لولا النور والحركة مكنتش قمت، مكنش ده معاد صحياني، بدري أوي....طبعًا مفيش غيره، أخويا الصغير! هو اللي بيعمل الحركات القليلة دي.... كان قاعد على الكمبيوتر في الأوضة بتاعتي، هو حاول يبقى هادي، دخل وهو بيتسحب ووصل السماعات بالكمبيتور وحطها ف ودنه، بس برده قلقني وأديني قمت...
هزقته واتحركت عشان أدخل الحمام ، ما خلاص النوم راح من عيني، بس في حاجة وقفتني، بجنب عيني لمحت post في الfacebook بتاعه...
سألته:
=مين دي؟
-واحدة صورت شحاتة بتقول إنها حست إنها مخطوفة أو حاجة زي كده..
صحيح أنا مكنتش لسه فايق تمامًا، لسه دايخ وفي غيمة على عيني، بس أنا ميزت الوش ، كنت متأكد إني عارفه....وش البنت مش غريب أبدًا...
من غير ما استأذن شلت إيده من عالmouse وعملت save لصورة البنت المتسولة وطبعتها....
أخدت الورقة معايا الشغل....
الملامح دي، هي نفسها، سرحت لوقت ومكان تانيين، كأنه إمبارح، كان عندي ساعتها 13 سنة، كان يوم باين أنه عادي، نفس روتين بقية الأيام، صحيت بدري عشان اروح المدرسة، استنيت الأتوبيس، وصلت للمدرسة، الطابور، الحصص المملة، الإنتظار بفارغ الصبر عشان اليوم يخلص وبعدين الرجوع للبيت...
حتى لما مريت بمدخل العمارة عشان أطلع البيت، حتى اللقطة دي كانت متكررة، نسخة من اللقطات اللي قبلها في نفس المعاد كل يوم لكن في نهاية اللقطة....في حاجة كانت مختلفة....
جارتي الصغيرة، اللي عندها 6 سنين بس، كانت ماشية لوحدها ، كانت خارجة من العمارة وأنا داخل، متكلمتش أو حتى سلمت عليها زي ما ساعات كنت بعمل، برغم إني جوايا إستغربت وقلت إيه اللي خرجها لوحدها... مشوفتهاش قبل كده من غير باباها أو مامتها... بس السؤال فضل جوايا، كنت مرهق وجعان ومكسل لدرجة إني مسألتهاش ولا وجهتلها أي كلمة...
لما وصلت للأسانسير لقيت مامتها، كانت واقفة تتكلم مع واحدة من الجيران....ارتبكت كأنها افتكرت حاجة فجأة، فضلت تبص حواليها وبعدين قالت بتوتر:
-هي فين سلسبيل؟
الجارة طمنتها إنها أكيد مش بعيدة وبتلعب هنا ولا هنا... الابتسامة كانت لسه على وشها وهي بتنده على سلسبيل، بعدين بدأت تبهت وتختفي، وشها مبقاش مرخي....أما أنا ففضلت واقف براقب. الأسانسير جه واتحرك وأنا لسه مكاني.... شفتها بتجري ناحية المدخل وبتخرج منه للشارع ومعاها جارتها اللي لسه كانت بتأكد أن البنت أكيد ملحقتش تبعد كتير، المرة دي الأم مكانتش سامعاها ولا سامعة ولا شايفة حد، فضلت تنادي عليها، صوتها بيعلى في كل مرة بتنادي وسلسبيل مش بتستجيب لحد ما اتحول صريخ ، وسلسبيل برده مش بترد.....
خرجت أكمل مراقبة مع العدد اللي بدأ يتجمع من سكان العمارة والشارع ، الكل، اللي عارفها واللي مش عارفها بقوا يمشوا ينادوا عليها، كأن العالم كله مبقاش في إسم غير "سلسبيل"، ومهما نادوا ومهما طال البحث، سلسبيل مظهرتش من يومها ....
