هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • مغامرات كاتبة -2
  • مغامرات كاتبة -1
  • وجه السعد..
  • تركتني لظنيني..
  • الجانب الخفي من حياة أمير الشعراء أحمد شوقي
  • القلاع والحصون الإسلامية في سيناء
  • كيف تبدلت القلوب
  • وعيناك
  • يا كايدهم ….كلنا وراك
  • مصر لحمها مررر
  • إدراك الحكمة
  • قدوة في صمودك
  • الأوجاع الصامتة
  • بونبونايه بدون الكتاب
  • ظاهرة القبلات بين الرجال و النساء!
  • أمي القوية
  • ذكرينــي
  • شكرا لسيدنا يوسف
  • المهر كان غالي 
  • نختلف، ولا نحتد
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة مروة القباني
  5. رحلة في قطار - الجزء الأول

 

الإهداء:

إلى الحياة التي علمتني معنى الذهاب نحو وجهة السعادة مهما بَدَت أمامي بعيدة المدى، أن أركب القطار للذهاب إلى المحطة التي تأخذني نحو وجهتي، وأن لا أحاول الفوز في جميع المعارك كما لو أنها آخر الدنيا.

وإلى أشقائي الثلاث الذين علموني كيف أكون قوية بنفسي وأثق بقدرتي على القيام بكل ما أحلم به دون تردد.

إلى من استقل أول رحلة في القطار؛ كي لا تفوته فرص النجاح سأقول لك فلتنهي هذه الرحلة عند أول محطة، اصبر حتى تأتي رحلتك الخاصة بك، أن تصل متأخر خير لك من الذهاب إلى طريق لا يشبهك.

إلى السعادة والطمأنينة التي لم أذُقْ شعورًا يضاهيها في أعماقِ قلبي، وإلى تلك الأيام القليلة والجميلة التي أعادتني إلى نُقطة البداية وعلَّمتني أن أعيش الحياة لا أن تَعيش داخلي، في المكانِ الأقدس ألا وهو ( مكة المكرمة والمدينة المنورة).

وإلى صديق العُمرِ الذي لم يجعلني أشعر بالغربةِ بالرغم من وجودي في تلك الفترة لوحدي.

إلى كُل الذين يشعرون بأنهم لم يعودوا قادرين على العودة إلى نقطة الصفر، ما يزال الوقت باكرًا على النطقِ بالحُكم، لا تموتوا قبل أن تموتوا.

1- المحطة الأولى: " بداية الرحلة"

كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر صباحًا حينما وصلتُ إلى محطة النسيم عبر سيارة الأجرة الخاصة بالفندق والذي مكثتُ فيه قرابة الأربعة أشهر الماضية، لم يكن ذاك الفندق الأخير يتمتع بنجمة واحدة على الأقل كالذي قاموا باستضافتي داخله المقيمين على معرض الكتاب الدولي في الدار البيضاء لمدة شهر كامل، ولم أستطع نسيان ذاك الشهر الأول الذي عشته داخل المغرب، لمدة ثلاثين يومًا تمتعت من خلاله برفاهية النجوم وصخب المشاهير-اليوتيوب- لكن من خلال عالمي الأحب على قلبي.

زرت خلال تلك الفترة معالم وآثار كثيرة منها:

- مسجد الحسن الثاني الذي استغرق بناؤه قرابة 16 عامًا ( 1987 – 1993) وهو أكبر مسجد في العالم بعد الحرمين، شيد فوق الماء وتبلغ مئذنته 210 مترًا، ويسع 25.000 مُصلّ في الداخل و80.000 في الباحة.

- المدينة القديمة: وهي مجموعة من الأسوار تحيط بمدينة الدار البيضاء القديمة، وبها عدد من المباني التاريخية كالصقالة ومنارة الحنك وساحة "لا كوميدي"، وقبة "سيدي أبو سمارة".

- حي الأحباس الذي شيد في فترة الحماية، وهو من المعالم السياحية الكبرى بمدينة الدار البيضاء، له بُعد ثقافي وحضاري تحكيهما أقواسه وبناؤه المعماري العربي والإسلامي مختلط بهندسة أوروبية.

- كورنيش عين الذياب، ويمتد على طول الشاطئ كواجهة بحرية تضم سلسلة مسابح وفنادق ومطاعم، ويتم تطويره بشكل مستمر لجعله وجهة للترفيه والاستجمام.

- شارع محمد الخامس حيث تجمع المباني على جنباته بين الأصالة العربية والإسلامية التقليدية، والهندسة الفرنسية، والمباني العصرية، ويؤرخ هذا الشارع لقرابة قرن من الزمن.

واصلت الدخول إلى محطة القطار عبر البوابة الضخمة مرورًا نحو قاطع التذاكر حاملة معي حقيبتي الكبيرة بداخلها ملابسي وأغراضي، وعلى كتفي حقيبة صغيرة وضعت داخلها أوراقي الثبوتية والمهمة تضمنها بوردن الطائرة وإقامتي كسائحة تثبت جلوسي بشكل قانوني يحميني من المخالفات والمسائلات القانونية.

قال لي الموظف بصوته الرتيب: تبقى لوصول القطار ساعة واحدة فلتذهبي نحو المقاعد بانتظار وصوله سيدتي.

كان يتحدث باللغة الإنجليزية بطلاقة وكأنها لغته الأم على عكسي تمامًا؛ فقد احتجت لقرابة الخمس دقائق لترجمة الكلام الذي يقوله للعربية قبل أن أذهب نحو البهو المفضي إلى الساحة والجلوس على أقرب مقعد خشبي بانتظار وصول القطار.

الهدوء يعطي طابع عن المكان بالأناقة والفخامة الممزوجة بعراقة التاريخ، بينما ينبعث عبر المذياع موسيقى هادئة بنغمات فيروزية، يدخل إلى البهو بعض المسافرين بين الفترة والأخرى، كما أنه لا يخلو من الأشخاص القادمين بانتظار وصول أحد القادمين يحمل أحدهم بيده باقة توليب، مجموعة من الفتيات يحملن باقة ورد جوري أحمر، البعض من الشوكولاتة يعانقها طفل يبلغ من العمر سبعة سنوات.

أنظر إلى الوجوه فأعلم من الراحل عن الوطن بينهم، تراه يطيل النظر معانقًا المكان ساهم الطرف يقبله الجميع والدموع تنهمر من أعينهم هو الراحل بجسده لا قلبه، تذكرت اليوم الذي رحلت به عن غاليتي دمشق، لم أستطع حملها معي لكنني حفرتها داخل تلافيف دماغي وبين شغاف القلب.

عن عائلتي التي قاسمتني آمالي وأحلامي في الوصول نحو النجاح، لكنها لم تكن قادرة على رؤية الفرح إلا من خلال الشاشات الإلكترونية، وعن ذاك الحب الذي عانق قلبي بالرغم من بعد المسافات.

تنهيدة واحدة أحرقت صدري، رددت في نفسي: لا أعلم ما هو السبب الذي يجعل الناس يشعرون بقيمة أحبائهم في لحظة الفقد أو الرحيل، ترى ما الذي يجعل الحب في أوجه وتألقه في هذه اللحظات؟ وما هو الشيء الذي يدفع الناس للبوح بمشاعرهم في اللحظات الأخيرة والتي يتبعها فراق طويل أو رحيل؟ أهذا لأننا نشعر بحجم الضياع والحزن ويثقل علينا الوداع؟!

