هل هي زيارتك الأولي ؟دليل الزيارة الأولي

آخر الموثقات

  • مغامرات كاتبة -2
  • مغامرات كاتبة -1
  • وجه السعد..
  • تركتني لظنيني..
  • الجانب الخفي من حياة أمير الشعراء أحمد شوقي
  • القلاع والحصون الإسلامية في سيناء
  • كيف تبدلت القلوب
  • وعيناك
  • يا كايدهم ….كلنا وراك
  • مصر لحمها مررر
  • إدراك الحكمة
  • قدوة في صمودك
  • الأوجاع الصامتة
  • بونبونايه بدون الكتاب
  • ظاهرة القبلات بين الرجال و النساء!
  • أمي القوية
  • ذكرينــي
  • شكرا لسيدنا يوسف
  • المهر كان غالي 
  • نختلف، ولا نحتد
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة نجلاء لطفي
  5. عشقت أجنبيا - الجزء الرابع و الأخير

الفصل الحادي عشر

لم أتخيل يوماً أني سأشعر بالسعادة مع زوج كما شعرت مع چون، لقد جعلني أنسى تجربتي السيئة مع زوجي السابق، وأعشقه حتى الجنون، منحته قلبي وجسدي واستطاع أن يحتل عقلي بسهولة. لم أعرف يوماً رجلاً حنوناً مثله، فهو يهتم بي وبمشاعري ويخاف على غضبي، كما أنه يشاركني في كل شئ لكن الشئ الوحيد الذي اختلفنا عليه هو ممارسته للملاكمة ، فقد كنت أعترض عليها وأخشى عليه من تأثيرها على المخ وخاصة وأن إصابتها أخطرها في الرأس، بينما هو كان مُصر على ممارستها لأنها هوايته الوحيدة. حاولت كثيراً أن أقنعه لكنه كان مصمماً عليها فتغاضيت عن تلك المناقشة، فيكفيني أنه يحبني ويشاركني حياتي وعباداتي ويشجعني عليها، فنصوم معا أيام الإثنين والخميس كلما سمحت ظروفنا بذلك، لكننا لم نترك قيام الليل وقراءة القرآن معاً.

كل ما كان يؤرقني هو عدم حملي، فعشقي له كان يجعلني أرغب في إنجاب طفل يزيد من ارتباطنا، ويكون أخاً لليزا ليشاركها حياتها كباقي الأطفال، لكن الله لم يأذن بعد بأن يمنحنا ذلك الطفل. طلبت مشورة الأطباء فعلمت أني يمكنني الإنجاب بشكل طبيعي ولكن كل شئ يتوقف على إرادة الله، ولما رأت ميسون توتري وقلقي، ذكرتني ميسون بالوقت الطويل الذي مر عليها حتى مَن الله عليها بالحمل وأن كل شيء متعلق بأمر الله.

هدأت واطمأن قلبي ودعوت الله ليل نهار أن يرزقني بالذرية الصالحة، وكان چون داعماً لي ولم يُشعرني بالقلق لتأخر الحمل، لولا أمه التي كانت تؤنبني من حين لآخر وخاصة وأن صوفي أنجبت توأم.

ظلت حياتنا تسير على منوال واحد بين العمل وقضاء الأجازة أما لدى أبويه او أحيانا ينشغل في التدريبات ، لكن موعدنا في المركز الإسلامي كان ثابتاً. كنت عندما ينشغل في تدريباته أصطحب ليزا إلى ميسون لأعاونها وتلعب ليزا مع طفلها، كذلك خصصت جزءا من راتبي أنا وچون للإدخار حتى يستطيع شراء السيارة الجديدة التي طالما حلم بها. كانت حياتنا هادئة يملؤها الحب حتى قررت ماري الظهور فيها مرة أخرى لتدمر كل ما بنيناه معا.فذات ليلة أثناء عودتنا من عند أبويه وكانت ليزا نائمة على المقعد الخلفي للسيارة فوجئنا بسيارة أخرى تقف أمامنا في مدخل الشارع عند البيت الذي كان يسكنه چون وألقت بامرأة ملابسها ممزقة وشبه غائبة عن الوعي وانطلقت  السيارة بسرعة كبيرة. أصابنا الذهول للحظات لكن چون فتح باب السيارة ليتفحصها ويرى إن كانت على قيد الحياة أم ماتت فامسكت بيده بسرعة وقلت بفزع:

-لا تنزل فربما مساعدتك لها تتسبب لك في مشكلة

فنظر إلي بغضب وقال:

-أهذا ما يحثنا عليه إسلامنا؟ أن نتخلى عمن يحتاج إلى مساعدتنا؟ ألا تتذكرين أني أنقذت حياتك مرتين ولم أكن أعرفك؟ هذا ما أنا عليه ولن أتغير

وترك يدي بعنف ونزل مُسرعاً وهو يأمرني بالبقاء مع ليزا وألا أغادر السيارة لأي سبب. انهمرت دموعي بغزارة فقد جعلني حبه وتعلقي به أنانية لا أبالي إلا بنفسي فقط، ويتحكم في سلوكي خوفي عليه، نسيت كل شىء وتذكرت فقط رغبتي في الاحتفاظ به بجواري، ربما لأني لأول مرة أشعر بالأمان في كنف رجل حقيقي وأخشى أن أفقده.

نول چون يتفحص نبض المرأة وخلع معطفه ودثرها به وعاد مسرعاً إلى السيارة وقال مضطرباً:

-خذي ليزا واصعدي فورا إلى شقتنا وأنا سأصطحبها إلى المستشفى

فقلت بغضب وغيرة:

-يكفي جدا لإرضاء شهامتك ان تتصل بالإسعاف وتنتظر حضورهم.

فنظر إلي وقال لي بحدة:

-ندى نفذي ما أقول بدون مناقشة فأنا لن أتركها بمفردها،

ثم أضاف بصوت منخفض:

-إنها ماري وأنا الوحيد الذي يعرف تاريخها المرضي فلابد أن أكون بجوارها في المستشفى

كانت كلماته كالصاعقة التي أصابتني في مقتل، لكنه لم يدع لي مجالاً للتفكير أو حتى الاعتراض فقد فتح الباب المجازر لليزا وحملها حتىى المصعد وأمرني بقوة أن أتبعه، فسرت وراؤه كالمُغيبة، حتى أفقت على صوت إغلاقه لباب المصعد بعد أن أعطاني ليزا لأحملها، واختفى هو ولم أره طوال الليل. دخلت إلى شقتنا وأنا أجر قدماي فقد شعرت بالخيبة والمرارة فقد تركني من أجلها. وضعت ليزا في سريرها  وبدلت لها ملابسها ثم بقيت للحظات لا أعرف ماذا أفعل، هل أبكي وانتحب؟ أم أتصل به لأفرغ عليه خوفي وغضبي؟ أم أظل مكاني بلا حول ولا قوة؟ أدركت الآن مكانتي لديه، فبمجرد أن أشارت إليه بعد أن لفظته خلفها، عاد إليها مهرولاً بحجة الإنسانية، أما قلبي ومشاعري فنسيهما في لحظات ولم يعد لهما أي وجود.أنهكني التفكير والبكاء فنهضت واغتسلت وصليت ودعوت الله كثيراً أن يرده إلي وإلى قلبي المكلوم فأنا لم أعد أحتمل غدر أو قسوة. اتصلت به عدة مرات فلم يجب ولكن بعد حوالي ساعة اتصل بي وصوته حزينا وقال:

-اعتذر عن عدم إجابتي عليك فقد كنت مع الطبيب، أتحدث معه بشأن حالة ماري، فهي في حالة أكثر من سيئة فقد تعرضت للاغتصاب والضرب الذي تسبب في كسر ساقها وضلوعها وتحتاج إلى عملية سريعة لتركيب شرائح ومسامير معدنية في ساقها، كما أن جسمها في منتهى الضعف بسبب إدمانها للمخدرات، والطبيب كان يحتاج لعنوان أحد من اهلها فاتصلت بوالدتها فرفضت أن تكون بجوارها، فأنا مضطر إلى البقاء حتى تنتهي العملية

فقلت بغضب:

-ولماذا تبقى معها إن كانت أمها رفضت فهل أنت أحن منها على ابنتها؟

فقال بحدة:

-لاتنسي أنها أم ليزا

فقلت بانفعال:

-ولا تنسى أنها لفظتها من حياتها كما فعلت معك وهربت تبحث عن متعتعها ولم تسأل عنها مرة واحدة، هل علينا تحمل مشاكلها بعد كل ذلك؟

فقال بعصبية:

-الغيرة أعمت عيناك وقلبك ولا تدركين ما تقولين، لذا علينا تأجيل النقاش

فقلت بحزن:

-يبدو أن حبها جعل على عيناك غشاوة فلا ترى الحقائق الواضحة وضوح الشمس، افعل ما شئت لكن لا تندم عندما تجد نفسك خسرت.