الليالي بعد كده مكنتش سهلة، كل ليلة، كل ليلة كنت بحلم بكوابيس، مكنتش بعرف أنام كام ساعة على بعض، أنا المسؤول، أنا آخر واحد شفتها، لو كنت وقفتها، سألتها رايحة فين، أو حتى سلمت عليها، الكام دقيقة دول هما اللي بيفصلوا ما بين توهان مامتها وتركيزها أن سلسبيل اختفت، ساعتها لو نادت عليها كانت هتلاقيها معايا، كان زمانها في حضن أهلها، بتكبر قدامهم، بيشهدوا كل المراحل المهمة في حياتها، كانت هتبقى زيي بالظبط، حتى لو اختياراتها في الحياة اختلفت عني، مكنتش هتبقى من الأطفال المفقودين، اللي مصيرهم مجهول وغيابهم الغامض أمر من موتهم المعروف...إزاي مريت بيها وكل اللي عملته أني بصيتلها البصة الباردة دي، إزاي أبص للبراءة بصة باردة وأعدي واسيبها للوحوش بره حيطان بيتها والناس اللي تعرفها؟
كأني رجعت لورا، الولد اللي عنده 13 سنة، اللي بعد الحادثة دي بقى إنسان تاني، إنسان مهزوز، نفسيته خربانه وتكوينه مختلف، عنده تأنيب ضمير معكر عليه كل إنجاز في حياته، مخليه مش قادر يفرح بجد عشان حاسس إنه ميستحقش الفرحة....الاحتمال بعيد، بعيد جدًا أن المراهقة اللي في الصورة تكون نفسها سلسبيل، هي فعلًا شبهها لكن....يمكن تكون دي رغبتي، عايزها تكون هي، أصل يعني من آلاف المفقودين واللي بيتخطفوا عشان يبقوا متسولين معقول تكون نفس البنت؟!....
اللي خلاتي اشك أكتر تعليق الست اللي صورت المتسولة عالصورة، قالت أنها حست أن أصلها مختلف، يعني مش شبه الست اللي معاها لا في الشكل ولا الشخصية، بعكس الست البنت كانت عينها مكسورة، كأنها مقهورة، مش بتزن زيها عالفلوس، معندهاش إصرار.... قالت كمان أنها ممكن تكون مخطوفة من طفولتها، كسرة نفسها مش نتاج يوم أو اتنين.....
مستنتش لحد أما أوصل البيت، كلمت والدتي أول اما خلصت شغل،سألتها إذا كانت تعرف عنوان أسرة سلسبيل، أصلهم اتنقلوا من سنين ، طبعًا هي استغربت السؤال وأنا مرضتش أقولها تفاصيل، قالت إنها متعرفش فطلبت منها تروح للجارة اللي كانت قريبة من أم سلسبيل نسبيًا وتسألها....
الجارة طلعت تعرف الحي بس متعرفش بالظبط بيتهم فين...
لما بلغتني روحت على المكان علطول مستنتش أروح البيت وأغير أو ارتاح... اتوجهت للحي اللي هما المفروض فيه... كل لما أقرب نبضات قلبي تبقى سريعة أكتر وإيدي اترعشت على الدريكسيون...
مش عارف اللي بعمله ده صح ولا غلط، يعني لو افترضنا إن المتسولة هي فعلًا سلسبيل، ورجع الأمل ليهم ودوروا عليها وملاقوهاش يبقى خسروها مرتين، داقوا المرارة اللي ممكن تقضي على بني آدم وتكسره مرتين مش مرة واحدة، ولو طلعت مش هي إحساسهم هيبقى بشع، العشم ممكن يدبحهم...
وقفت العربية ونزلت اسأل، لقيت غفير فسألته عن فيلا "الأستاذ حليم"، وطلعت كام متر من مكاني ومع ذلك المسافة كنت حاسسها كبيرة أوي ، كأنها سنين عدت مش كام دقيقة، مع كل خطوة حسيت بالعجز أكتر، رجلي بتتقل ونفسي بيضيق....