بعد مرور ربع ساعة جلس أمامي شاب في العقد الثالث من العمر، ملامح وجهه تعبر عن كونه مغربي الجنسية، مربوع الطول أسمر البشرة، يحمل حقائب مختلفة الحجم اثنتين منهما يحملهما فوق كتفيه أما الحقيبة الأخيرة كانت كبيرة الحجم يمسكها بقوة، يجرها على الأرض عبر الدواليب الصغيرة المثبتة أسفلها.

يبدو عليه حماس الشباب، كان ينظر نحو الأشجار المزروعة بانتظام في أرجاء المكان، يأخذ أنفاسه بصعوبة؛ لذلك أمسكت قارورة الماء أمدها إليه دون التفوه بأي كلمة، وفي ذات الوقت أخذها مني وهو يتلفظ بعبارة شكر دون النظر إلي أيضًا.

شعرت ببرودة أقشعر لها جسدي بسبب تلك النسمة الباردة التي لفحت المكان لتنبئ عن هطول المطر، فدعوت الله أن لا تتأخر الرحلة بسبب حالة الجو أو تعرقلها إذا ما هطلت هذا الصباح.

حطَّ ببغاء صغير على المكان المخصص للطيور إلى جانب المقعد، ألوانه الزاهية تبعث في النفس الراحة، جمال مظهره يشي عن كونه قد هرب من مُلَّاكه قبل بضع دقائق.

كان ينقل نظره بيني وبين الشاب الجالس على مقربة مني والذي انهمك بقراءة كتاب معين مستغرق داخل عالمه الخاص، لا يسمع أو يرى أحدًا.

بينما أخرجت علبة السباجيتي بصلصلة البندورة التي طلبتها لأخذها معي من المطعم الصغير والذي كان يُعدُّها بطريقة منزلية.

فكرت لبضعة ثواني قبل أن أقرر البدء في تناولها مع تناسي وجودي في مكان عام، تلك اللحظات الفاصلة عن اندماجي بشفط الشرائط الطويلة، أعادني للواقع صوت ضحكة مكتومة لالتفت وأجد الشاب يضحك بسرِّه وهو ينظر إلي بطرف عينيه، مما أخجلني بشكل مربك لأعيدها نحو الحقيبة.

شعرت بالتململ وأنا أطالع نظري بين المارة والشاب والببغاء، لذلك قررت إرسال رسالة على الشات الجماعي والخاص بالعائلة ليطمئن الجميع عني وإخبارهم بمكاني، ربما وجدت أحدًا يشاركني الوقت الطويل قبل وصول القطار.

حينما سمعت صوتًا يخترق الفضاء من حولي يتحدث عن قرب، التفت يمينًا ويسارًا لكنني لم أرى أحدًا؛ لذلك عاودت النظر إلى الهاتف قبل أن يأتيني النداء:

- أنا هنا مريم! انظري إلي..

عاودت النظر في جميع الاتجاهات، لم يكن أحدًا على مقربة، وما يزال الشاب مستغرق في قراءة الكتاب.

حككت رأسي بباطن كفي باستغراب لم يبقى إلا الببغاء أن يكون المتحدث همستُ في سِرِّي، ضحكت بتهكم على نفسي ولكنني لمحت الببغاء يتحدث وأنا أعاود الالتفات نحو الجهة الأخرى ولكن هذه المرة لم يسكت حينما نظرت إليه بل واصل التحديق بي وهو يتحدث من خلال منقاره بصوت لا يشبهه بشيء كطائر:

- هل سمعتِ يومًا عن أسد يحاول إثبات نفسه وهويته أمام الجميع، بالتحدث عن صفاته وأخلاقه الحميدة بين فصيلة الحيوانات، أم أنَّكِ تجدينه يزأر ويقوم بما تمليه عليه فطرته في هذه الحياة بالجلوس على عرش الغابة، والتحكم بقوانينها بقوة وصبر؟!

أنهت البومة حديثها وهي تميلُ برأسها نحو ماجد الطبيب الذي كان يجلس إلى جانبها، ينتظر القطار للذهاب نحو منزل العائلة وقضاء فترة العطلة الصيفية المقبلة كما أخبرها لاحقًا.

للوهلة الأولى اعتقدت كونها الوحيدة التي سمعته يتحدث، قبل أن يلتفت إليها وهو يقول بلهجة عربية فصحى:

- هل سمعتي الببغاء يتحدث مثلي أم أنني الوحيد الذي يتوهم سماعه الببغاء؟ "يتحدث وهو ينظر إليه"

بل إنه جزم فهمه لكل كلمة يقولها وكأنه تعلَّم لغة الطيور بدقائق معدودة.

أومأت برأسي كموافقة أنني سمعتها تتحدث وتتفرس وجهه وكأنها تعرفه.

أعادنا للواقع صوت بوق القطار يعلن عن بدء الرحلة الأولى للذهاب نحو المحطة الثانية ، كان هذا الإنذار هو الأخير، كما أخبرنا الحارس الواقف أمامنا للإسراع في الدخول إلى القطار وأخذ مقاعدنا المخصصة لكل واحد حسب الرقم على البطاقة التي كانت بحوزته.

بدون أي تفكير قام كل واحد بأخذ أغراضه والذهاب نحو الطابور الخاص بالمسافرين، قبل أن ألمح داخل حقيبته روايتي التي شاركت بها داخل معرض هذه السنة -رفعت الجلسة- برفقة كتاب عن الثقة بالنفس وتنمية العادات.

لم أستطع التحدث إليه، أو اقتطاع وقت لرؤية ملامح وجهه بدقة أكبر لذلك لُذتُ بالصمت وأنا أتجه إلى باب المقطورة الخاصة بالركاب للذهاب نحو وجهتي القادمة.

ما أصغر هذا الكون حينما يُرتِّبُ لنا القدر اللقاء الغريب الذي يقوم بقلب حياتنا رأسًا على عقب، يعيد ترتيب حياتنا أفكارنا ومبادئنا، ننظر إليها من زاوية أخرى نعتقد أننا نرى الأشياء بوضوح منذ أمد بعيد ثم نكتشف وجود حائط يخفي عنا أشياء

كثيرة، مثل أن يقيم الإنسان في مكان ما، وهو الذي لم يفقه شيئًا عن جغرافية وطنه، يشعر بالرطوبة تعتلي الهواء فيمقتها بسخط، وتتسلل البرودة ليلًا أنحاء جسده النحيل فيزدرد غضبًا لسوء حظه باختيار المكان الأنسب للعيش، وتمرُّ السنين ليسقط ذات يوم ذاك الجدار العالي والقديم فيظهر من ورائه البحر الأزرق بجماله الأخَّاذ.

فقط في تلك اللحظة يدرك بأنه عاش إلى جانب هذه الطبيعة الخلابة لمدة تقارب العقد دون رؤيتها بوضوح أو حتى معرفته بطيب حظه العاثر.

والأسوأ من ذلك كله هو معرفته المتأخرة بالأمر، بعد بيعه للمنزل والرحيل عن تلك المنطقة.

