعود."
انتهت تاليا من مهمتها، وحينما حاولت مساعدتها في حمل السلة، رفضت، خلعت قفازيها، ووضعتهما في المكان المخصص، وحملت سلة الطماطم بتأن، وذهبت بها لتغسلها وتتبادل الابتسامات مع والدتها، كنت أراقب عمار وهو متحمس تمامًا لجمع الجوافة، عادت حنان تحمل معها صينية وفنجاني القهوة التي أنعشت رائحتها أنفاسي، لآخذ شهيقًا قويًا، وشعرت بحاجتي للتدخين أشعلت سيجارتي، لتكن المفاجأة باندفاع عمار بقوة نحوي، واختطاف سيجارتي ورماها أرضًا، ودعس عليها بقوة، اندهشت بشدة، فليست المرة الأولى التي أدخن فيها أمامهم، حينما أفقت من دهشتي حل غضبي، وكدت أعنفه لكن تحركت حنان، وأمسكت بيد الصغير، وابتعدا عني، لم أسمع ما قالت، لكنه انفجر باكيًا، واحتضنها بقوة ففهمت أنها عنفته بشكل ما، ولا تريد أن أتدخل حتى لا يكبر الأمر، لذا أخذت قهوتى، وذهبت باتجاه باب الحديقة بعيدًا عنهما قليلًا وأشعلت سيجارة أخرى متجاهلًا الموقف، لتأتي مكالمة من مديرة مكتبي وأنشغل في المكالمة لبعض الوقت .
يتبع،،،