أغلقت الهاتف وانهمرت دموعي بلا انقطاع، وعقلي يقول لي:

-لقد كنت في حياته مجرد بديل لرعاية ابنته وإشباع حاجاته الإنسانية، أما قلبه فظل مغلقا على حبها فقط.

وقلبي ءلك الخائن الذي يعشقه يقول لي:

-إنه يحمل في قلبه قدر كبير من الرحمة والإنسانية، هو فقط مشفق عليها من أجل ابنتها لكنه يحبك.

ظل الصراع بين عقلي وقلبي مستمر حتى حرمني النوم، فنهضت من سريري لأقرأ القرآن وأدعو الله بفك الكرب، وقرب الفجر اتصلت به فأخبرني أنه في الطريق فقد خرجت ماري من العمليات  أخيراً واستطاع أن يتركها وسيعود إلى البيت ليحصل على قسط من الراحة وقبل أن يعود إليها مجدداً. كانت كلماته بمثابة الطعنة لقلبي المكلوم فقد أكد لي ظنون عقلي، وأني لم أكن سوى بديل لها في حياته ولكن لا وجود لي في قلبه.جاء إلى البيت مرهقا فاغتسل وصلى الفجر وطلب مني ألا أوقظه فقد حصل على إجازة اليوم من العمل حتى يطمئن عليها، وطلب مني عدم إخبار ليزا بأي شيء. خرجت من الغرفة وتركته لينام  وبقيت وحدي أبكي حلما كان جميلا وتحطم على أرض الواقع. جففت دموعي وذهبت إلى غرفة ليزا وأيقظتها وارتدينا ملابسنا وذهبنا إلى الحضانة، سألتني ليزا عن والدها فأخبرتها أن لديه عمل أخر وسينزل متأخراً عنا.كنت أسير في الطريق بلا قلب ولا روح ، جسد فقد الحياة، ودخلت ومارست مهامي بنصف عقل أما النصف الثاني فكان معه. انتهى اليوم وعدت مع ليزا إلى البيت فاتصلت به فأخبرني أن حالة ماري سيئة جدا وخاصة بعد انسحاب المخدر من جسدها  وأنها تحتاجه بجوارها، فكدت أصرخ وأقول له وأنا أحتاجك أكثر ولكني لم أستطع أن أهين نفسي أكثر من ذلك وأتسول منه مشاعره.قضيت باقي اليوم حزينة وشاردة حتى أن ليزا لاحظت وسألتني فأخبرتها أني فقط متعبة فقالت ببراءة:

-هل ستأتين بأخ لي؟

فقلت لها بتعجب:

-لماذا تقولين هذا؟

فقالت سمعت جدتي تقول لأبي:

-أنك تبدين شاحبة فربما تحملين طفلا في بطنك وسيكون أخ لي، كما حكى لي أبناء أعمامي أن أمهاتهم يحملن إخوتهم في بطونهن فدعوت الله أن يعطيني أخ أو أخت تحملينها في بطنك لألعب معه مثل أبناء أعمامي.

شعرت بالحزن أكثر وضممتها إلى حضني فحتى ليزا تراني ناقصة بلا طفل يكمل وجودي في البيت ويدعمه، ترى ألو كان چون لي طفل منه كان سيتركني ويعود إلى ماري كما يفعل الآن؟ فصرخت بداخلي وقلت لا أريد أن يربطه طفل بل أريد أن يربطه الحب، ألا أستحق أن يحبني أحد في هذا العالم؟ هل أنا سيئة جدا لدرجة ألا يحبني أحد؟ هل ما يحدث لي الآن غضب من الله على تقصيري السابق في عبادته؟ أم هو اختبار لصبري وقوة إيماني؟ لا أعرف فأنا حائرة وقلبي ينزف ألماً، وعقلي مُشوس ولا أستطيع التفكير جيداً.

مر بنا أسبوعين على نمط واحد نستيقظ للعمل فينزل قبل عمله لزيارتها في المستشفى، ثم يعود بعد عمله ليطمئن عليها ونتلاقى على العشاء فيجلس صامتاً، شارداً، منهكاً، يستمع إلى ليزا بنصف عقل وأحياناً كثيرة لا يجيبها، أما أنا فلم أكن أتحدث معه إلا للضرورة، أما في حجرتنا فقد كان يسقط في النوم من شدة إرهاقه ولا يدري بما حوله . ذات ليلة عاد بعد موعد العشاء ودخل غرفتنا فلم أستطع تحمل المزيد من هذا الوضع وقلت له بغضب:

-إلى متى سنظل على هذا الوضع؟

فأجاب بهدوء:

-أي وضع؟

فقلت بحدة:

-ألا تشعر بما نحن فيه؟ لقد ارتبكت حياتنا منذ أن عادت  ماري ألا تشعر بذلك؟

تنهد ولم يجب، فانفجرت في وجهه قائلة:

-من تبذل من أجلها وقتك وجهدك وهي من دمرت ت

حياتك ، ومازالت تسعى لتدميرها، وهي لا تستحق شيئاً مما تفعله من أجلك فقد كانت تخونك على فراشك بعد ذهابك إلى العمل، كما كانت تتعاطى المخدرات مع صديقها في وجود ابنتك بعد أن تعطيها دواء يجعلها تنام، تلك العاهرة التي تفضلها عنا عادت لتدمرك مرة أخرى.

ساد الصمت للحظات بيننا ثم احمرت وجنتاه من شدة الغضب وقال وهو يمسك يدي بعنف:

-كيف عرفت كل ذلك؟ أجيبيني فوراً؟

فقلت له من خلال دموعي:

-لقد كنت أسكن في الشقة المقابلة لكما، ولأني كنت أظل بمفردي كثيرا فكنت أتسلى بمشاهدة الجيران، وكنت أرى مدى حبك لها ولليزا وحرصك عليهما وما تفعله من أجلهما، وذات يوم ضربني وليد بعنف وترك أثاراً على وجهي حتى أني لم أستطع أن أخرج بسببها، فبقيت ليومين فى البيت فكنت أشاهد دخول ذلك الحقير في غيابك وما تفعله معه وعندما تعود من عملك تتشاجر معك وأنت تحاول إرضائها، تماما كما تفعل الآن.

سكت وأنا أنظر إلى وجهه الذي أصبح بلون الدماء من شدة انفعاله، فقال وهو يحاول أن يكتم سخطه:

-ألم تخبريني من قبل أنك أول مرة ترينني كان يوم تعرض اللص لك؟

فقلت من خلال دموعي:

-بالفعل كانت أول مرة أراك وجها لوجه، لكني رأيتك مرات عديدة من النافذة

فقال بحدة وهو يزيد من ضغطه على يدي:

-إذا فأنت أيضاً كاذبة وكنت تخدعينني؟

فتألمت بشدة فترك ذراعي وقال:

-كلكن متشابهات، لكني كنت أتمنى أن تكوني مختلفة، لكن كلكن كاذبات ومخادعات

ترك الغرفة وخرج وصفق الباب خلفه فأدركت أن تلك نهاية قصتي معه، فهو يراني مثلها ولن يغفر لي إخفائي لكيفية معرفته، لكنه استطاع بسهولة أن يغفر لها خيانتها وهروبها مع عشيقها، فهو يجد لها المبررات لمصائب لا تُغتفر ولا يسامحني في هفوات بسيطة، وتلك فرق مكانتها عنده عن مكانتي.

مرت بنا الأيام التالية في صمت مُطبق وغياب تام من قِبله حتى أن نفسية ليزا بدأت تضطرب فهي تشعر بشيء غير عادي بيننا ولا تعرف ماهو، لكنها تخشى افتراقنا حتى أنها أصبحت كثيرة الفزع والبكاء ليلا. كم أشفق على الصغيرة ولكني لا أملك من الأمر شيئاً، بل ومازلت أنتظر حكمه بالإعدام على قصة حب لم تكتمل. وذات ليلة استيقظت ليزا مفزوعة فأسرعت نحو غرفتها فوجدته بجوارها،فقد ترك أريكته في الصالة التي ينام عليها ،وذهب ليرى ماذا بها فسمعتها تقول له من خلال دموعها أنه لم يعد يحبها أو يهتم بها كما كان في الماضي، بل وأهمل كل ما كان يفعله من أجلها وهي تخشى أن يتركها لأنه لم يعد يحبها كما أخبرتها أمها ذات ليلة، أنها لم تعد تحبها وستتركها يوما ما وبالفعل تركتها، فسألته من خلال دموعها هل سيفعل مثل أمها؟ فضمها إلى صدره ولأول مرة أرى دموعه وهو يقبلها ويخبرها كم يحبها وأنه من المستحيل أن يتركها لأي سبب فهو يعيش من أجلها. سعدت من أجل الصغيرة لكني تساءلت عن حالي و ماذا سيفعل معي؟ هل سيتخلى عني ويطردني من حياته؟ ألم أعد أعني له شيئاً؟ هل كرهني من أجل خطأ بسيط؟ أليس في قلبه لي ما يشفع لي عنده؟ كم كنت أتمنى أن يكون لي أب مثله لديه استعداد لفعل أي شيء من أجلي، لكني للأسف ليس لدي سوى رجل قاسي القلب اسمه مجاور لإسمي في شهادة الميلاد. كما حلمت كثيراً أن يكون لي زوج مثل چون وعندما تحقق الحلم وجدت حلمي يتحطم على صخرة الواقع الأليم، وها أنا ذا أقف في مهب الريح أناظر منه الحكم بإعدام قلبي في أية لحظة، لم أتوقع أن يتعامل معي بتلك القسوة رغم أنه يحمل قلباً حنوناً.