وصلت....
سألت عن الأستاذ حليم أو مراته مدام جنات...
"جنات" جريت عليا، مكنتش مصدقة، سلمت عليا بتحمس، عاتبتني إني مجتش قبل كده وسألت عنها، حسيت إني فكرتها بوقت حلو، وقت لما بنتها كانت في حضنها، والمكان اللي شهد قصة حبها لجوزها وكفاحهم وفرحتهم وكمان تحول الحالة المادية بتاعتهم بعد رحلة الكفاح وفي النهاية خسارة حته من روحها....
كبرت أوي، بقياس السنين المفروض شكلها يبقى أصغر من كده، لكن أصلها مش بالسنين، بالأحداث اللي تخلي الورد يدبل قبل أوانه وينابيع الميه تجف...
=أنا جي لحضرتك عشان حاجة...
-اتفضل يا حبيبي
=هي حاجة فيها إحتمالات، والإحتمالية الأكبر أنها متكونش صح!
-هي فوازير يا بني، ايه الحاجة اللي فيها إحتمالات؟!
فردت الورقة اللي معايا بتردد وبدأت أتكلم:
=لما خسرنا سلسبيل....
ملحقتش أكمل، وشها اتبدل ، صدرها كان بيعلى ويهبط كأنها عندها مشكلة في التنفس..... خطفت الصورة بلهفة، فضلت تراقبها وهي ساكته، كأنها اتحولت لتمثال حزين بائس، الحركة الوحيدة فيه هي الدموع اللي بتسيل.....
-هي
=نعم؟
-هي، سلسبيل، هي!
بعدها ضحكت، عياطها كان ممزوج بضحك.... سألتها:
=حضرتك متأكده؟ دي مجرد صورة ومش واضحة كمان
-دي بنتي، هي بنتي، أقدر أعرفها من مجرد صورة حتى لو مش واضحة.
طلبت مني أتواصل مع البنت اللي نشرت الpost عشان اتأكد من المكان اللي لقتها فيه...
بعتلها...ردت عليا علطول، وصفتلي كل حاجة وأكدت أنها حاسه أن البنت مخطوفة وأنها مش هتزهق، برغم كمية الرسايل اللي اتبعتت ، ما بين ناس فقدوا فعلًا طفلة وبيتشعلقوا باي أمل وناس بتهزر وبتعاكس...
......................
من ساعة ما شفت صورتها والهلاوس رجعت تاني، بقت اشوفها بتمشي قدامي، زي آخر مرة، بشعرها الدهبي وابتسامتها وتحمسها وهي ماشية كأنها بتستكشف العالم لأول مرة، متعرفش المخاطر اللي فيه ولا الوحوش اللي ساكناه....
"سلسبيل" كانت بتستجيب لأي حد يشاغلها ، تضحك وتتكلم مع أي غريب، كانت إجتماعية وبتحب الناس أوي، كنت بشوف باباها ومامتها مبسوطين بده وبيشجعوها كمان، معجبين بخفة دمها وجمالها الملفت، والحقيقة مفيش حد فينا كان شايف مشكلة ف كده أو حاسس بتهديد.... محدش كان بينبههم عشان مش شايفين غلط، ويمكن ده يفسر أن سلسبيل مصرختش، مستنجدتش بحد، لأنها مكنتش أصلًا حاسه بخطر، وثقت في اللي خطفها، كانت فاكراه زي أهلها أو واحد من جيرانها....
..........................
كلنا اتحركنا، أنا روحت مع الست صاحبة الpost وظباط تبع قرايب أهل سلسبيل للموقع، عشان لو ملقيناش البنت نفسها وظهر أي حد كان بيتسول معاها من الأطفال أو المسؤولة عنهم يمسكوهم ويدلونا لمكان البنت...
كان ممكن أنسحب، دوري يخلص لحد هنا، محدش هيعاتبني أو يلاحظ غيابي ، بس الهلاوس والكوابيس مكنتش هتختفي، هتفضل ملازماني كأنها جزء من كياني وأنا مبقتش قادر استحملها، الحمل كبير عليا.....
كنا كذه عربية، كلنا واقفين مستنيين.... أول مرة أخد بالي، أول مرة أركز في السرحانين، الناس الهايمة دي، اللي بتقف عند كل شباك وكل حد واقف ومعدي، هما كتير كده؟ طول الوقت بالعدد ده ولا كتروا؟ هو التسول بقى وظيفة بدوام كامل؟ تحركاتهم وتقسيمهم كأنهم شركة أو عمال في موقع حد بيديرهم، في اللي متمكن من وظيفته واللي مقهور كأنه تايه من بيته ومعندوش أمل يلاقي السكة بتاعته..
فاتت ساعة واتنين وتلاتة ولو فات العمر كله كنت هستنى، لو وقفت الحياة هنا مش هكملها، هفضل محلك سر، بسلسبيل هحيا أو مش هستحق الحياة، دين عليا ولازم أوفيه....
وأخيرًا ظهرت....
"ضحى" صاحبة البوست صرخت وهي بتشاور...
-أهه، هي.... هي دي!
كأنها مركبة رادار.... الشحاتة الكبيرة حست أن في عيون بتراقبهم، بسرعة رهيبة اتحركت، بقت تزعق في الأطفال اللي معاها عشان يتحركوا، مسكت في إيديها كام واحد وجريت بيهم.... لكن البنت، اتأخرت عنهم قاصده، مجريتش....
نزلت من غير ما اقفل العربية و"ضحى" نزلت معايا.....
جريت من غير ما ابص عالعربيات اللي جايه عليا، كل همي أوصل لها....
سبقتهم كلهم، سبقت "ضحى" والشرطة، لفيت دراعي الاتنين عليها وشلتها....
كأني بنقذها من هجوم ، من حد جي يخطفها، وهي مقاومتش، مستنجدتش ولا وجهت ليا أي كلام، متخضتش أصلًا، كنت حاسس أني شايل تمثال بارد، مش فارق معاه يتشال ويتحط في أي مكان، عشان ملوش إرادة ولا رغبة.....
لما بصيت لوشها.... الوش الباهت الأصفر ببقعه البيضا والشعر المنتف الهايش الخفيف.... هو ده برغم التحول، هو ده وشها، هي سلسبيل!
مكنتش محتاج نتيجة تحقيقات أو DNA أو إستجواب للست اللي مسكوها والأطفال التانيين، عرفت من أول ما عيني وقعت عليها....
..........................
"جنات" و"حليم" دخلوا القسم من غير ما يبصوا أو يوجهوا الكلام لحد.... إندفعوا ناحيتها....
الأم فقدت توازنها أول ما قربت بس رجعت وقفت نفسها، مدت إيديها اللي بتترعش ومسحت التراب اللي على وش سلسبيل وأخيرًا قدرت تتكلم:
- عارفاني؟
عيون سلسبيل إتحركت، فضلت تراقبها شوية وبعدين قالت ببرود:
-جنات!
مقالتش "ماما" وجنات فهمت بالظبط ليه سلسبيل مبقتش فاهمة صفتها، مش مستوعبة يعني إيه أم، بقى عندها قناعة أن كلنا في الدنيا لوحدنا، بنيجي ونمشي من غير حد يحمينا أو يحن علينا، كلنا لينا أسماء أما الصفات، الأب والأم والأخ والصديق فدي كلها القاب فارغة، هو بس الإسم اللي بيميزنا زي الوسم اللي بيتحفر على ضهر الحيوانات.....
جنات حضنتها جامد، كأنها هتعصرها بين دراعاتها، بكت بحرقة، أما سلسبيل فمنزلتش أي دموع، كأن أمها زيها زي أي حد غريب، أو كأنها مش مصدقة أن ده بيحصل فعلًا ، لسه ملقتش أهلها، لساها تايهة عن سكة بيتها...
..........................
أختها "أمان" كانت مستنياهم في البيت، عرفت أنهم لاقوها.... الزمن وقف، كل حاجة تانية في دنيتها مبقتش مهمة، أختها الصغيرة وبس، أختها اللي ضاعت منها في غفلة واللي هتكرس نفسها عشان تعوضها عن كل اللي شفته....
اللي عرفته أن رد فعل سلسبيل لما شافتها مكانش مختلف عن رد فعلها لما شافت أمها، نفس الجفا والسكوت برغم أن "أمان" انهارت وفضلت ماسكاها كتير....
كل اللي سلسبيل عملته إنها هزت راسها لما "أمان " سألتها إذا كانت تعرفها.... تعرفها بس إحساسها بيها غريب، كأنها ذكرى أو طيف... بس في حاجة خلت سلسبيل تعلق.... رفعت راسها، بصت حواليها وقالت:
-مش ده المكان.
ردت أمان:
-فعلا احنا اتنقلنا من مدينة نصر للتجمع، ده بيتنا الجديد.
وبس... معلقتش بعدها....
ودوها الأوضة بتاعتها، كانوا عاملين حسابها، موضبين اوضة لسلسبيل، رجعت أو مرجعتش.....
استنوا يشوفوا فرحتها لما تشوف أوضتها الجديدة، الأوضة الواسعة الفخمة مقارنة بالأوضة في الشقة القديمة... بس هي متكلمتش، ملامحها متحركتش، بالعكس اللي كان في عينيها رهبة وإحساس بالغربة...
"جنات" قالت بتحمس:
-انا عملت ليكي أوضة دي من ساعة ما جينا، محدش دخلها غير للتنضيف، كانت هتفضل بتاعتك حتى لو...
مكملتش باقي الجملة.... قالت لسلسبيل بعدها إنها لازم تحميها وتلبسها لبس مختلف....وسلسبيل مشيت وراها من غير ما ترد، وظيفتها دايمًا إنها تسمع الكلام من غير ما تعلق.....
اللي شافته "جنات" على ضهر بنتها خلاها توقف كلامها، بعد ما كانت مش مبطلة كلام، كدمات وحروق في كل مكان، جلدها كله عبارة عن بقع، لونها بين الأزرق والأحمر والبني المحروق، ده غير الخرابيش والجروح المحفورة.... لفت إيديها حوالين رقبتها بهدوء وانهارت في العياط....
"سلسبيل" فضلت باصة قدامها، نظرتها جامدة ثابتها في اتجاه واحد، شوية دموع اتجمعوا في عينيها بس منزلوش....
..........................
"جنات" دخلت عليها الأوضة الصبح بدري بس ملقتهاش عالسرير! لمحتها على الأرض ، كانت نايمة وهي وخده وضعية الجنين.... مكانتش قادرة تستوعب ليه عملت كده، ليه سابت السرير والدفا ونامت عالأرض الباردة...
مدت إيديها ولمستها في هدوء... مع أول لمسة سلسبيل فتحت عنيها على آخرها، زي ما تكون مكانتش نايمة من الأساس، سألتها لو مكانتش نامت أو مثلًا شافت كوابيس... بس هي نفت ده.... اللي جنات مكنتش تعرفه أن سلسبيل اتعودت دايمًا تكون صاحية، مستعدة لأي استدعاء من "صباح" الست اللي ربتها وكانت بتسرح بيها مع باقي الأطفال، وأوقات كتير كانت بتطلقهم في الشوارع من غيرها، اللي كان بيخلي سلسبيل ترجع لها أنها هي الأم اللي عرفتها واتعودت عليها، من غيرها هتموت من الجوع والبرد وأي خطر في الشوارع، مع إنها كانت أكبر خطر وسببتلهم أكبر أذية، لكن إحساسها هي والباقي إنها دايمًا بتراقبهم حتى وهي مش موجودة معاهم وأنها هتعاقبهم وتأذيهم أكتر لو مرجعوش خلاهم ميفكروش يهربوا وهيهربوا يعني فين ، هو في حد منهم كان عارف بيته منين أو بيت أي حد يعرفه.....
وبعدين كفاية إنها أكلتهم في آخر اليوم حتى لو ضربتهم، كسرت أطرافهم ورجلهم وسببتلهم عاهات، المهم أن في حاجة بتدخل بطنهم آخر اليوم وأنهم لسه عايشين عشان في غيرهم مكانش بيرجع ، محدش اتجرأ وسأل عن أي طفل اختفى، جواهم كانوا عارفين مصيره واللي حصل له....
سلسبيل مكنتش صادقة للآخر مع أمها، هي مكانش قصدها تكدب بس مكانتش قادرة تعبر، فعلًا شافت أحلام، زي مشاهد صامتة عدت قدامها، منهم لما كانت بتنام على الأرض، الزبالة محاوطاها من كل جهة، ليالي وليالي باتت في الشارع عقاب ليها عشان اشترت بشوية فلوس معاها حلويات بدل ما تدي الفلوس كلها لصباح، الغريبة إنها كانت اتعودت وحست براحة هناك وسط أكوام الزبالة، ريحتها مبقتش تزعجها، حتى القطط والكلاب الميتة مبقتش تفزعها، بقت تنام زي الطفل اللي مرتاح، معندوش أي مسؤولية أو هموم.... بالنسبة لها السرير الجديد القطن والأوضة الواسعة والروايح الحلوة هي اللي غريبة وتخوف.... عشان كده نامت عالأرض، حست إنها أقرب ليها ، للشخص اللي بقت عليه....
..........................
كانت لسه الساعة مجتش 9 الصبح، عارف أن الوقت مش مناسب عشان أروح، بس كان لازم أشوفها، بمزاجي أو غصب عني سلسبيل بقت جزء من حياتي وكياني زي ما هي جزء من حياتهم.... خبطت عليهم وأنا حاسس بحرج، صباعي مكانش ثابت عالجرس....
رحبوا بيا جدًا، اتفاجئت من استقبالهم بس فهمت أني زي ما أكون عازل ما بين سلك كهربا مكشوف وميه، وجودي فرق.... مكانوش لسه عارفين يتعاملوا مع سلسبيل والغريب إني شفت ملامحها بتتحرك لما لمحتني، كأنها، كأنها عايزه تبتسم، فاكراني!
لسبب ما أنا كنت أكتر واحد حاسه بالأمان في وجوده، يمكن عشان العنصر الوحيد الثابت، يعني أنا بمثل لها الحي والبيت القديم قبل التغيير الرهيب ده، أنا الماضي المريح ، دفا الأركان القديمة والوشوش اللي حبتها....
وجنات مصدقت... قالتلها بتحمس مستغلة وجودي:
-النهارده عندنا open day ف بيت واحدة صاحبتي هتتبسطي أوي، هنوديكي تعملي شعرك ونلبسك فستان يليق بالجمال ده واخدك انتي و"أمان" على هناك، نوصل أول ناس عشان هشتريلك كل الحاجات المعروضة، هدوم وإكسسوارات وفضة وأي حاجة عايزاها إيه رأيك؟
الابتسامة بقت واضحة اكتر على وشها، هي مكنتش فاهمة اللي جنات قالته، بس لمست مجهودها عشان ترضيها ، كمان لما عرفت أني هكون معاهم......
فعلًا كانت جميلة جدًا بعد ما ظبطولها شعرها ولبسوها الفستان، بس كانت عاملة زي الشمعة المبهرة المطفية.
لسه مكانتش راضية تاكل ولا اتجاوبت مع أي حد ولا معايا، يمكن استقبال أصحاب مامتها خلاها مش مرتاحة، كل الأصوات العالية، عياطهم وضحكهم وصريخهم، كانت عايزه المشهد يبقى صامت....
ماخرجتش من صمتها إلا في الطريق للبيت.... قالت:
-عايزه شيبسي!
أخيرًا قررت تاكل أي حاجة، هي كانت متعودة عليه، بالنسبة لها ده كان أرقى واغلى أكل، ده كان مكافآتها لو جمعت فلوس حلوة ورضيت عنها "صباح"....
..........................
بدل ما يحاولوا يفهموها، يستوعبوا رعبها وحيرتها من الحياة الجديدة ورغبتها في الهدوء، بقوا يجروها للزحمة والاصوات العالية، التجمعات والاحتفالات.... "أمان" أخدتها لعيد ميلاد صديقة ليها، العدد كان كبير، يعني فضول مضاعف، الفضول في عيون الناس الموجودة، قدرت تميز ان عندهم أسئلة كتير، عايزين يعرفوا حصلها إيه وكانت عايشه إزاي، ابتساماتهم مخففتش من توترها، وشوشهم كانت غريبة عليها، لبسهم، طريقة كلامهم، سنانهم اللي بتلمع، كأنهم جايين من وطن مختلف، بعيد، بعيد عنها، في وطنها هي الوشوش كانت متوسخة ، الملاح باهتة، الأسنان مكسرة، والضحك كان ممزوج دايمًا ببكا.....
وبعدين جه القالب العجيب، اللي مليان ألوان ورسومات، شكله كان مبهج وريحته اثارت شهيتها، الناس بقت تغني أغنية غريبة بلغة مش مفهومة بالنسبة لها، أغنية عيد الميلاد، أما هي فمدت إيدها وغمستها جوه قالب التورتة عشان تاكل....
الغنى وقف، والعيون اتوجهت ليها، محدش علق، مكنش عندهم حاجة يقولوها، وقفوا عاجزين قدامها ، أما "امان" فجرتها للحمام وغسلت إيديها وحاولت تمسح بقايا التورتة من هدومها....
ساعتها سلسبيل مكنتش شايفه ان في مشكلة، متعرفش ليه الناس استغربت، ليه بطلوا غنى وبصلوها بالشكل ده، كل اللي عملته أنها أكلت الحاجة المسكرة اللي قدامها، هي اتعودت تاكل بالطريقة دي، يمكن مكانش المفروض تاكل، التورته بتاعتهم هما، وهي مش مسموح لها تاكل منها؟ وهتتعاقب بسبب اللي عملته؟
..........................
يا ترى إيه هيكون عقابها؟ هو ده كل اللي سلسبيل كانت بتفكر فيه، خصوصًا إنهم سابوها لوحدها في الأوضة لحد بليل، أكيد بيشوفوا هيأدبوها إزاي....
أخيرًا "أمان" دخلتلها، كانت حاسه بالخجل من نفسها، كل مرة، كل مرة بتخذل أختها الصغيرة، كل مرة بتغلط، ضيعتها زمان ودلوقتي مش عارفه تحتويها...
-انا هنا عشان أجاوبك على أي حاجة عايزه تعرفيها، أي حاجة تخطر ببالك..
"سلسبيل" مكانتش مصدقة، يعني اختها مش جايه تعاقبها؟!
المرة دي الابتسامة نورت وشها، خلتها شبه سلسبيل الصغيرة، بتاعة زمان قبل ما تتطفي...
-انتي أكبر مني بقد ايه؟
-اربع سنين.
-انا عندي كام سنة؟
-15.
-ياااه، أنا كبيرة أوي، دانا كده قربت من صباح!
ابتسامة "أمان" ضاقت....سألت سلسبيل:
-سلسبيل، ايه اللي في دماغك، شايفانا إزاي؟
-زيكوا زي غيركوا، ميهمكوش، عايشين حياتكم لنفسكم، كل حاجة بتعملوها مش مهمة، العيال بتتخطف لسه وبتجوع وبتبات في الشارع وتشحت وتتعذب وتتقتل وتتهان وانتوا بتروحوا حتت تمبسطوا فيها وبتجيبوا حاجات كبيرة وكتيرة ، ممكن لو اتوزعت على العيال اللي بايته عند صباح كانوا يتكسوا ويشبعوا أيام كتير......
هي كانت متوقعة جزء من الإجابة عشان كده سألتها بس متوقعتش كل ده، قدامها كان بركان خامد وبدأ ينفجر...
..........................
سلسبيل سمعت كلام جنات مع صديقة ليها وهي في زيارة ليهم، قالوا أن اليوم ده كان مولد السيدة زينب... المولد ده كان بالنسبة لها عيد، راحت مع أصحابها كذه مرة، المفروض كانوا يشحتوا ويسرقوا الناس اللي فيه بس هما سرحوا، طلعوا عالمراجيح وجريوا ولعبوا واشتروا حلويات....كانت عايزه ترجع، ترجع هناك، للوشوش اللي ضحكت معاها، للحظات اتخطفت من الزمن، عشان كده الفرحة اللي عاشتها معاهم كانت غالية أوي.... وفعلًا انتهزت فرصة انشغال أمها مع الصديقة واتسللت...
"جنات" لاحظت غيابها بعد وقت، فجأة ارتبكت وفضلت تبص حواليها كأنها فقدت حاجة.. بعدين قالت :
-هي فين سلسبيل؟
-تلاقيها هنا ولا هنا متقلقيش..
إحتفظت بابتسامتها وهي بتنادي :
-سلسبيل..سلسبيل..
بعدين بدأت الابتسامة تبهت وتختفي، وشها مبقاش مرخي.... فضلت تنادي عليها، صوتها بيعلى في كل مرة بتنادي وسلسبيل مش بتستجيب لحد ما اتحول صريخ ، وسلسبيل برده مش بترد.....
مكانتش تايهة المرة دي ولا خايفة ولا حزينة، بالعكس، لأول مرة من كتير كانت فرحانة بجد، طلعت عالمرجيحة ، طارت بيها كأنها وسط السحاب، حست أن روحها بقت حرة، ضحكت... ضحكت بأعلى صوت، يمكن منتمتش لحياة التسول والسرقة والإجرام بس برده مكنتش حاسه إنها بتنتمي للبيت اللي أهلها عايشين فيه، ولا الناس اللي يعرفوهم، كانت ضايعة وسط العوالم والوشوش، ملهاش مكان، المولد هو المكان الوحيد اللي حست بالانتماء ليه....
اشترت غزل البنات وبعدين خبطت في أطفال، كانت شبههم مش من فترة بعيدة، نفس الكسرة والنظرة الحزينة والشحوب والجسم الناشف المعضم... أديتهم كل اللي معاها، الفلوس والحلويات، حضنتهم وضحكت معاهم، حست إنها أمهم برغم سنها الصغير، وأنها لازم تبني فوقيهم سقف وتحاوطهم بحيطان تحميهم وتضل عليهم، حيطان مختلفة عن حيطان صباح، حيطان دافية حنونة، يخرجوا منها مستعدين يبنوا حيطان تانية لأطفال تانية....
رجعت للبيت، اتحملت العتاب والتهزيق، مكانتش زعلانة، بالعكس، استقبلت كل ده بضحكة، عشان جواها كانت عرفت... عرفت الهدف بتاعها، السكة اللي هتمشيها، شافت قدامها بيت كبير بيجمعها بأولاد كتير، ولاد ملامحهم مختلفة وروحهم واحدة، الأولاد اللي اتنسوا عالرصيف، وشافتني بساعدها.... سلسبيل مرجعتش أبدًا، النسخة اللي رجعت كانت مختلفة عن اللي اتخطفت زمان، واللي عمرها ما كانت هتبقى عليها لولا غيابها واللي حصل لها، وأنا كمان.... الولد اللي سابها تمشي وتختفي، أنا كمان مكنتش هفوق وأبص للعالم على حقيقته وأسعى أعمل تغيير لو مكنتش غلطت الغلطة دي...
"تمت"