هكذا نحن لا نرى الأشياء بوضوح إلا بعد فوات الأوان، بل حتى يزيد الأمر بؤسًا، لا نشعر بالأسف اتجاه الأشخاص الذين أحبونا بصدق وإخلاص ورفضناهم إلا بعد رؤيتنا للأشرعة ترفرف في السماء تُعلن رحيل قواربهم عن الشاطئ، في تلك المرحلة الرابح بيننا خاسر، البعض منهم لم يستطع أخذ الشغف من داخل أرواحنا فشاركونا أحلامنا حتى كبرت وأحرقوها أمام أعيينا دون رحمة؛ لنعيش على رمال البحر ننتظر فرصة أخرى للقاء، متجاهلين تلك الفرص التي تمرُّ من خلالنا حتى يتقدَّم بنا العمر ونوقن فداحة أثمنا بالتعلق في ماضٍ لن يعود وحرق سفننا للإبحار نحو المستقبل، ولأننا عشنا الحاضر عالقين داخل أوهامنا دون فائدة، نضع الجرح فوق الجرح وندمي القلب حافرين بين ثنايا الروح قصة فشلنا في اجتياز هذه الحياة أو فهمها، تصبح حياتنا سلسلة فشل ويأس، حتى نرى روعة الشباب قمة العجز.

اجتزت الممر وأنا أنظر إلى أرقام المقاعد، كان الركاب يقومون بوضع الحقائب في المكان المناسب، بعض الأمهات يُمسكن أطفالهن الصغار يقمن بإعطائهم القليل من الحلوى مع تنظيم أماكن الجلوس، ومحاولة لخفض الضجة التي أحدثها بكاء أحدهم بسبب قلة النوم أو مشقة السفر.

بعد عشرة خطوات وجدت المقعد الخاص بي على الجانب الأيسر فأمسكت حقيبتي الكبيرة لأقوم بوضعها في المكان المخصص للحقائب، وأنا أجلس إلى جانب النافذة مراقبة للطبيعة الخلابة من خلالها.

حينما سمعت صوته يُمزِّقُ الصمت الذي حلَّ أرجاء المكان بعدما أخذ كل واحد من المسافرين مكانه داخل القطار أخذ يقرأ بصوت عالي:

الثقة بالنفس هي أولى مفاتيح النجاح للوصول نحو السعادة، وأنا لا أقول لك أنَّك ستحقق جميع أحلامك المستحيلة قبل الممكنة والتغلب على جميع الصعوبات، ستمرُّ عليك لحظات فشل وانكسار تحسبُ نفسك أنَّك لن تستطيع الوقوف بعدها، وهنا يكمن سرُّ المفتاح الأول من محطات رحلتنا نحو السعادة الداخلية والخارجية معًا، وهو أن تعلم حجم جهودك المبذولة لتحقيق هذه الأهداف، وكيفية استثمار وقتك وطاقاتك الكامنة، وكيف تحقق هذا الهدف و متى تحققه وأين؟!

وبذلك تعرف جيدًا ما تجيد عمله باحترافية وتميِّز فتقوم بتنمية مهاراتك بالقراءة المكثفة، والتدريب المستمر بشكل عملي، مع استكشاف كل جديد ضمن هذا المجال؛ كي لا يفوتك شيء.

لا أعلم إذا ما كان يقرأ تلك السطور ليُبدد وحدته أو ليقنع نفسه بصحة تلك الكلمات، لكن ما جعلني أضحك كما لم أفعل من قبل هو رؤيتي الطائر الصغير يطير نحوه وكأنه يعرف مكانه تحديدًا ويحطُّ على طرف مقعده، ينقرُ أصابع يديه بشكل سريع، شعر بنقرة قوية فوق أصابع يده آلمته بشدَّة حتى أنَّه أسقط الكتاب من بين يديه.

وقد ندَّت عنه صرخة قوية جعلت أنظار جميع الحاضرين تتجه نحوه، مما أربكه وجعله يجلس ملصقًا الكتاب بوجهه لفترة طويلة.

أحمرَّ وجهه وأمتقع عندما رأى الطائر الصغير يجلسُ إلى جانبه مجددًا.

- أهذا أنت أيها الطائر الصغير؟!

قالها بغضب شديد وهو يشير بأصبعه المجروح نحو الببغاء غريب الأطوار، وكأنه يثق بفهمه له.

تراجع الببغاء نحو الوراء بقفزات صغيرة، وقام بفتح الحقيبة الجلدية التي كانت بحوزته بمنقاره المُدبب ليخرج منها لاصقات طبية للجروح، هذه المرة لم يتحدث أو حتى ينظر إليه بل اكتفى بإعطائه اللاصق الطبي والتحليق إلى خارج القطار و دون سابق إنذار!

أمسك ماجد يده بإحكام وقام بتعقيم الجرح وهو يضع الضماد بشكل جيد، قبل أن يُعدِّل جلسته مرة أخرى.

هذه المرة لم تكن دهشته من جلوس الببغاء مقابلاً له، إنما رؤيته لشابة سورية في العقد الثاني من العمر ترتدي نظارة طبية بملابس ريفية بسيطة.

 تعلو ملامح وجهها ابتسامة واسعة، عيناها الصغيرتين تلمعان بشغف كبير، تجلس أمام النافذة تتأمل الطبيعة الخلابة من خلالها.

1.

 تارة تمسك بغصن شجرة يقترب منها، لتعود عينيها وتتأمل السماء الصافية والمروج الخضراء، الشجر المثمر بالأزهار الجميلة والمختلفة.

كانت تلك الفتاة هي نفسها من جلست إلى جانبه على مقاعد الانتظار، ولكم كانت غريبة الأطوار وهي تنظر إليه ببلاهة، وتبتسم بشكل لا يفهمه.

أعاد ماجد فتح الكتاب مرة ثانية نحو القسم الأخير من الكتاب، هذه المرة لن يقرأ بترتيب معين بل بطريقة عشوائية، محاولاً تمضية وقت أكبر بإشغال نفسه عن التفكير بتلك الأحداث الغريبة، أو الطائر الصغير الذي اختفى فجأة كما ظهر أول مرة!

نظر إلى السطر السابع عشر:

" هذه المعركة لم تكن لك، فيها تتساوى الخسارة الفوز، لن تستطيع إثبات أي شيء من خلال فوزك، لن يلمح أحد مقدار جهودك أو حتى تميُّزك داخل مضمارها، ترفَّع عن سفاسف الأمور وخذها على قدرِ ثقتك الكبيرة بتميزك لا شيء أجمل من أن تحيا الحياة دون المراوغة أن تعلم بأن المُرَّ يمرُّ بصعوبة وأن الحياة ستعطيك الشيء القليل من حُلوها لا أكثر، لكنك راضٍ عنها.

 الغد لن يكون الأفضل، ولن تكن قادر على تحقيق جميع رغباتك وأمنياتك، أنت حصيلة نفسك وقدراتك، لكن تذكر لا يتوجب عليك أن تكون عبقري، أو فاحش الثراء، أو مُلهِم للنجاح تلمعُ كالنجوم."

2.

أن تقترب من نفسك وتتعايش معها بسلام وأمان ، أهم بكثير من عيشك حياة لا تشبهك في شيء.

أنهى قراءة السطر الأخير من الصفحة مُغلقاً الكتاب وهو يغمض عينيه، تاركاً نفسه للفراغ الكبير المحيط به، حتى شعر كما لو أنَّه يسبح داخل بحر تلاطمه أمواجه دون تخطيط، هو الذي لم يكن يفضِّل العشوائية حتى في طريقة أكله.

وقعت عينيه على الرواية التي قام بتأجيل قراءتها أربعة وثلاثين مرة إلى أن اتخذ قراره النهائي بأخذها معه في رحلة القطار هذه والتي سوف تتضمن الجلوس لمدة يوم كامل بين المحطات.

لم تكن تلك الرواية من إحدى التصنيفات المُحببة إليه لكونها تتضمن الفئة البوليسية والتاريخية معاً، بل ما جذبه إليها هو تقرير الكاتبة التي قامت بالاعتراف بكونها أسوأ رواية قامت بتأليفها على مدى سنوات عمرها، فهل حقاً كانت تعني كلامها أم كانت ترمي بذاك التقرير على سبيل الشهرة وازدياد فضول القراء من حولها.

الجميع يعرف بأننا نتحدث و ننشغل بصنفين من الأعمال وهما الأفضل والأسوأ على الإطلاق، وقد رأى ماجد بأن الكاتبة اختارت الطريق الأسهل والأخطر للبدء بمسيرتها المهنية وإنهائها معاً.

3.

وقد حققت نجاحاً كبيراً في حجم المبيعات للنسخ الورقية مقارنة برأيها الشخصي حينما قالت: " رُفِعَت الجلسة روايتي الأولى وربما تكون الأخيرة، لقد عانيت كثيراً وأنا أقوم بكتابتها، قمت بحذف الكثير من المقاطع، واطلعت على تاريخ شعوب كثيرة لكن دون فائدة تذكر، كانت تلك الرواية قد بدأت بتخيلي لمملكة الدم المقدس البروفيسور محمد و أماليا، لأقوم بتعديلها ووضعها ضمن المحاكم

دون سبب واقعي ربما لتضييقها أو حتى جعلها غير مألوفة للقارئ، وعندما أنهيتها لم أعرف ما الذي يتوجب علي فعله؟!

هل أدعها كما هي و أقوم بنشرها، أم أقوم برميها في أقرب سلة مهملات أو أضعها على الرف المخصص للمسودات كما فعلت مع البقية؟!

أما الآن فأنا أعترف أنني قمت بإرسال جندي إلى معركة دون سلاح أو حتى تدريب ليقال عني كاتبة وقد قيل، فلتذهب إذاً تلك الرواية للجحيم.

 من يريد شراء نسخة وقراءتها فليفعل، لكن من أراد تقييمها على أنها رواية فأنا أقول له اليوم بأنها مجرد تخيلات لا تعني الواقع أو حتى التصنيفات الأدبية فلتمُرَّ بين الكلمات آخذاً معك ما تشاء ولترمي البقية في أقرب بركة ماء فهذه الرواية لن تنفعك بشيء، وقد أُعذِرَ من أَنذَر.

4.

أمسكها وهو يقوم بتقليبها في كُلِّ اتجاه، متوسطة الحجم بألوان زاهية يعلو غلافها صورة مرسومة لمطرقة خشبية و ميزان العدل تحمله امرأة معصوبة العينين تقف بشموخ.

أسند ظهره نحو الخلف قبل أن يقلب الصفحة ويبدأ القراءة بعد أن عرف أنه ما يزال لديه ساعة على الأقل للوصول نحو المحطة التالية.

في تلك اللحظة لمعت صورة ميرال داخل رأسه خطيبته السابقة، التي غادرها لأجل أفكارها الغريبة والمجنونة كما وصفها، لكنه أحبها من أعماق قلبه.

كان يلاحقها كظلها وكيفما ولَّت وجهها، مُمسِكاً بروحها مُعتنِقُها كمبدأ في هذه الحياة...

حينما انفضَّ الجميع عنها، مشَت داخل طرقاتها لوحدها، هائمة نحو المجهول، برفقة ظِلَّها الذي كان أنيس وحدتها وصديقها الأقرب إليها، حتى أصبحت أنجح طبيبة.

عندما التفتت إلى الخلف للمرة الأولى علمتْ أنَّه لم يكن مُجرَّد ظلٌّ لا يملك ملامح واضحة كان هو.

ميرال المبدأ الوحيد الذي خسر الرهان داخله، عندما أدرك بأن سعادتها لن تُخلقَ داخل ظِلِّه، بكونها لا تنتمي إليه، أو أنه لم يكن وطنها الذي أعتقد.

5.

المحطة الثانية: " مملكة من الخيال"

بدأ ماجد قراءة الرواية بصوت مرتفع قليلاً علَّهُ يستطيع الدخول نحو أعماق الرواية وفهمها، وقد تخيَّل حجم التعقيدات التي ستظهر له داخلها من خلال رأي الكاتبة بما أنجزته، وكما يقال: أهل مكة أدرى بشعابها!!

رواية: رُفِعَت الجلسة

الإهداء:

إلى أوطاننا الغالية على قلوبنا، وإلى أرواح من كانوا أبطالا ذات يوم لكنَّهم كانوا أكبر من جعبة التاريخ، رجالاً لم يجدوا ناقة تحملهم عليها ليذكروا في الوقت الحاضر، فعادوا إلى أماكنهم وأعينهم تفيض من الدمع على ما آل إليه حال أحفادهم من بعدهم.

إلى أبي الذي أعطانا الحب وعلمنا إياه، لكنَّه مشى و توارى إلى الظلِّ بعد تلك السنين الطويلة كما يفعل كل فارس شجاع.

تنبيه: هذه الرواية وإن ذُكِر داخلها البعض من التواريخ الصحيحة لحضارة مصر و الفراعنة إلا أنها خيالية بأحداثها ومحتواها والشخصيات القائمة عليها، وهي ليست من التاريخ ولا من البحوث العلمية، وإنما هي مجرد خيال في ذهن الكاتب لا أكثر. نتمنى لكم قراءة ممتعة.

6.

المقدمة:

دخل القاضي إلى المجلس بخطوات ثقيلة وقليلة، ثابتة كما هو حال حكمه في جميع القضايا التي نُسِبت إلى اسمه، رفع يده اليمنى ليقطع الأصوات العشوائية والهمسات التي كانت تأتي من الحضور وهيئة المحلفين وأطراف النزاع، ليجلس على الكرسي المُخصص له يتفرَّس بعينيه مجموعة المُتهمين بتريُّث وإمعان.

أمال نظارته وهو يقوم بفتح الملف الماكث بين يديه ويقلِّبُ بين صفحاته، ليقوم بقراءة سريعة لقضية أتت إليه دون سابق إنذار يطلب منه القضاء الوقوف عليها وحلها بأسرع وقت ممكن قبل وصولها إلى الإعلام وتداول الإشاعات والتسبب بمتاعب لا يحمد على وقوعها أحد!!

لم تكن تلك القضية من الجرائم، أو حتى قضايا الاختلاس، ربما خطر له كونها قضية سرقة، وفي أسوأ الأحوال قضية مخدرات جماعية، أما أن تكون تلك القضية الادعاء بوجود مدينة لم تعثُر عليها المحافظة، فهذه قضية بسيطة يمكن إنهائها بجلسة واحدة بتقرير الادعاء الكاذب وإزعاج السلطات، ثم أخذ القرار بحق جميع المشاركين في هذه القضية ليتم رفع القضية وإغلاقها بجلسة واحدة.

7.

تلك الأفكار التي كانت تدور في ذهن القاضي عبدالناصر قبل بدء الجلسة ومعرفته عدد الجُناة بهذه القضية وسماعه أقوالهم واحداً تلو الآخر، ليقرر بعدها إعطاء كل جانٍ جلسة وراء الأخرى ويتم ضبط الاعترافات واتخاذ القرار الأنسب لتلك القضية الاستثنائية.

زمَّ شفتيه وهو يزدرد ريقه ناظراً إلى القضاة الجالسين حوله، يحاول إيجاد مخرج لهذا الأمر المُلتبس عليه دون خلق ضجة واضطراب بين الحضور، كان ينظر إلى الرجل الشاب الذي يقف وسط الجناة بثقة تامة وكأنه ينتظر قرار البراءة الذي سيوقع له القاضي عليها ويخرج من المحكمة بعد بضع ساعات ليس إلا!!

كان عبدالناصر يستطيع قراءة ملامح الشخص الجاني بثواني معدودة، وذاك الأمر بسبب خبرته الطويلة داخل عالم القضاء و التي تزيد عن أربعة عقود متتالية من الجلسات التي كانت تُكلل بنجاحاته الباهرة، وإقامة العدل ورفع الحق على الباطل دون الاكتراث لهوية الجاني أو المجني عليه أو معرفته بهويته ثقافته ودينه.

كان رجلاً يستطيع قول الحقيقة والحق دون تدخُّلِ أيُّ سلطة في حكمه، في زمنٍ تُقرَعُ فيه الأحكام بيد الأقوى و الأكثر نفوذاً.

8.

قرر في النهاية تقريب هذا الشاب إلى المنصة البدء معه في الإدلاء بشهادته و ورواية قصته مع وضع الدلائل إن وجدت طبعاً!!

أمسك بمطرقة المحكمة الخشبية و قام بالطرق على الطاولة أمامه ثلاث مرات قبل أن يخرج صوته الخشن ليسكت القاعة:

- هدوء نحن الآن في قاعة المحكمة، وسأقوم بإخراج أي شخص يحاول التشويش على المحكمة العليا أو هيئة المحلفين.

- والآن ليتقدم البروفيسور محمد الجزائري للإدلاء بشهادته.

خرج البروفيسور محمد من أوسط الجناة بالفعل وتقدم ببضع خطوات نحو المكان المخصص وهو يقوم بتعديل قميصه والوقوف بشكل مستقيم دون النظر إلى أحد أو حتى احناء رأسه نحو الأرض، وكأنه كان ساهم الطرف ينظر إلى الفراغ، أو يحاول إيجاد قصة يحيكُ أحداثها بإتقان ليقنع سيادة القاضي وهيئة المحلفين.

9.

لذلك قرر القاضي اختراق فضاء تفكيره بسرعة ليخرجه من الاستغراق في أفكاره واستجوابه بأسرع وقت.

- عرف باسمك وعمرك و عملك..

- اسمي محمد الجزائري و أنا من الجزائر، أتممت اليوم الخامس والثلاثين من العمر، أعمل بروفيسور في جامعة تيمقادا قسم البحوث التاريخية.

- أحكي لنا السبب في ادعائك بوجود مدينة تاريخية تسمى الدم المقدس وأين تقع، بل ما هو الدليل القاطع على وجودها فعلياً كما تحدثت إلى السلطات المعنية؟!

- سيادة القاضي قصتي أنا والفريق طويلة جداً فهل لدى سيادتكم الوقت الكافي لسماعها و التمعُّن بها قبل نطق الحكم؟!

حكَّ القاضي رأسه بحيرة وهو ينظر إلى هيئة المحلفين، هو الذي لم يقوى أحد على سؤاله قبل الآن أو حتى التشكيك بمصداقية حكمه، وقد أزعجه التشكيك بعدل الهيئة القضائية العليا، لكنه قرر التريث قليلاً والصبر، لذلك أسند ظهره إلى الوراء بثقة وهدوء تامين، ثم نظر إلى عدد أعضاء الفريق الجالسين خلف البروفيسور، ثم قال بنبرة يشوبها التحدي:

- نعم لدينا كل الوقت اللازم، على أن نستمع إلى أقوالكم جميعاً واحداً تلو الآخر، بشكل منفصل ولننظر إذا كنا سنستمع إلى نفس القصة أو بالأصح سنكتشف المدينة نفسها!!

10.

دوَتْ صوتُ ضحكات خافتة من الحضور، بعد كلمة القاضي الأخيرة، أمسك الورقة الأولى من الملف، كان اسم العضو الأول لفتاة سورية وهي التي قامت بكتابة البحث والتحدث عن وجود تلك المدينة، في ذاك الوقت رسمت على ثغره ابتسامة النصر وهو يكمل كلامه بنبره عالية:

- سنقوم بإكمال القضية في الجلسة الثانية الكائنة بالسابع عشر من الشهر الجاري على أن نستمع إلى أقوال الشابة أماليا الدمشقية، والنظر إلى الأدلة الكافية التي بحوزتها، بإمكان المتهمين العودة إلى الحرم الجامعي على أن لا يقوموا بتغيير مكان سكنهم أو السفر إلى الخارج حتى انقضاء الدعوى الماثلة، رفعت الجلسة.

ابتسم البروفيسور محمد وتراجع بهدوء نحو الخلف ليعود ويقف أمام طلابه من جديد، كان يراقب القاضي وهو يخرج من باب القاعة الرئيسية، تاركاً خلفه مجموعة من الباحثين في التاريخ يقوموا بعملهم كما طُلِبَ منهم قبل أن يُقام بالحكم عليهم و دون سابق إنذار بالإزعاج والادعاءات الكاذبة.

بإمكانك أن تكون واثق بنفسك وخطواتك في الأوقات التي ترى فيها ثمار النجاح تُجنى أمام عينيك، أما أن ترتدي الهدوء وأنت تواجه قضية في بلدٍ تتواجد فيها لعمل مُحدد، فهذا هو الأمر الذي جعل القاضي يندهش من هدوء البروفيسور محمد المُبالغ به كما تصوَّره.

11.

بهذه الكلمات البسيطة والوقت القصير أنهى القاضي عبدالناصر جلسته الأولى مع البروفيسور محمد وفريقه لتقف أمامهم قضية لم تكن بالحسبان أو حتى لم يكن لديهم أي فكرة عن سبب وجودها، هم الذين كانوا يعملون بكل جدٍّ ضمن تصريح قانوني قاموا بأخذه من جامعة القاهرة، ليقوموا بهذا البحث.

الجلسة الثانية:

وقفت أماليا ماثلة أمام القاضي تحرصُ على القيام بالتحدث إليه بكلمات واضحة دون التحيز إلى جانب معين، يبدو عليها القلق والتوتر بجسدها المرتجف، ويديها اللتين تحاول اعتناق نفسها داخلهما، كانت تعتصر كتفيها بقوة وكأنها تآزر وتمسك بخيوط ثباتها، في حين أنها شعرت بنفسها تشبه دمية المسرح التي تُراقص بأصابع اليد بخيطان تمتد إلى أطرافها وتأخذها الأقدار لتمشي خطوات لا تعلم إلى أين ستأخذها.

أعادها إلى الواقع نبرة القاضي الذي تحدث معها بشيء من القسوة وبكلمات صارمة:

- عرفي بنفسك وعمرك و عملك في مصر.

- أماليا هو الاسم الذي اخترته لنفسي بعد مغادرتي لدمشق، أما عن الاسم الذي أعطاني إياه والدي فهو شام، وأنا أبلغ من العمر اثنان وعشرون عاماً.

12.

أعمل مدرسة تاريخ في إحدى المدارس الإعدادية، وما زلت أكمل دراستي الجامعية في كلية الآداب بجامعة القاهرة قسم التاريخ..

قاطعها بإشارة من يده وهو ينظر إلى كاتب العدل يقوم بكتابة أقوالها قبل أن يسألها مرة أخرى:

- حسناً يا أماليا، من الذي قام بتكليفك بهذا البحث وهل يوجد لديك الإذن بالأمر؟!

- تم تكليفي برفقة أصدقائي من الجهات المعنية بالبحث عن المقابر الفرعونية القديمة، وقد أحضرت معي الإذن الرسمي بهذه المهمة، هل تود الاطلاع عليه؟!

أومأ برأسه موافقاً بعد أن سمح لها بالاقتراب قليلاً، لتضع أمامه الإذن الورقي لمعاينته بدقة.

تراجعت للخلف قليلاً ثم أردفت قائلة:

سيادة القاضي، لم أكن أعلم بأن حياتي ستنقلب رأساً على عقب بعد كتابتي بحثي الأخير الدم المُقدَّس والقصص الأسطورية الأقرب للخيال.

الأحلام التي رسمتها لنفسي كخطوات على أرض الواقع، أعلم جيداً بأنَّك تعتقد كون المملكة كذبة قمنا باختراعها صدقها العالم بأكمله أننا صدقناها نحن أيضاً!

13.

لكنَّها واقع يتجسد لنا كلما نزلنا نحو المقابر الفرعونية لتصبح حقيقة جليَّة أمام أعيننا، برفع الغطاء عن حقيقتها علمياً وتاريخياً بعد عثورنا على تلك اللوحات الطينية و الرموز المتروكة على الحائط و بين الرُفات منذ ألف عام.

منذ دخولي إلى مصر وأنا عاشقة لقراءة تاريخ أم الدنيا، البلاد التي سقتني بغرامها حتى أصبحت قرينة لغاليتي دمشق فقررت أن أكون طالبة في كلية التاريخ لأغوص في عمق علومها القديمة، انتظرت كثيرا من أجل أن يتم تكليفي بأحد البحوث التي من خلالها قد أستكشف العديد من الآثار لكني أبدا لم أقطع الأمل حتى جاء اليوم الموعود عندما طُلِبَ مني القيام ببحث تاريخي عن الدم المقدس..

لقد عملنا ساعات متواصلة دون كلل أو تعب برفقة الأستاذ محمد، الذي جاء من الجزائر إلى مصر ليساعدنا في القيام بالعمل على أكمل وجه وبدقة متناهية، وقد أعادنا نحو المنطقة الصحيحة والتي يتواجد بها بوابة المملكة والمقابر الملكية الفرعونية التي بحثنا عنها لمدة سنة كاملة لكن دون فائدة تذكر، وكانت تلك المنطقة هي سوهاج..

بعض الجهود المبذولة لتحقيق الأهداف يتبعها فشل وخيبة كبيرة، لحظات من الألم.. من الحزن.. تملأ أرواحنا، لكن الحقيقة أننا بإمكاننا النجاح إذا ما حوَّلنا تلك الجهود نحو الطريق الصحيح، عوضاً عن العبث في المجهول والطرقات الخاطئة حتى النهاية..

14.

عادت بها الذاكرة إلى اليوم الثاني من لقائهم في الباحث وذاك في الرابع عشر من يونيو من السنة الماضية، استيقظ الجميع باكراً، للتحدث قليلاً عن الأحداث التي حصلت في الأمس، وهي ما جعلت عمل الفريق يذهب إلى الجحيم كما قال الباحث المتعجرف.

أعددتُ فنجان من القهوة لكل واحد منا، واضعة طبقاً من البسكويت المغطس بالشوكولا.

كنت أول المتحدثين في هذا الصباح الباكر:

- إذاً ما الذي يتوجب علينا فعله الآن، لقد أظهرنا أمامه وكأننا مجموعة من الحمقى لا نفقه شيئاً.

كانت أسماء تقضم بقية القطعة التي بين أصابعها وهي تفكر في جميع الأحداث تباعاً وما الذي يتوجب عليهم فعله قبل أن تجيب أماليا:

- لو كنت مكانك مش حتكلم قبل ما روَّح و شوف الاجتماع، بالنسبة ليا فكرت في الكلام مبارح و لقيت إنه منطقي جداً.

- لم أشعر أنه كان وديَّاً كما قيل لنا في الكلية، أشعر به شخص متعجرف بكل الأحوال. أردفت أماليا بشيء من الخيبة...

15.

شارك آدم أسماء رأيها بعدم إطلاق الأحكام قبل حلول الاجتماع، أما جورج فقد كان مستمع للقصة لعدم تواجده داخلها.

كان الأستاذ و الباحث التاريخي قد أضاف الفريق إلى مجموعة للتحدث عن البحث المقرر ومناقشته ضمن مواعيد قد حددها مسبقاً، و قد أبلغ برسالة قصيرة عند منتصف الليل، عن اللقاء الأول الذي سيجمعهم أمام القبر الخاص بالملك والملكة للتحدث قليلاً، و للقيام بجولة قصيرة نحو الداخل.

كان آدم أكثرنا تحمساً و إثارة لهذه الرحلة، وهو من سيقودنا نحو مدينة سوهاج التي لم يرها الجميع من قبل!

ترجَّل الجميع من السيارة ليواصلوا المسير على الأقدام متبعين آدم بصمت مطبق.

لا أعلم عن تلك المناطق شيئاً إلا أنني لا أود التواجد داخلها بالتأكيد.

وقد شعرت بالارتياح فور رؤيتي للباحث التاريخي يقف على إحدى الصخور القديمة.

16.

كانت دهشتي أكبر عندما وجدته يقف على بوابة عبور إلى مدفن قديم لا صخرة كبيرة و حسب!

توقفنا أمامه و نحن ننظر إلى بعضنا البعض لنجد الإجابة المناسبة قبل أن يقاطع جميع تأملاتنا بصوته الأجش والحاد:

- السلام عليكم يا أصدقاء؟!

أنا الباحث التاريخي الذي سيقودكم في هذا البحث، و اسمي هو محمد.

أعلم جيداً دهشتكم الكبيرة في القدوم إلى مكان مثل هذا المكان، لكنها الحقيقة يا أصدقاء، فنحن سنبدأ من هنا للعثور على مكان القبر أولا!

أشار إلى الصخرة وهو يقول بصوت مرتفع و باللغة العربية الفصحى:

تعلو هذا المنحدر الصخري بوابة للقبر أو المملكة المفقودة أو كليهما معاً، وهي في الغالب من عصر الدولة القديمة على بعد 20 مترًا من الناحية الشرقية ومن مدخل المقبرة يقع مصب الوادي والذي له فتحة واسعة تتجه إلى الصحراء وتعرف الجبانة القديمة المجاورة بنجع المشايخ بجبانة نجع الدير وبعضها ما يزال مفتوحًا للآن وهناك مقبرة حاتى نموًا وهناك مقبرتين من عصر الرعامسة وعلى بعد عدة كيلو مترات جنوب نجع المشايخ يوجد بقايا لمعبد رمسيس الثاني رممه ابنه سرنبتاح.

17.

معبد رمسيس الثاني – معبد ابيدوس؛ هو اهم الاثار الفرعونية في سوهاج والمعابد الجنائزية الاثرية لحضارة مصر القديمة في سوهاج مصر, تاريخ واسرار بناء المعبد الفرعوني ووصف كامل للمعبد من الداخل والتماثيل والرسومات التي يحتويها.

رغم أن هذا المعبد العظيم قد تهدم كثيرًا للأسف، فهو يستحق زيارة خاصة، وفي هذه الحالة يمكن الوصول إليه بسهولة من الطريق الذي يخترق الزراعة الواصل من تمثالا ممنون ومرسى البر الغربي للنيل، ولو أنه يمكن للذين زاروا مقابر الدير البحري أن يزوروا هذا المعبد بسهولة بأن يجتازوا الطريق المار بهضبة مقابر الشيخ عبد القرنه.

ويقع معبد رمسيس إلى الشمال من معبد والدة سيتى الأول.

وهو أقل من معبد سيتى الأول، وعلى الرغم من ذلك إلا أنه يعتبر من أهم المعابد الجنائزية. وقد شيد هذا المعبد في أوائل حكم رمسيس الثاني. فعلى الرغم من تهدم أجزاء كثيرة منه وكذلك الخلل الذي في صرحة الأول والفناء الأمامي، فإنه لا يزال يتميز بتماثيله وأعمدته الضخمة.

18.

ومن المعروف أن به أكبر تمثال نحته الفنانون في مصر على وجه الإطلاق، ولكنه للأسف تهشم نتيجة لأحد الزلازل في العصور القديمة.

ويحيط بحرم هذا المعبد سور من الطوب اللبن يضم مساحة تشغل جانبًا كبيرًا منها مباني ثانوية ومخازن.

والجدران بنيت من الحجر الجيري والأعمدة من الحجر الرملي وأعتاب الأبواب من الجرانيت الأحمر والأسود والرمادي والمحراب من المرمر ونقوش المعبد دقيقة للغاية وقليلة البروز ذات ألوان زاهية.

ومن أشهر معالم نقوش جدران المعبد مناظر تمثل معركة قادش التي كانت مبين المصريين والحيثيين وانتصر فيها رمسيس الثاني عليهم. وعلى البرج البحري عندما ننظر على الشرق نجد إلى اليسار قائمة تحوى أسماء ثماني عشرة مدينة احتلها رمسيس في تالية، ومنظرًا للأسرى وهم يساقون إلى الأسر وعلى الجنوبي مناظر الحملة التي شنها ضد الحيثيين.

الفناء الأول في حالة تهدم تام، وقد كان به صفان من الأعمدة في الجانب الجنوبي وتبدو أنها كانت متصلة بأنقاض قصر إلى الجنوب، وتخترق هذا الفناء إلى الجهة الغربية لنجد قبالتنا بقايا أضخم تمثال من التماثيل المصرية.

19.

أما الفناء الثاني الذي ندخل إليه الآن أحسن حالاً من الأول، وأن كان هو الآخر مهدمًا، فعلى الجانبيين الشمالي والجنوبي كان يوجد صفان من الأعمدة المستديرة، وفي الشرق صف من الأعمدة المربعة عليها تماثيل أوزورية، وفي الغرب شرفة مرتفعة عليها صف من الأعمدة الأوزورية المربعة تواجه الفناء، ووراءها صف من الأعمدة ذات تيجان على شكل برعم البردي. والتماثيل الأوزورية التي لم يبق منها الآن سوى أربعة في كل صف تماثل رمسيس الثاني.

بقايا المعبد تدل على تصميمه المعماري بأنه لا يختلف عن تصميم المعبد المصري التقليدي والذي يتشمل على فناء مكشوف أو اثنين ثم الشرفة وأخيرًا بهو الأعمدة والمقاصير وقد نقشت على جدرانه رسوم المظاهر للتعبد وإله النيل والأرض المزروعة التي مثلت بامرأة.

تنهَّد قليلاً قبل أن يكمل حسناً هذه الحقائق التاريخية التي سردتها لكم اليوم ما هي إلا دلائل على مدينة مفقودة لكن أسفل هذه الصخرة التي أقف عليها!

والتي عبرت أماليا عنها بكونها وحَّدَتْ ثلاثة حضارات من مختلف الثقافات و الجنسيات و الأديان معاً.

نظر إلى قدميه قليلاً بإمعان قبل أن يقفز نحو الأسفل و هو يوجه حديثه إلى الشابان معنا في الفريق.

20.

سنقوم بالعمل على إزاحة هذه الصخرة قبل غروب الشمس لنستطيع النزول إلى الأسفل نحو المدينة المفقودة.

تقدَّم جورجيو قليلاً حتى أصبح قريباً من الأستاذ ثم قال بنبرة متوترة: وماذا لو لم تكن موجودة في هذا المكان؟!

تركه الأستاذ و هو يقترب نحو الصخرة ثم أشار إلى رموز حفرت باللغة الهيروغليفية ثم قال بحماس: متأكد من هذا الأمر، أما لو أردت الانسحاب من الفريق لك ذلك.

نظر الأخير للخلف بصمت و شيء من الغضب لبضع دقائق، قبل أن يخطو نحوه وهو يجيبه: حسناً سنفعل ما تريد لكنك ستتحمل المسؤولية الكاملة.

إقترب منهما آدم و بدأ الرجال الثلاثة بالدفع نحو الأمام، لترتفع الصخرة بكل سهولة و يظهر درج مخفي قديم يتجه نحو الأسفل.

كان الجميع في ذهول و نحن نشاهد الفوهة المُظلمة، لم يكن من المتوقع كشف الأمر بهذه السهولة الكبيرة.

كان آدم أول من قفز نحو الدرج بخطوة واحدة وهو يقول: فليدخل الرجال أولاً ليكتشفوا المكان، ثم فلتدخل الفتيات.

كانت جملته الأخيرة قد أثارت غضبي فركضت نحوهم مسرعة لأوقفهم قبل أن يقوموا بالدخول معه :

21.

-لن تتركونا هنا لوحدنا، عدا عن كوننا باحثات في التاريخ و لسنا بالسائحتين الأجانب، سندخل معكم و نرى ما سيحصل، هل توافقين الرأي يا أسماء؟!

نظرت إلى أسماء برجاء و أمل أن تجيب بالإيجاب و قد اشتد بي الفضول للذهاب معهم على المكوث في الخارج.

أما الأستاذ محمد يستمع إلى الحوار الذي دارَ بيننا بصمت، قبل أن يحسم الأمر بشكل نهائي برأيه:

- حسناً سندخل معاً، لكن لا تبتعدوا عني، و لا تقوموا بلمس الاشياء الغريبة، أو ذات الروائح النفَّاذة حتى العطرية كانت أو الكريهة، ولتنصتوا إلى ما أمليه لكم دون فعل أشياء بطولية، خصوصاً أنتِ قالها وهو يشير بأصابع الاتهام بالتهور إلي.

وافقناه جميعاً على رأيه، لندخل واحداً تِلو الآخر نحو الدرج بخطوات بطيئة و متقاربة.

دخل الأستاذ محمد في البداية و تبعه آدم و جورجيو كما طُلِب منا، ثم تبعناهم أنا و أسماء.

بدى الدرج يضيق إلى أن وصلنا إلى ممر طويل ذو سقف منخفض، مما جعلنا نجلسُ على أركبنا ونزحفُ لنصل إلى نهايته وقد أخذ منا ذاك المكان ساعات طويلة، في تلك الليلة مكثنا في آخر الممر، نحاول البحث عن قبر ملكة وملك دُفنا على مرِّ التاريخ دون ذكر الكثير عنهما؛ وهذا ما أثار حماسنا.

22.

كان العرق يتصبَّبُ من أجسادنا المنطوية في تلك المساحة الضيقة والهواء القليل جعل تنفس الجميع صعباً للغاية.

أردفت لي همساً زميلتي أسماء بلكنتها المصرية وروح تملأها الدعابة: هو إحنا هنفضل معكوكين هِنا لحدِّ امتى، يا بنت أنت يا أماليا، لو أنت رُفيعَة غيرك مايستحملش خلصينا أحسن ما نلحق الملك بتاعك ده!

ضحك بصوت مكتوم زميلنا اللبناني جورجيو وهو يتسمَّع إلى المحادثات التي تحدث بيننا، لكنه كما المعتاد كان ينظر إلينا من بعيد دون الدخول في أي نقاش عدا عن النقاش في تاريخ اللغات في العصور القديمة، كما هو شأنه.

وفي اللحظة التي شعرنا بها أن الموت سيقترب منا حتى إننا لم نعد نفكر سوى بالعودة إلى الوراء، أعطى الأستاذ لنا الإشارة بالتقدُّم، لكن الذي حصل كان مفاجئ للجميع حيث إننا وقعنا في الفراغ لنرتطم بقوة في الأرض.

فتحتُ عيني ببطء شديد وأنا أشعر بطنين قويّ في أذني اليسرى، يداي غارقتان بالطين والرطوبة اللزجة، رائحة دم نتنة وظلام ينتهي بنور ليس بعيد.

أهكذا يبدو العالم الآخر من هذا الكون، لم يكن مُخيفاً أو أكثر ظُلمة، رُبما لأننا اعتدنا رؤية الظلام في قلوبنا.

23.

نظرت من حولي لأبحاث عن أصدقائي الأربعة أو حتى الأستاذ الجزائري، فدهشني كمية العظام والرُفاة في زوايا المكان وفوق الجدران، وقد كنت أرى آثاراً مختلفة لعشب قديم ولغات قديمة الممزوجة ببعض الرسوم التي تحكي قصّة هذا المكان، وقد جذبتني جميعها لشدّة غرابتها..

فبدأت الاقتراب منها وأنا أمعن النظر بهدوء وتؤدة في اللحظة التي أمسكني بها الأستاذ محمد من كتفي وأعادني للوراء، وهو يقول بلهجتي الجزائرية بحنق وغضب: واش بيك ما كان له داعي درت باش يا أبا أنت مستغنية عن روحك، ماليش شايفتينا طايحين مكان ما نعرفها طريقه، خلِّيك معايا لحد ما نوصل البقية بعدها نتحرك سوا.

كنت أنظر إليه بعينين مرتبكتين وهو يشرح لي بغضب عن خطورة فعلتي، وعلى الرّغم من عدم فهمي لكامل حديثه إلا أنني تعلمت ألا أفعل أي شيء قبل سؤاله عن الأمر، وإلا أدى بنا الأمر إلى الموت المحتم.

وفي هذه الأثناء استيقظ الجميع، ولقد قام النداء لهم الأستاذ محمد ليقفوا معنا، وعلى الرغم من عدم معرفتنا بحجم المكان، إلا أننا على الأقل استطعنا الوقوف باعتدال وكأنها قاعة ملكية.

24.

شعرت بثقل الصمت الذي جعل الجميع يدور في أنحاء المكان إلا أنني بدأت أشعر بالتوتر بسبب الظلام الذي كنت أكرهه بشدة، فلم أعد أطيق الصبر في الوقوف، وفرائصي بدأت ترتعد بشدة من الخوف، وكأن هناك شيئاً ما يراقبنا بعيون مخيفة، فجرحت الصمت بصوت عالي وخائف يملأه الرحلة:

- ما رأيكم أن نذهب إلى مكان الضوء؟!

نظر إليَّ الجميع وكأنهم شعروا بوجودي في تلك اللحظة، وقد ثُبِّتت أعينهم إليّ وكأن شيئاً ما يحدث، فشعرت بالخوف أكثر، اقترب قليلا آدم وهو يشير إليّ بملامح باهتة ومريبة بالنظر إلى الوراء.

لم أكن أملك الشجاعة بالنظر إلى الخلف، أحنيت رأسي إلى الأسفل فشاهدت ظلَّا ضخماً يقف ورائي، فشعرت ببرودة تجري في عروقي واتعد جسدي الهشّ بقوة، لقد كان ظلَّ الملك يحمل فأساً وهو يرتدي عباءة سوداء يغطي بها جسده، لكنَّه أظهر قلادته الفرعونية، كان يضحك بجنون العظمة وهو يشدُّ على الفأس محاولا ضربي بها، أما أنا أغمضت عيني بقوة وأنا أحاول الصراخ أحسست وكأنني ابتلعت صوتي واختفى في تلك اللحظة ولم أعد أستطيع الركض أو حتى الحراك.

25.

اقترب مني بسرعة كبيرة ووقف أمامي وصرخ بملء فمه بوجهي، فشعرت بنفسي أهوي إلى مكان بعيد..

فتحت عيني مرّة أخرى لأجد نفسي في غرفة الطوارئ داخل أحد المستشفيات، وأنا أسمع صوت مصري يصرخ بفرح – صحيت المريضة يا فندم...

وأصوات متداخلة بلهجات عديدة تقف فوق رأسي، أعلم جيدًا أنهم زملائي الذين كانوا معي، لكن ألم نكن بعيدين كل البعد عن الجيزة؟!

وكأن أسماء كانت تسمع تساؤلاتي فقالت لي مطمئنة: ما تخافيش يا حبيبتي، بس بسبب ضغط المكان أغمى عليك علشان كده أجَّل الأستاذ محمد الرحلة لبعد شهر.

- شهر، يا إلهي هل سننتظر شهر آخر لا أعتقد بأنها فكرة جيّدة، ما الذي سوف نفعله بكل هذه المدة!!

دخل الأستاذ محمد وقد سمع كل ما قالته ، فقال لها بحزم ولهجة صارمة:

26.

- إن رأيتِ أن المدة طويلة وتفضلين عدم التأجيل، هذا يعني عدم دخولك معنا ضمن تصنيف الرحلة بسبب حالتك الصحية التي لا تسمح لك بذلك، شنو رأيك توّا نأجل ولا نبقى على نفس التوقيت؟!

صمتت أماليا وهي تدير رأسها بشيء من الحزن والإذعان فهي لم ترد أن تخسر مثل هذه الفرصة، وقد علم الأستاذ موافقتها، ليخرج من الغرفة ويتابع إجراءات خروجها لتستريح في منزلها، فالرحلة ما زالت طويلة حتى يصلوا إلى القاهرة والجميع أنهكه التعب والإرهاق..

قاطعها القاضي عبدالناصر بإشارة من يده، بعد طلب من المحامي للتدخل بسؤال يوجهه إليها:

- هل لديك الإثبات الكافي عن وجود هذه المدينة، أو إعطاء المتخصصين الموقع والذهاب برفقة المحكمة ورؤيتها عن قرب؟!

- لا، لا يوجد أي دليل سوى كاميرا محترقة وملفات كتبناها بخط أيدينا و أعيننا التي شاهدنا بها المملكة.

رفعت يدها أمام وجهها وأردفت مُكملة: وحفنة تراب صغيرة لا تنتمي لمكان.

27.

أغمض القاضي عينيه لبضع دقائق قبل أن يسحب نفس عميق نحو صدره ليملأه بالهواء الساخن قبل أن ينهي الجلسة:

- المحكمة لا تؤمن بالقصص أو الاعتقادات الشخصية، بل في الأدلة والبراهين، التي لا أحد من المجموعة يمتلكها، وعليه سيتم تثبيت أقوالك، وإنهاء الجلسة على أن يتم الاستماع إلى أقوال البقية في الجلسة الثالثة في اليوم الأول من شهر أيار، رُفعت الجلسة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
المتواجدون حالياً

2144 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع