قد زادتْ خِبرتي في الحياةِ لأسبابٍ عِدّة ومنها ما كانت ترويهِ لي جدّتي _رَحِمَها اللَّه_ عن حياتها، فقد عِشتُ لحظات تلك الحكايات بخيالي؛ حيثُ كُنتُ أُنصتُ لجدّتي وأستخدم خيالي في تصويرِ ما أسمع بل وجعلي شاهدًا عليه.
نشأتْ جدّتي يتيمة بعدما ماتَ والدها وهي ابنة عشر سنوات، وكانت أكبر إخوتها الذكور الثلاثة، فكانت هي وتد البيت والعاملة على شؤونهِ بعد مرض والدتها.
تعلّمتْ كيف تصنع السمن والجُبن وترعى البهائم في حظيرةِ البيت، كما كانت تُربّي بعض الطيور كالدجاج والحمام والبط والإوّز، بالإضافة لطهي الطعام والحياكة اليدوية.
تقدّمَ جدّي لخِطبتها فتزوجتْ في عُمرِ التاسعة عشر، ولم يرأها قبلَ ليلةِ الزفاف كما هو السائد آنذاك في أربعينياتِ القرن الماضي، وما جعل جدّتي تتأخر في الزواجِ حتّى بلوغها تلك السِن إلَّا لخدمتها لوالدتها وإخوتها.
تُعَدُّ حياة جدّتي حافلة بالعديدِ من الأحداثِ، وقد ذكرتْ لي بعضاً منها ثُمَّ ماتتْ قبل أن تُكمِلَ ما ذكرتهُ فرَحِمَها اللَّه.
ومن الحكايات العجيبة التي روتها لي: حينَ كانت طفلة لم تتجاوز التاسعة رأتْ أحد الإنجليز وزوجهِ يتجولانِ في البلدة بينَ خُضرة حقولهما الفسيحة، وكانَ ذلك الإنجليزي يُحِبُّ الطعام المصري، فكانَ أحد رجال البلدة يأمر زوجهِ بطهي أطيبِ الطعامِ ومن ثَمَّ تقديمهِ لهُ.
أيضاً حكاية العروس التي لم تَكُن هي العروس؛ ذَهبَ أحد الرجال إلى البلدةِ المُجاورة وقصدَ بيتاً بعينهِ ليُناسبهم فطلب يد ابنتهم للزواج، وافقوا وفرحوا، ثُمَّ أذنوا لهُ برؤيةِ العروس دونَ عِلمها، فدعوهُ لحضورِ يوم الخبيز، وطلبوا من ابنة عم العروس أن تجلسَ مكان العروس ففعلتْ، دلفَ البيت مع إخوتها ورأها من بعيد، وبعد أقل من أسبوعٍ جاءت ليلة الزفاف فكانت المُفاجأة؛ حيثُ رأى عروساً غير الفتاة التي رأها هُناكَ، خرجَ وأسرَّ لوالدتها التي تنتظر خارج الغُرفة فأخبرتهُ بأنَّ تلك الفتاة هي ابنة عمها، وفعلتْ ذلك خشية ألَّا يتزوجها لزُرقةِ لونها؛ أي ليست بيضاء ولا سمراء وإنما بينَ هذا وذاك، تعجب الرجل من فِعلِ الأُمّ ثُمَّ دلفَ لعروسهِ ولم يُخبرها بشيءٍ بل غازلها وكأنَّ شيئاً لم يَكُن.. ومرّت الأيَّام وأضحى الحُبّ هو أُكسجين حياتهما والمودّة هي أسلوبهما.
لا أنسى ما روتهُ جدّتي عن موقفٍ حدثَ معها هي وصاحبتها.. استيقظتْ باكراً صلّتْ فجرها وأعدّتْ لزوجها وأولادها الإفطار، ثُمَّ ذهبتْ لبيتِ جارتها أخذتها وذهبتا قبل شروق الشَّمس لتأدية واجب العزاء في أحدِ الأقارب، أثناء سيرهما بالشارع قابلتهما جاموسة من النوعِ الناطح؛ حددتْ هدفها على رفيقة جدّتي وأخذتْ تنطحها بقوة، هرعت جدّتي وأخذتْ تبحث عن شيءٍ تُنقذها بهِ حتّى وجدتْ عصاً غليظة، أخذتها وقامتْ بضربها عِدّة ضربات عنيفة مُتتالية، وهُنا حدثَ العجب؛ فقد تركتْ رفيقة جدّتي ولاحقتْ جدّتي وهي تصرخ هُنا وهُناكَ وتجري بُسرعةٍ هائلة حتّى رأتْ بيتاً مفتوحاً دلفتْ وأغلقتْ وراءها الباب، في تلك الأثناء كانت رفيقتها قد هرعتْ إلى بيتها، ومن حينها تعلّمتا ألَّا تذهبانِ قبل طلوعِ الشَّمس _حيثُ الجاموس في حقوله_ مهما حدث.
حينما أرادتْ جدّتي (أُمّ علي) أن تبوحَ بما تحملهُ من ذكرياتٍ لم تبخل عليَّ؛ فأخبرتني بالكثير منها حتّى عَمّرتْ لي بعض ذاكرتي، لأجدني أراها بمُخيّلي رُغم رحيلها فرحِمَها اللَّه.