منذ ظهور ماري في حايتنا وتحويلها إلى جحيم زهدت في كل شيء في الدنيا، فلم أعد أتناول إلا القليل من الطعام من أجل ليزا فقط، تلك المسكينة ضحية أمها مثلي، كما أنني لم أكف عن البكاء والحزن حتى كنت أشعر دائما بالدوار والصداع، حتى ذلك اليوم الذي فقدت فيه وعيي فاتصلت المديرة بالإسعاف بعد أن فشلت في إفاقتي، فانتبهت فوجدت نفسي في المستشفى وبيدي المحاليل والممرضة تسألني عن أهلي حتى تخبرهم بوجودي هنا فسألتها عن دكتور عمر فقالت أنه سيأتي بعد ساعتين فأخبرتها أني أعرفه معرفة شخصية وأرغب في رؤيته بمجرد وصوله.

كان عمر هو أملي الأخير في ذلك المأزق العسير، فعندما جاء اطمأن على صحياً وطلب إجراء بعض الفحوصات والتحاليل، ثم سألني عن حالي فحكيت له كل ما حدث بيني وبين زوجي فصمت قليلاً ثم قال:

-اتركيه لي سأتحدث معه ولعل الله يكتب لكما الخير على يدي.

فرجوته ألا يخبره أني بالمستشفى فلا أريد شفقته، بعد انتهاء المحلول جاء عمر مبتسماً وقال لي:

-لدي خبر من أجلك لا أعلم سيسعدك أم لا، أنت حامل

نظرت إليه بذهول ووضعت يدي على بطني غير مصدقة فاضاف قائلاً:

-سبب الوهن والإغماء هو الحمل، ومن اليوم ممنوع البكاء أو الإهمال في الطعام وستتوجهين إلى طبيبة متخصصة لمتابعة حالتك

فقلت له برجاء:

-أرجوك لا تخبر عمر فلا أريده أن يعود إلي من أجل طفله بل إن عاد فليكن من أجلي أنا.

فأومأ بالإيجاب وسمح لي بالانصراف، فعدت إلى الحضانة واصطحبت ليزا وعدنا إلى البيت فقالت لي:

-هل أنت بخير يا ندى؟ ألن تموتي وتتركيني؟

فابتسمت ومسحت بيدي على شعرها وقلت:

-أنا بخير فقط الطبيب اعطاني حقنة كبيرة لأني لم أكن أتناول طعامي كله

فاحتضنتني بيديها الصغيرتين وقالت:

-سأحرص على أن تأكلي جيدا حتى لا تتركيني مرة أخرى.

ابتسمت لها وقلت:

-هيا لنصنع أجمل عشاء وكيك الشيكولاتة أيضاً

هللت ليزا فرحة، فسعدت لسعادتها وقررت أن أرمي همومي وراء ظهري فقد صار لدي من أحيا من أجله.

الفصل الثاني عشر

ذلك الساذج لم ولن يتعلم أبداً من أخطاء الماضي، ولأنني أعرف ذلك جيداً فقررت أن ألجأ إليه عندما فقدت الملجأ والمأوى بعد أن لفظني الجميع بسبب إدماني للمخدرات، وهاري صديقي ترك أحد اصدقاؤه يضربني بعنف وتسبب لي في الكسور ثم ألقاني في الشارع، وقبل أن أفقد وعيي رجوت سائق تاكسي أن يساعدني ويوصلني إلى عنوان چون ومنحته أخر مبلغ معي، لأني أدرك جيداً أن چون بمجرد أن يراني سينسى كل شيء ويبدأ في علاجي والوقوف بجواري. وقد تحقق الآن جزء من خطتي عندما وجدني في الشارع أتألم فلم بحتمل المشهد وأسرع بنقلني إلى المستشفى لعلاجي، وظل بجواري كل يوم يتابع حالتي وخاصة وأن مرحلة التعافي من الإدمان مع علاج الكسور كانت من أصعب المراحل التي مرت علي حيث كنت أصرخ من شدة الألم وأتحرك بعشوائية وقد أضر نفسي. مرت تلك المرحلة الصعبة وبدأت رحلة التعافي ولم يتركني چون إنما كان بجواري دائما يدعمني ويساعدني ويهتم بتغذيتي، فأدركت بغريزتي الأنثوية أنه مازال غارقا في حبي كما كان دائماً.

تذكرت بداية تعارفنا التي كان يظنها مجرد مصادفة ولم يكن يدري أني سمعت عنه كثيراً من زميله في العمل وكيف هو مختلف عن كل من قابلتهم في حياتي، فهو يحب الناس ويساعد أي شخص يحتاج للمساعدة بلا مقابل، كما أنه يعمل وراتبه جيد بالإضافة إلى دخله من مسابقات الملاكمة وتنبؤات الجميع له أنه سيكون بطلا ويحقق المال والشهرة. كنت في تلك الفترة بلا عمل ولا صديق وكل ما أفعله أني أبتز زوج أمي مالياً حتى لا أفضحه عندها وأجعلها تعرف بعلاقاته المتعددة ببنات الجيران اللاتي كن في سن الطفولة حيث يستدرجهن بلطفه وكرمه ثم يتحرش بهن ،وقد اكتشفت ذلك بالمصادفة وتتبعته وسجلت له ڤيديو وهددته بنشره على مواقع التواصل الاجتماعي وفضحه في عمله أيضاً ،فكان يمنحني ما أريد من المال حتى لا افضحه ويفقد عمله وسمعته وقد يقضي باقي عمره في السجن.

وجدت في چون الفرصة المناسبة لي حيث سيمنحني البيت، والمال والعلاقة التي أريد، كما أنه قروي ساذج ولن يدرك أني أخدعه، بل سيظن أني أحبه وهائمة في عشقه. بدأت في تنفيذ خطتي للإيقاع به فكنت أحضر كل مبارياته وأشجعه، كما حرصت على صداقته والظهور معه في كل مكان، وعندما أدركت أنه وقع في شباكي ادعيت أن زوج أمي يتحرش بي وأني تركت البيت ولا مأوى لي، فعرض علي مشاركته في السكن ووعدني أن يجد لي عمل. وافقته في البداية، وكنا شريكي سكن وحرص على ألا تكون بيننا أية علاقة خوفا من أن يفقدني، فبدأت في إغوائه فلم يصمد أمام خبرتي وجمالي كثيرا بل وقع في الفخ ،وأصبحت أعتمد عليه في معيشتي اعتماداً كاملاً وتركت العمل وكلما وجد لي غيره افتعلت المشاكل حتى أهرب منه وأعود بلا عمل، لم أكن مخلصة له تماماً ولكني حرصت ألا يعلم أني أخونه أحياناً مع أي شاب يعجبني او قد يمنحني المال أو الهدايا.

حتى حدث مالم يكن في حسباني وهو الحمل، فهو الشيء الوحيد الذي لم أخطط له، ولسوء حظي اكتشفه چون معي في نفس الوقت، حيث فقدت وعيي بسبب الإفراط في شرب الخمر في إحدى السهرات مع أصدقاؤنا فأخذني چون إلى المستشفى وهناك أخبروه أني حامل. حاولت أن أقنعه بالإجهاض ولكنه رفض تماما بل وهددني إن فعلتها بطردي من بيته وقطع علاقته بي نهائياً ،ولأني لم يكن لي مكان غير بيته ولا مصدر دخل سواه رضخت له بل ووافقت على الزواج منه حتى يكون ابننا شرعي، وأنا لا أعلم إن كان من في بطني من صلبه أم لا لكني قررت أن أستغل الموقف لصالحي فمن سيرضى بي وأنا حامل؟ وإن أجهضت الطفل فمن أين لي بتكلفة الإجهاض وأين سأعيش ومن سينفق علي؟ لذلك وافقت على شروطه چون حتى أجد لي حلاً أخر. تزوجته رغم اعتراض والدته تلك الحيزبون التي كانت تكرهني مثلما أكرهها تماماً فمنعته وامتنعت عنها وعن كل أسرته. تدللت طوال فترة الحمل كثيراً وكان يسرع لتلبية كل مطالبي مهما كانت صعبة أو مُكلفة، فكنت أحرص على أن يشتري لي أغلى الأشياء فلم يكن يبخل علي بأي شيء، لكني رغم ذلك كنت أراه ذلك الأحمق الذي يسهل خداعه وأنا خير من يستغل ذلك. أنجبت طفلة فرح بها كثيرا وأسماها إليزابيث وكان هو من يقوم برعايتها ويتولى شأنها حتى نفذت نقودنا وبدأت أتذمر، فعاد إلى عمله وترك لي مسئولية رعاية الطفلة وأنا لم أتحمل يوماً مسئولية نفسي أو أي مكان أعيش فيه، وكان ذلك يثير غضبه وسخطه فكان يصرخ بي دائماً أن أرتب وأنظف البيت فكنت أستجيب له حيناً وأتدلل عليه أحياناً بحجة حملي أو تعبي مع ليزا، فلما يأس مني أصبحت مهمة التنظيم والتنظيف على عاتقه. كانت مهمة رعاية ليزا وإطعامها وتنظيفها من أسوأ المهام فقد كانت دائمة الصراخ ولا أدري ما السبب لكني كنت أتأفف لأنها تجعلني أستيقظ من نومي أو أترك طعامي من أجلها، وكثيرا ما كنت أغلق عليها باب غرفتها وأغلق باب غرفتي حتى لا أسمع بكائها فقد سئمتها وسئمت تلك الحياة المملة، فطلبت منه أن يبحث لي عن عمل فذلك أفضل من بقائي معها فرفض بحجة أنها صغيرة وتحتاجني. فكرت كثيرا في التخلص من تلك الصغيرة التي تقيد حريتي وتمنعني من الحياة ولكني كنت أجبن من أن أفعل ذلك خوفاً من غضبه وردة فعله العنيفة، فقررت أن أحتملها وبحثت على الانترنت فاكتشفت أن هناك مهدئات للأطفال كثيري البكاء فاشتريتها واخفيتها في ملابسي. كان چون يستيقظ مبكراً قبل موعده فيطعم الصغيرة ويبدل لها ملابسها وحفاضتها ثم يتناول إفطاره وينزل إلى عمله فتنام هي قليلا ثم توقظني من النوم فأعطيها المهدئ فتنام ، وعندما أستيقظ اعطيها الطعام الذي تركه چون من أجلها ثم المهدئ لتنام مرة أخرى ولا تزعجني. تعرفت على العديد من الشباب من خلال مواقع التواصل الاجتماعي فكنت إما أذهب إليهم وأترك ليزا لدى صاحبة البيت بحجة شراء احتياجات البيت، أو استغل خروج صاحبة البيت لأي سبب وأطلب من صديقي أن يأتي إلى بيتي وأعطي ليزا المهدئات لتنام بينما أستمتع بحياتي كما أريد. كنت أدخر المال من علاقاتي المتعددة حتى يصبح لدي مبلغ يساعدني على ترك چون وحياته الكئيبة، فلم يعد دخله يكفينا، ولم يعد لديه وقت لممارسة الملاكمة، إنما كل وقته يخصصه من اجل رعاية ليزا وكأنه جليسة أطفال. ذلك الغبي أهدر عام ونصف من عمري من أجل رعاية تلك الصغيرة ولم يدعني أستمتع بحياتي كما أريد. تعرفت على هاري وعرفت معه متعة تعاطي المخدرات والغياب عن الوعي، كنت مسبقا مدمنة كحول  وحاول چون بكل الطرق أن يجعلني أتخلى عنه على الأقل في فترة الحمل فكدت أجن وكنت ارتكب الحماقات وأكسر الأشياء ليجعلني أعود إلى الخمر لكنه بدلا عن ذلك كان يصطحبني إلى المستشفى لأكون تحت رعايتهم ولا أؤذي نفسي أو الطفل، وبعد الولادة كان يخشى كثيراً من تهوري على ابنته فكان فقط يسمح بتناوله في وجوده. أما مع هاري الذي عرفته من خلال الفيسبوك فقد تعلمت تعاطي المخدرات وشعرت معها بنشوة لذيذة، فبدأ هاري يجعل ثمن علاقتنا جرعة مخدرات، ثم منحني بعض الجرعات وطلب مني تسليمها، وأحياناً كان يطلب مني إقامة علاقات مع اصدقاؤه مقابل جرعة المخدر. كنت أستجيب له ولكن تحركاتي كانت محدودة بسبب چون والطفلة فقلت له أن يوفر لي مكان للإقامة وسأعمل معه في الترويج وكذلك سأجلب له زبائن جديدة وحددت المقابل الذي أريده فوافقني وطلب مني منحه مهلة حتى يدبر لي مكان أقيم فيه. خلال تلك الفترة كانت معاملتي مع چون أحياناً جيدة وأحياناً أكون غاضبة او متذمرة بلا سبب، فقط يتوقف ذلك على مزاجي، حتى اكتشف چون جرعة المخدرات فثار غاضباً وكاد أن يقتلني ولكني أقنعته أنها تعود إلى صديقة لي تركتها عندي فتركني وهو غير مقتنع بما قلته. انتهزت فرصة ذهابه للعمل واتصلت بهاري وطلبت منه سرعة تدبير مكان لي فطلب مني أن أذهب إليه الآن. فأعددت ملابسي وكل ما أحتاجه وأخذت المال الذي كان يدخره چون لتجديد السيارة، وكذلك سرقت اللاب توب الذي يملكه ، وادعيت أمام صاحبة البيت أني سأترك ليزا معها حتى يعود چون لأن أمي مريضة وتحتاجني بجوارها وأخشى على ابنتي إن تلتقط العدوى منها. غادرت وأنا أشعر بالأسف على عمري الذي ضاع هدرا في صحبة ذلك الأحمق الذي يؤمن بالحب والأسرة والمسئولية والاستقرار، ويترك كل متع الحياة ويُضيع  شبابه هدراً، بينما أنا أرغب أن أعيش كل لحظة في الحياة وأستمتع بها. تركت لچون ورقة أخبره فيها بذهابي مع صديقي الذي سيمنحني الحياة التي أريد بدلاً من حياته المملة وطلبت منه أن يبدأ في إجراءات الطلاق فأنا أريد حريتي وسأرسل له الأوراق مع المحامي، وكلت زوج أمي ،وهو محامي شهير ذو صيت كبير، ليحصل على الطلاق في أسرع وقت وبالطبع لم أدفع له أي شيء كعادتي لأنه مازال يخشى من تهديداتي. ذهبت إلى هاري الذي استأجر لي غرفة قذرة في حي شديد الفقر والقذارة وأخبرني أني هنا أستطيع أن أختفي بسهولة ولن يجدني أحد، كما أني يمكنني الترويج للمخدرات بسهولة تامة، ووفر لي عمل كنادلة بإحدى الحانات الشعبية. قاسيت الأمرين في عملي وحياتي وتحمل مسؤولية الإيجار والطعام بمفردي وتمنيت لو أستطيع العودة إلى چون أطلب عفوه وأنا أعلم أنه مازال يعشقني وسيغفر لي، لكني تراجعت فأنا لم أُخلق لتلك الحياة الرتيبة وربما يمنحني القدر فرصة أكبر لأتخلص من تلك القذارة. خلال عملي تعرفت على العديد من الرجال وتعرضت على يديهم لمواقف عديدة كلها ذل وإهانة وضرب وأحياناً ممارسات سادية وتقبلت كل ذلك من أجل المال، كما أصبحت الذراع اليمني التي يعتمد عليها هاري في ترويج المخدرات، سواء خارج الحانة أو في بيتي. لم أستطع ان أصل إلى المستوى الذي كنت أعيش فيه مع چون بل كنت أهوي إلى الحضيض لأن كل دخلي كنت أنفقه على المخدرات، فتبخرت أمالي في أن أصبح ذات قيمة أو شأن. وفي تلك الليلة التي عدت فيها إلى چون كنت أقضي سهرة مع أحد زبائن هاري الأثرياء ولكنه سادي ويعشق ممارسة العنف بشدة، فكان نتيجة عنفه أن اصابني بكسر شديد وخاصة وأني كنت منتشية وغير متوازنة، فما كان من هاري إلا أن وضعني في سيارته وألقى بي وكأني كيس نفايات في مكان بعيد عن العمران. بقيت ملقاه على الطريق فترة طويلة غبت فيها عن وعيي وعدت وأنا اصرخ من الألم وعندها وجدني سائق تاكسي فطلبت منه أن يوصلني إلى عنوان چون وأنا أعلم أنه لن يخذلني وخاصة حين أعلن ندمي ورغبتي في العودة من أجل الصغيرة، فكما أعلم تلك هي نقطة ضعفه.

طوال تواجد چون معي في المستشفى لم أكف عن الاعتذار وندمي عن تركي له ولليزا، وأني طالما اشتقت لهما لكني كنت أشعر بالخجل مما فعلته بهما، كما كنت أخشى من عقابه وصده لذلك كنت أبتعد. وحكيت له أني عملت كنادلة في حانة وأقمت في غرفة قذرة في حي شعبي وأنا أظن أني سأحقق المال وأن هاري يحبني لكني اكتشفت أنه يريد فقط استغلالي، وأني لم أجد من يحبني مثل چون ويفعل من أجلي كل ما فعله، واعترفت له أيضاً أني لم أكن تلك الأم الصالحة لليزا ولكن بعدي عنها جعلني أشتاق إليها وافتقدها في كل لحظة مما زاد من إحساسي بالندم. وقلت له أن سبب الحادث تعرض بعض السكارى لي بعد انتهاء عملي ومحاولتهم لاغتصابي ولكني قاومتهم فتسببوا في إصابتي، وبمجرد انصرافهم عني لم أفكر في اللجوء إلا لسواه. استخدمت سلاح دموعي واتقاني للكذب والتمثيل لأؤثر عليه وقد رأيت ذلك واضحاً على ملامحه فأدركت أن ذلك الأحمق وقع في شباكي مجددا ولن أفلته تلك المرة، بل سأستغله كما ينبغي ليوفر لي المأوي والطعام واحتياجاتي وربما أنجب له طفلا أخر وستدفعه مطالبنا إلى العمل بجد ليوفر لنا دخلا جيداً، أما متعتي فأنا أعرف كيف أحصل عليها بطرقي الخاصة.

شغلته بضعفي ومرضي وأكدت على رغبتي في التعافي من إدمان المخدرات، وكانت تلك الحقيقة الوحيدة التي أخبرته بها من بين العديد من الأكاذيب، فقد كنت حقاً فقدت صحتي وجمالي ورغبة الرجال في بسبب المخدرات، كما كنت انفق كل دخلي عليها ولم أعرف كيف أقلع عنها، لذلك عندما أتتني الفرصة للتعافي تمسكت بها بشدة لأستعيد ما ضاع مني. خلال محادثاتنا الطويلة معاً أقنعته أني تغيرت وأرغب في البحث عن عمل لأعول نفسي، وسألته عن أحواله فحكى لي أنه أسلم وتزوج من شرقية مسلمة تعيش هنا، فشعرت بالغضب الشديد ولكني أخفيته بمهارة خلف قناع البؤس والضعف بل وتمنيت له السعادة. طلبت منه بعد خروجي أن يساعدني في إيجاد مسكن بسعر منخفض، وأن يسمح لي برؤية ليزا من حين إلى آخر. رأيت الحيرة في عينيه فهو في صراع بين حبه القديم لي وبين تعلقه بزوجته الحالية ولا يعلم من يختار، فطرقت الحديد وهو ساخن وأخبرته كم أحببته وأني كنت شابة طائشة لم أقدر قيمة الرجل الذي معي، والتي لم أعرفها إلا عندما عرفت غيره وجربت مدى سوء خلقه ونذالته، وأني لم أستطع نسيان حبه ولو للحظة واحدة، فرأيت في عينيه تلك النظرة التي كان يمنحها لي وحدي والتي تدل على عشقه وهيامه فأدركت أني كسبت المعركة من أول جولة بدون جهد يُذكر فمثل ذلك الغبي الذي تحكمه مشاعره يسهل خداعه، وسيكون عجينة طيعة بين يدي.

الفصل الثالث عشر

أخيراً شعرت بالاستقرار والسعادة مع ندى، كانت كالهرة أحيانا ناعمة وضعيفة ومستكينة وتتمنى حبي واهتمامي، وأحياناً أخرى مشاكسة، وإن اقترب أحد مني أو من ليزا فإنها تنشب مخالبها في وجهه فقد كانت تعشقنا عشقا بلا حدود. كما اكتشفت أنها عاقلة وليست مندفعة، كما استطاعت بذكائها أن تكتسب محبة أسرتي حتى ان أمي تخلت عن عدائها لها، فقد استطاعت ندى أن تفهمها وتفهم احتياجاتها. كانت زوجة جيدة جداً تفيض بالحب والرعاية وتشبع احتياجاتي الجسدية والعاطفية إلى حد ما، ورغم اختلافها تماماً عن ماري في العلاقة الخاصة إلا أنها ملأت قلبي وعقلي وكل كياني، فعشت معها مشاعر لم اعرفها من قبل، وملأت حياتنا حب وسعادة. وكأن الأقدار لا تريد دوام تلك السعادة فظهرت ماري مرة أخرى لتضعني في حيرة بينها وبين ندى، في البداية لم أظن أنها ماري، فكل ما رأيته سيارة تتوقف في الظلام والسائق يلقي بجسد في الشارع فنزلت مسرعاً لانقاذه، وكلما اقتربت اتضحت الصورة على ضوء مصباح الشارع فقد كانت ماري بملابس ممزقة وجسدها ممتلئ بالكدمات وفاقدة للوعي. فأسرعت إلى ندى وطلبت منها الصعود بسرعة وحملت ليزا وأوصلتها ثم عدت مسرعاً إلى ماري وحملتها برفق ووضعتها على الأريكة الخلفية، ثم اتجهت إلى المستشفى ودخلت بها إلى الطوارئ ولم أتركها، وعاد إلي الطبيب وسألني عن حالتها الصحية فأخبرته كل ما أعرفه عنها، وبعد أن فحصها قرر أنها تحتاج إلى عملية وطلب وجود أحد من اهلها فاتصلت بوالدتها فرفضت أن تأتي او أن يكون لها أية صلة بها، فبقيت بجوارها وأنا أشعر بغضب ندى وغيرتها ولكن كيف أترك ماري بمفردها؟ فمهما فعلت فبيننا عشرة وأيضاً ليزا، هذا ما كنت أقوله لنفسي لأبرر تواجدي مع ماري، لكن في الحقيقة كان هناك شيء يجتذبني للبقاء معها ولا أعلم ما هو، أهو حبي القديم؟ أم رغبتي في الانتقام؟ أم هو حنيني إليها؟ لا أعرف.

في كل يوم كنت أخترع المبررات لأبقى بجوارها، حتى أني لم أعد أستطيع النظر في عيني ندى من شدة خجلي منها، فهي لا ذنب لها فما أنا فيه ،فقد أحبتني أنا و ابنتي ولم تبخل علينا بمشاعرها أو اهتمامها ولا بوقتها وجهدها ، وها أنا اكافئها بتركي لها وتواجدي مع ماري التي تنكرت لحبي وتركتني أنا وابنتها وسعت وراء غرائزها. كل يوم كنت أقول لنفسي هذا الكلام وأذكر نفسي بما فعلته ماري بي وبقلبي بل وبابنتها، لكني كنت أنسى كل شيء بمجرد رؤيتي لماري وحديثي معها.   كنت أجلس معها وأستمع لها فحكت لي عما عانته بعدي وأنها أدركت قيمتي الحقيقة بعد ان تركتني  وتعاملت مع غيري، وكم هي نادمة على تخليها عني أنا وليزا ،ولو عادت بها الأيام ما ارتكبت تلك الجريمة في حق نفسها قبل أن تكون في حقنا، وذرفت أنهار من دموع الندم فصدقتها  ومال قلبي إلى مسامحتها، لكن عقلي كان يقف كعقبة في طريقي ويقول لي إنها كاذبة ومخادعة وتجيد التمثيل كعادتها، لكن صوت قلبي كان له الغلبة  كالعادة فرجحت كفة ماري. أهملت كل شيء من أجلها ،ندى وذهابي إلى المركز الإسلامي من أجل دروسي، وتدريباتي، وأصدقائي، بل وحتى ليزا لم أعد أمنحها الوقت الكافي، فكان وقتي ينقسم بين عملي وزياراتي لماري فقط وكنت أبرر لنفسي كل ذلك بأنها ضعيفة ووحيدة وتحتاجني بجوارها. كنت أتجنب ندى بقدر الإمكان لأني لا أعرف ماذا أقول لها ولا كيف أبرر ما أفعله بها، حتى هي كفت عن معاتبتي ولومي بل وحتى عن السؤال عني، وكأنها فقدت الأمل في،لكني لاحظت الشحوب الظاهر على وجهها في الدقائق القليلة التي نلتقي بها، حتى الابتسامة غابت عن وجهها وأصبحت دائمة الشرود.

سيطرت ماري تماماً على مشاعري وفكرت بيني وبين نفسي في البقاء بجوارها ولكن بأي صفة؟ فالقوانين هنا لا تسمح بتعدد الزوجات، كما أن ديني لا يسمح بوجود عشيقة، كما أنني لا أقدر على اتخاذ القرار بطلاق ندى بعد كل ما فعلته من أجلي، غرقت في حيرتي ولم أعرف لها مخرجاً.

ذات يوم قابلني دكتور عمر في المستشفى فرحب بي بلوم وقال:

-ما بك يا رجل؟ هل أنت غاضب مني؟ لقد اتصلت بك عدة مرات ولم تجب، هل أنت بخير؟

فقلت بخجل من تجاهلي المتعمد له فقد كنت أخشى لومه لي:

-نعم أنا بخير الحمد لله لكني كنت مشغول قليلاً

فقال بتعجب:

-إذا لم أنت هنا في المستشفى؟

فقلت بتردد:

-ماري زوجتي السابقة ووالدة ليزا مريضة وجئت لأطمئن عليها

فأمسك بيدي وقال:

-لا بأس عليها دعني أفحصها لنطمئن على حالها

لم يترك لي أية فرصة للاعتراض، إنما طلب مني إرشاده لغرفتها وبعد أن عرف نفسه للمرضات وطلب مقابلة الطبيب المعالج الذي شرح له حالتها الطبية وشعرت بالخجل وهو يصفها بمدمنة مخدرات. بعد دقائق اصطحبني لغرفتها فاستأذنا ودخلنا فوجدنا معها أحد أصدقائها القدامى وكان يسلم عليها ويقبلها بحميمية ووضع شيئاً في يدها، أخفته بسرعة عندما رأتنا، ولكني تجاهلت الموقف وعرفتها بدكتور عمر وأخبرتها أنه صديقي وجاء ليطمئن عليها، فسخرت منه هي وصديقها لأنه مسلم وعربي وذكرتني بنفسي في أول تعارف بيني وبين ندى، أفقت من الذكريات على انسحاب دكتور عمر غاضباً فذهبت خلفه اعتذر له فقال بجدية:

-ألن تأتي معي؟

فقلت بارتباك:

-لا سأبقى معها فهي مريضة وتحتاجني بجوارها

فقال بسخرية:

-ألا ترى يا رجل أنها لا تحتاجك ؟ فمعها صديقها الذي يشبهها.

فقلت بحرج:

-سينصرف وتبقى وحيدة فيجب أن أكون بجوارها

فقال بتعجب:

-تبقى معها بأي صفة؟

فقلت بثبات:

-إنها زوجتي السابقة وأم ليزا ولها حق علي.

فقال بجدية:

-وزوجتك الحالية وليزا نفسها أليس لهما حقوق عليك؟ إنهما أولى بوقتك وحبك واهتمامك

فقلت بعناد:

-وأنا لست مقصراً في حقوقهما

فنظر إلي بشفقة وقال:

-أنا لن أجادلك لأنك من الواضح أنك مصمم على ما تفعله وليس لي الحق أن أتدخل في خصوصياتك، لكن لك علي كصديق حق النصح، وجودك مع امرأة ليست زوجتك أو من محارمك بمفردكما مُحرم شرعا وسيفتح كل الأبواب للشياطين، كما أنها تدفعك للإهمال في حق بيتك ونفسك بل وفي عباداتك التي هي حق الله، تلك المرأة ستدفعك دفعاً إلى عالمها بل وإلى الحضيض، بينما زوجتك الطاهرة التقية العاشقة لك تبذل كل جهدها لتأخذ بيدك إلى الجنة، أنت الآن في مفترق طرق وعليك تحديد ما تريد واي طريق ستختار.

صمت للحظات وقال:

-لا يمكننا أن نأخذ من الدنيا كل شيء بل كلما أخذنا منها شيئاً فقدنا مقابله أشياء، فعليك تحديد ماذا تريد التمسك به وما تريد التخلي عنه، هداك الله وأنار بصيرتك.

تركني ومضى وأنا غارق في حيرتي فأنا حقا أريد كلتيهما في حياتي ولا اريد التخلي عن أي منهما.

عدت إلى غرفة ماري لأسألها إن كانت تريد شيئاً قبل انصرافي، فوجدتها بين ذراعي صديقها في وضع حميمي، كان ذلك المشهد بمثابة الصفعة على قلبي، فهي تقول أنها تحبني وعادت نادمة، وبعد يوم واحد كانت بين ذراعي رجل أخر، ياله من حب. شعرت بصداع يكاد يفتك برأسي ولا أريد العودة إلى البيت فاتجهت إلى بيت أبي لا أعلم لماذا، وقبل دخولي قابلت أخي الأكبر ولم نكن يوماً أصدقاء لأننا شخصيتين مختلفتين تماماً فرحب بي متعجباً وتساءل:

-ما الذي أتى بك في منتصف الأسبوع؟ وأين زوجتك وليزا؟ هل أنت بخير؟

فقلت له بحزن:

-لا لست بخير

فجذبني من يدي وركبنا سيارته واتجهنا إلى بيته فرحبت بي زوجته والأولاد وسألوني عن ندى وليزا فلم أستطع الإجابة. اصطحبني أخي إلى غرفة المكتب وطلب من زوجته أن تصنع لنا القهوة. جلسنا معا وتحدثنا عن العمل حتى أحضرت زوجته القهوة وانصرفت ثم قال لي بهدوء:

-إن كنت تريد أن تتحدث فأنا أستمع إليك

لا أعرف كيف فتحت له قلبي وأخبرته بمكنون نفسي وحكيت له حكايتي مع ماري وندى من البداية، وشرحت له حيرتي وطلبت منه النصيحة، فسكت قليلاً ثم قال:

-من البداية لم تعجبني ماري فهي امرأة لعوب، وفي أول زيارة لها هنا كانت تغوي أخاك الأصغر ولكنه صدها بقوة وهددها أن يخبرك فلم تعد إلى هنا مرة اخرى ،بل وحرصت على ابعادك عنا وانت بضعفك وخنوعك استجبت لها، ولم اتفاجئ بما فعلته عندما هربت مع عشيقها وتركتك أنت وليزا فهذا ما كنت أتوقعه من مثلها.

صمت لدقيقة وظهر الذهول على وجهي، ثم أضاف:

-وعندما تزوجت ندى لم أكن سعيدا لأنك وللمرة الثانية تسير خلف قلبك وتترك دينك وتدخل في دين جديد من أجل فتاة شرقية أعجبتك ولن تنالها إلا بالزواج منها وتغيير دينك ففعلت، لكن عندما دخلت ندى البيت ،رغم اختلافي معها وحذري منها، إلا أنها أجبرت الجميع على احترامها وأعجبني فيها ذكاءها وقوة شخصيتها، كما أنها تحملت أمي بطباعها الصعبة وحرصت على تجنب الاصطدام بها، وفي نفس الوقت تحبك وترعاك أنت وليزا وهي ليست ابنتها ولا هي مسئولة عنها، أدركت أنها فتاة صلبة تتحمل المسؤولية، ولو كنت أنا من يختار لما ترددت للحظة لأختار ندى فهي أفضل كثيراً من ماري حتى بالنسبة إلى ليزا.

نظر إلي بقوة وقال:

-هل تعرف ما هي مشكلتك الحقيقية؟ أنك  تجعل قلبك هو من يتخذ القرارات رغم أن ذلك ليس من مهامه، وتهمل عقلك ولا تأخذ بقراراته رغم أنها الأهم والمفروض أنها من تنظم حياتك، اتبع عقلك مرة واحدة في حياتك حتى ولو على سبيل التجربة فقد اتبعت قلبك كثيرا وانظر إلى النتيجة.

شكرته وتركته فوجدت اتصالا هاتفيا من ندى التي سألتني لماذا لم اعد بعد إلى البيت، فرغم كل شيء مازالت تبحث عني وتهتم بي، فأخبرتها أني أزور أسرتي فسألتني بلهفة هل كلهم بخير، كم هي عجيبة تلك المرأة التي تهتم بأهلي وابنتي وكما قال أخي هم ليسوا من ضمن مسؤوليتها، بينما ماري لم تفكر يوماً في السؤال عني إلا إذا كانت تحتاج إلى شيء. طمأنت ندى أنهم جميعاً بخير لكن هناك موضوع هام بيني وبين أبي لا يحتمل التأجيل لذلك أتيت وسأعود في الصباح الباكر على عملي، فطلبت مني ألا أسرع في الطريق لأنها تخاف من الضباب علي، شكرتها وأغلقت الهاتف واتجهت إلى البيت فرحبت بي أمي وهي متعجبة وقالت:

-هل حدث شيء؟ هل أنت بخير؟ اين ليزا وندى؟

فابتسمت وتعجبت عن سؤال الجميع عن ندى التي لم يكونوا يحبونها، ثم قلت:

-كلنا بخير ولم يحدث شيئا ولكني أحتاج إلى أبي في موضوع لا يتحمل التأجيل لذلك فكرت في الحضور إليه بعد عملي والانصراف في الصباح الباكر.

فقالت أمي وهي تحاول أن تسبر أغواري:

-أي موضوع ذلك الذي لا يحتمل التأجيل؟ ألا أستطيع أن أعرفه؟

فقلت بارتباك:

-موضوع يتعلق بالعمل وأبي يعرف تفاصيله، اين هو إنني لا أراه

فقالت ساخرة:

وأين تظنه سيكون في ذلك الوقت؟ إنه بالتأكيد في المقهى مع اصحابه

فقلت وأنا أتجه إلى الخارج:

-سأذهب إليه

فرفعت حاجبها تعجبا وقالت:

-ألهذه الدرجة الموضوع هام وعاجل؟

قبلت وجنتها وقلت لها:

-لا ترهقي نفسك بانتظارنا فربما نتأخر

ذهبت إلى أبي في المقهى وتفاجئ بوجودي فطلبت منه الحديث وحدنا فاصطحبني إلى منضدة معزولة عن الجميع، فأخبرته بعودة ماري وما قالته لي وأخبرته عن حيرتي هل أتبع قلبي كما سبق ونصحني أم أتبع عقلي كما ينصحني أخي.

سكت أبي قليلاً ثم نظر إلي وقال:

-القرار بيدك وحدك، هل تريد امرأة تعتمد عليك اعتماداً كاملا في كل شئون الحياة وحتى البيت وتربية الأطفال ولا تضمن حبها ولا ولائها لك ويسهل عليها ترككم في أي وقت؟ لكن مقابل ذلك تمنحك علاقة خاصة ممتازة وتُشعرك أنك الوحيد الذي تطمئن إليه والذي يمكنها الرجوع إليه في اي وقت ويغفر لها أي شيء، هل تريد تلك المرأة؟ أم تريد امرأة تشاركك كل مسئولياتك وقراراتك وتساندك في ضعفك وتدعمك في كل وقت ومخلصة لك على الدوام لكنها لا تقبل الإهانة او التقليل من شأنها؟ لكنها أقل في العلاقة الخاصة وذات شخصية قوية، أيهما تريد؟ كذلك يجب أن تفكر إن كنت حقا متمسك بدينك الجديد فماري لن تدعمك بل ستبعدك عن أي علاقة بالله، بينما ندى ستقربك منه وتساندك فأيهما تريد ان تكمل معها حياتك وتكون أم أولادك؟ اختر وتحمل نتيجة اختيارك وتذكر ان أولادك ايضا سيدفعون ثمن اختيارك.

عدت إلى البيت مع أبي فوجدت أمي تركت لنا العشاء على منضدة المطبخ فتناولناه وأعددت لنا القهوة وجلسنا في غرفة الاستقبال فقال فجأة:

-الآن أنت بعيد عن الاثنتين لو بإمكانك العودة فوراً إلى إحداهما إلى من ستعود؟

فقلت بدون تفكير:

-إلى ندى فأنا أشعر معها بسكينة واطمئنان، وكذلك يمكنني التحدث معها في أي موضوع في أي وقت فهي مستمعة جيدة وكذلك متحدثة لبقة لا أمل من الحديث معها والأعجب أنها تفهمني جيدا.

فابتسم أبي وقال وهو يغادر الغرفة:

-في بداية حياتنا يكون الحب والرغبة أهم ما فيها، ثم في منتصفها يكون التفاهم والاحترام ،وعندما تصل إلى مثل عمري ستبحث عن السكينة ومن يفهمك دون أن تتكلم، تصبح على خير.

غادر أبي وارتسمت البسمة على وجهي فقد أدركت أني بمقاييس القلب والعقل أفضل ندى واحتاجها، بينما ماري أختارها بمقياس الرغبة الجسدية وليتها تقتصر علي وحدي، بل تمنحها لكل عابر سبيل، عندما فكرت في ذلك شعرت بالتقزز، وتذكرت ندى عندما كانت ترفض السلام علي بيدها، او الخروج معي بمفردنا، او أن أصعد إلى شقتها دون أن أدخلها، فلا وجه للمقارنة بين من تصون نفسها من أجل شخص واحد وبين من هي مشاع للجميع.

استيقظت مبكراً فوجدت أمي في انتظاري وقد صنعت لي بعض الشطائر وكوبا ساخنا من الشاي، وقالت لي بجدية:

-لا تأتي المرة القادمة بدون ندى وليزا، واجعل ندى تصنع تلك الحلوى من أجل أبيك فهو يحبها.

ابتسمت وقبلت وجنتها وقلت لها:

-هل تحبينه يا أمي؟

سكتت قليلاً ثم قالت وهي شاردة:

-أمضيت معظم سنوات عمري بجواره، ولا اطمئن إلا عندما يعود إلى البيت، وما يسعده يسعدني، وفهمته جيدا حتى بدون أن يتكلم، لا أعرف ماذا يسمى ذلك.

نظرت إلي ثم قالت:

-حافظ على تلك الشرقية فهي فتاة جيدة.

قبلت يدها وانصرفت وأنا أود أن اطوي الطريق حتى أصل سريعاً إلى ندى وأقبل يدها وأطلب منها ان تسامحني واعدها أن أظل بجوارها لباقي عمري أحبها وأرعاها، لكن هل ستغفر لي زلتي؟

الفصل الرابع عشر

لم يكتف بالغياب عن البيت وقضاء وقت فراغه معها، بل صار يبيت خارج البيت، ألهذه الدرجة لم يعد لي اعتبار عنده؟ لماذا يستهين بي الجميع؟ ألأني ليس أهل ولا سند؟أم  أن هناك عيب في شخصيتي يدفع الجميع إلى الهروب مني؟ فليس من المعقول أن اثنين مختلفين تماماً في كل شئ يهربان مني لابد أن بي شيء ما يدفع الناس للهروب مني. ليتني أعلم ما عيبي حتى أصلحه وأعيش حياة طبيعية كباقي النساء، فأنا لا اريد سوى الأمان والاهتمام والاستقرار، هل هذا كثير علي؟ ربما لو كانت أمي على قيد الحياة لاستعنت برأيها وخبرتها، أما زوجة أبي فهي تكرهني ولن تدلني إلا على ما يضرني، فكل همها أن أتزوج بثري وأخذ منه كل ما أستطيع من المال فقط، لكنها لم تخبرني ماذا أفعل لأحتفظ به، ولا كيف أجعله يحبني ويتمسك بي.

فعلت كل ما يثبت له أني عاشقة واعترفت له بحبي ورغم كل ذلك بمجرد أن أشارت إليه ماري عاد إليها ركضاً، ترى ما بها ليس عندي؟ فكرت أن اذهب لزيارتها لرؤيتها فربما أعرف ما يميزها عني، لكني عدت وتراجعت فلا اريدها أن تعرف أني خائفة من فقد زوجي وحبيبي فتشمت بي وتشعر بقوتها وتفوقها علي.

قررت أن ألجأ لمن بيده المصائر والقلوب فهو وحده القادر على أن يملأ قلبه بحبي، فسجدت بين يدي الله وبكيت ودعوت ورجوته ألا يبعده عني، وأن يُعيده إلي ويرده إلى بيته. منحت ليزا وجنيني القادم كل حبي واهتمامي لأعوضهما عن غياب والدهما، فلا أجعلهما يعانيان آلام الشوق والحنين والخوف من الفقد مثلي، فكنت أمنح ليزا كل نهاري وأخبرها أن والدها مشغول في عمله وأنه يدخل غرفتها ويقبلها وهي نائمة، بينما الليل كان لجنيني فكنت عندما أخلو إلى نفسي أحدث جنيني عن حبي له ولأخته وعن عشقي لأبيه، واطمئنه أنه لابد سيعود إلينا فهو لن يستغنى عنا أبداً ولابد أن يرده قلبه إلينا.

واستجاب الله لرجائي ودعوات وعاد چون إلي نادماً  راجيا عفوي، وراغبا في حبي وقُربي الذي طالما منحه الأمان، وبرر لي انجذابه لماري مرة أخرى أنها مجرد نزوة ولن تتكرر مرة أخرى، فرحت كثيراً أن رده الله إلى قلبي وإلى ابناؤه وبيته وسجدت إلى الله شكرا. لكن لأول مرة لم أسير وراء قلبي ورغبته في مسامحته والعودة لما كنا عليه، فقد انكسر شيء بداخلي يصعب جبره، فقد أضاع چون بتهوره ونزقه ثقتي به وبدد إحساسي التام بالأمان بجواره، وصرت خائفة أن يتركني أو يسقط فريسة لنزوة أخرى، لذا كان علي أن أحتاط لذلك لكني كنت أحتاج لأن أفكر جيدا قبل أن أتخذ قراراً، فطلبت من چون أن ينام اليوم مع ليزا لتعويضها عن غيابه الفترة الماضية ولأني أحتاج بعض الوقت بمفردي حتى أستطيع مسامحته ومغفرة تلك الزلة التي كادت أن تُنهي علاقتنا، فوافق على مضض.

قضيت الليل أفكر ماذا جذبه إلى ماري مرة أخرى فأدركت أنها متميزة عني في علاقتها بالرجال فهي عرفت الكثيرين واكتسبت الخبرة في اجتذابهم، بينما أنا خبرتي تنحصر في تجربة فاشلة مع زوج مريض نفسيا، وتجربتي مع چون فقط وليس هناك مجال لاكتساب تلك الخبرات. فقررت أنها في الشكل تتميز عني في اللبس الجرئ والماكياچ، فقررت أن أغير طريقة ملابسي في البيت، كما أنها أنحف مني ولكني لا يمكنني عمل ريچيم اثناء الحمل لكني سأحرص على ألا يزيد وزني كثيرا حتى يسهل علي التخلص منه، كما سأستشير الطبيبة بشأن ممارسة الرياضة وأي نوع منها مناسب للحمل. كذلك فإن ماري شخصية إتكالية وتعتمد اعتمادا كلياً على چون ، وأنا لا أستطيع أن أكون مثلها لكن بإمكاني أن أجعله يشاركني في كل الأعباء ولا أحملها عنه وحدي وأتركه للفراغ الذي يُمكن أخرى من الدخول إلى حياته.

في اليوم التالي في الصباح وقبل نزولنا إلى العمل قلت له بكل براءة:

-أنا أشك في كوني حامل ولكني غير متأكدة، فهلا صحبتني بعد العمل إلى الطبيب لأتأكد من ذلك؟

فقال بسعادة :

-حقا؟ هل يمكن أن يكون حلمي تحقق أخيراً واستجاب الله لدعائي؟

فقلت بدهشة:

-ألم تقل لي من قبل أنك لا تهتم؟ أم أنك كنت تكذب علي؟

فقال بمرح:

-كنت أتمنى ولكن عندما لم تتحقق أمنيتي لم أحزن ولم يكن فارقاً معي فكل ما يفعله الله لنا هو الخير.

فقلت له:

وإن كان مجرد ظن فقط وليس هناك حمل هل ستغضب؟

فقال بهدوء:

لا بل سأحمد الله ولكن لن أكف عن الدعاء.

بعد العمل تركنا ليزا مع صاحبة البيت وذهبنا إلى الطبيب الذي أكد حملي ففرح چون بشدة وأصر على دعوتي على العشاء وحدنا، فلم أرفض فقد أردت أن أحتفل معه واستعيد حبه واهتمامه وأكسر الحواجز بيننا. تناولنا الطعام وتحدثنا عن حياتنا القادمة وعن خططه للمستقبل، فطلبت منه أن يفكر جيداً في اعتزال الملاكمة قبل أن تحدث له أية إصابات وخاصة وأن أطفاله بحاجة إليه، وإن كان على عشقه لها يمكنه أن يعمل في مجال التدريب فيمارس هوايته وفي نفس الوقت يبتعد عن الإصابات، فوعدني أن يفكر في الأمر فقلت له وأنا أمسك بيده وأنظر في عينيه قبل أن ننصرف:

-أرجوك اهتم بنفسك لأني لا أستطيع الحياة بدون حبك، كما أني لا أستطيع تحمل مسئولية الطفلين بدونك، فنحن نحتاجك وحياتنا ستنهار بدونك.

فنظر إلي بحب وابتسم وقال:

-سأفعل المستحيل لأظل بجواركم حتى تشعرون بالأمان.

كانت تلك أولى خطواتي نحو التغيير، فكنت أشركه معي في كل شئ يخصني أو يخص ليزا و الجنين، فلم أكن أذهب إلى الطبيب بدونه أو اتخذ قرارا دون ان أشركه فيه.

استعنت بميسون لتختار معي بعض الملابس المناسبة للبيت التي تشابه ما ترتديه ماري حتى يظل منجذبا إلي، فعيون الرجال وحواسهم تعشق قبل قلوبهم، فساعدتني في شراء ملابس وعطور وماكياچ معتدلي الثمن، كما أمدتني ببعض النصائح والخبرات، فشكرتها كثيراً.

لم يتوقف قلبي لحظة عن حب چون ورغم مسامحتي له إلا أن هناك غصة ظلت بالقلب، فأصبح حبي له عاقلاً مبصراً بعد أن كان حباً مجنوناً وأعمى.  فلا يجب أن نندفع وراء مشاعرنا الهوجاء، بل يجب أن يحكمها العقل.

لاحظت انبهار چون بالتغيير الذي حدث في شكلي وطريقة تعاملي معه،وكان يتساءل عن السر فقلت له مازحة:

-ألا تعلم أن هرمونات الحمل تسبب تغييرات كبيرة في مزاج المرأة؟

فقال بخبث:

-إذا سنحرص على أن تكوني حامل باستمرار

مضت حياتنا بهدوء يتخلله أحياناً بعض العواصف لكني استطعت بفضل الله السيطرة عليها، وتجاوزها بأمان، لكن التجربة علمتني ألا أثق بأحد ثقة عمياء بل اضع دائما ً في اعتباري أن القلوب تتغير بين لحظة وأخرى وأن من نضمن بقاؤه اليوم قد يرحل غداً، وأن من يحبنا اليوم قد يعشق غيرنا غداً، لذلك كنت أدخر دائماً نصف راتبي تحسباً لأي لحظة غدر، أو ربما تتغير بنا الأحول ويفقد أحدنا عمله فلا نحتاج إلى أحد. كذلك حرصت على وصل أهلي والسؤال عنهم رغم كل مساوئهم وأطماعهم لكنهم في النهاية أهلي ولا أملك تغييرهم فقد علمت ان صلة الرحم هي سبب السعادة في الدنيا والآخرة، كما اردت أن يتعلم أبنائي البر وصلة الرحم بشكل عملي، كذلك حرصت على توثيق صلتي بأسرة چون وظل أبوه وأخته الأقرب إلى قلبي، وعندما مرضت أمه كنت بجوارها حتى تعافت، فتعجب الجميع مما فعلت رغم شدتها معي إلا أنهم لا يعلمون أني أدخر الأعمال الصالحة حتى أجدها عندما أصل لمرحلة الاحتياج إلى الآخرين.

وأكثر ما حرصت عليه ألا أفرق بين ليزا وبين توأمي سارة وأحمد حتى لا تكبر ليزا وهي تعاني الضياع والخذلان مثلما عانيت، وكانت ماري ذات قلب حنون فأحبت أخويها وتعلقت بهما كثيراً، حتى عندما ظهرت ماري في حياتها مرات عديدة لم أمنعها عن التواصل معها ففي النهاية هي أمها ولها حق البر عليها، لكني حرصت أن يكون وجودها في حياتها تحت إشرافي حتى لا تؤثر على ليزا بأفكارها المُنحلة. كما أن ظهور ماري صاحبه محاولات عديدة للتواصل مع چون ولكني كنت لها بالمرصاد، فطلبت من چون أن يكون تواصلها مع ليزا من خلالي أنا فقط وألا يكون له اية صلة بها فاستجاب حرصاً على مشاعري وعلى مصلحة أسرتنا.

حرصت كذلك على تربية الأولاد تربية صالحة بلا تدليل يفسد ولا شدة تؤذي، بل كنت لهم صديقة أكثر من أم، لكن في المواقف الضرورية كنت حازمة، كذلك كان چون مشاركاً معي في كل القرارات التي تخص الأولاد، لكنه كان أكثر تدليلاً لهما.

لم تُنقص الأيام من حبي له ذرة واحدة بل بالعكس مع العشرة والمواقف ازداد حبي له تعقلا ونضجاً وكنت أشعر معه أني مازالت فتاة صغيرة عاشقة مهما مرت بنا الأيام، كما شعرت معه بالأمان ولكنه صار أماناً حذراً ومبصراً في آن واحد حتى لا أستيقظ يوماً على فقدانه.

علمتني التجربة أن الحب أجمل إحساس في الكون، لكن الاحترام والتفاهم ضروريان ليستمر الحب، وأن الحب كالبذرة يحتاج إلى اهتمام مستمر ليصبح شجرة مثمرة وارفة الظلال، وأن الإحساس بالأمان أهم من الحب بشرط ألا نركن إلى الأمان ونتغافل عن تقلبات القلوب والزمن.

تمت

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
المتواجدون حالياً

2557 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع