(كلما ازدادت معانتنا واشتد علينا الألم كلما نضجت أرواحنا، تمامًا كالذهب يُصقل بالنار شأن كل نفيس).
الحلقـــــــــــــة الأولـــــــــــــــــــى :)
خمس سنوات مرت أمامي على زواجً كنت أحسبه ناجحًأ إلى حد بعيد، سنواتُ تركت شرخًا بالقلب وظمأً إلى احتواء لا سبيل إلى اروائه، لم أحب زوجي قبل الزواج على طريقة الأفلام وتبادل الهوى وافتتان الغرام وتعدد اللقاءات ووهج الكلام، أبدًا لم يكن حالنا كذلك، ربما يرى البعض زواجنا مرتب تقليديًأ تم خلال فترة وجيزة، لكني لا أحسبه كذلك، كان أمر ارتباطنا يحمل طابعًأ خاصًا مختلفًا يشبهنا إلى حد بعيد، فقد رآني "حازم السعدني" مصادفًة في حفلة زفاف إحدى الصديقات، وكان هو أيضًا من أصدقاء العريس، لم نتحدث بالكلمات، ولكن عيوننا تحدثت بما هو أقوى من أي كلام، أخبرني فيما بعد أنه رآني عصفورة رقيقة حالمة وقفت على أحد الأغصان لالتقاط الأنفاس قبل أن تكمل المسيرة محلقة هناك بعيدة في سماء عالية، مرتفعة عن كل متدن، عيناها عميقتان قريبتان حانيتان تعلوهما وداعة ودعة، وكأن أنفاسي كانت قريبة منه يسمعها هو وحده كهمسٍ يملؤه الكبرياء، تمنى لو توقف الزمن عندي وعنده، عند لحظة لقاء، عشقني قبل أن يعرفني، فتش داخل نفسه عن سر افتتانه بي فلم يعرف، لم يحتاج إلى وقت طويل ليدرك أنه لن يكون قادرًا إلا بجواري ومعي، في قربي سيعرف الحياة بلون جديد، بعد أيامٍ قليلة من ذلك العرس، فوجئت بصديقتي العروس فور عودتها من اسبوع العسل تتصل بي وتطلب تحديد موعد ليتقدم لي زوجي الذي أعجب بي في حفل زفافها.
أربكني الأمر كثيرًا وعلى الرغم من هذا الارتباك وجدتني أرحب به وأقبل حضوره إلى منزلي، رتبتُ له موعدًا مع والدي رغم تحفظي بعض الشئ على تلك المباشرة، أردتُ أن أتعرف إلى شخصه، عقله، ثقافته قبل أن أقدمه إلى والدي، لكن رغبةً جارفة إلى حياة سعيدة هنائة توعدني بها نظرات عينيه التي انطلقت سهامها نحوي في حفل الزفاف جعلتني أقبل حضوره إلى منزلنا، فقد التصقت عيناه بي طوال الفرح وكأنه لا يرى غيري رغم احتشاد المدعوين في العرس حين تجمع الشباب ورواد الحفل حول العروسين في دائرة وتشارك الجميع الغناء وانخرط بعضهم في استعراض مهاراتهم الراقصة كان هو يقف بعيدًأ مبتعدًا عن كل صخب منفردًا بنفسه على طاولة يراقبني منها بنظرة مليئة بالشغف كنظرة حالم إلى حلم انتظره طويلًا وها هو يصبح أخيرًا واقعًا ملموسًا أمام عينيه، حاولتُ المراوغة والهروب من نظراته إلا أن ذاك الشغف المغلف بالإصرار كان أقوى من كل ردود أفعالي وجدتُ مقاومتي لنظراته تنهار وقبلت أن أكون محط أنظاره بل تمنيتُ أن لا ينتهي الحفل دون أن يحدثني ذاك الغامض لأفك شفرة غموضه، تمنيتُ لو ظل في محله طوال الحفل يراقبني ويبتسم، يبدو أن عالمي قبله لم يكن مكتملًا!
حضر عريسي ومعه والديه، كان يكبرني بخمس سنوات، طيار في إحدى الشركات الخاصة، من عائلة محترمة مثقفة متذوقة للفنون، مشهودٌ لها بحسن السمعة واستقامة الحال، والده الأستاذ " رفعت السعدني"، وكيل وزارة سابق، هادئ محبوب من الجميع، طيب الذكر، يدعو له من حوله بطول العمر نظرًا لما يقدمه للأهل والجيران من عونٍ ومساعدة قدر الاستطاعة، والدته السيدة "نوال هاشم"، مربية الأجيال الوقورة المحترمة، التي استقالت بإرادتها الحرة من منصبها كمديرة لأحد أكبر مدارس التعليم الثانوي لتتفرغ لمساعدة زوجها العزيز، رفيق العمر، في إدارة دار للأيتام قد أسساها سويًا بمكافأة نهاية الخدمة الخاصة بهما لتظل تلك الدار عملًا صالحًا يشفع لها إذا ما قابلا وجه الكريم، انشغلا تمامًا بالدار وشغلهما تنظيم أموره عن صراعات الحياة وقسوة الشيخوخة وألم الانزواء.
أما "حازم" فقد كانت ظروفه المادية أكثر من ممتازة مقارنة بمن هم في مثل عمره، يملك مبلغًا مدخرًا سيجهز به عش الزوجية على خير وجه وفي وقت قصير، تمت الخطة سريعًا، خلال تلك الأشهر أحببته وتغلغل داخلي وتشبعت به خلاياي وكأني كنت أنتظره منذ سنوات، وكلما التقينا أجده كريمًا عطوفًا مثقفًا، لم أكن أناقشه كثيرًا في تفاصيل عش الزوجية أو حفل الزفاف نظرًا لثقتي التامة واللانهائية في ذوقه واختياراته، ولأني أنا أيضًا انشغلت تمامًا بتجهيز احتياجاتي كعروس في أقصر وقت ممكن نزولًا على رغبة خطيبي، فكلانا قد ارتضى الآخر ورغب به شريكًا دون غيره، تكتمل به دائرة حياته وقد آن الآوان للدائرتين أن تتداخلا وتتقاطعا بل وتتوحدا.
بدت لي الحياة دافئة لينة يسيرة وأحسست بانسكاب روحه في روحي بانسجام، سار حفل الزفاف وتفاصيل شهر العسل كما خطط حازم تمامًا، كان حفلًا أنيقًا متناغمًا جدا رغم بساطته، سافرت معه لأول مرة خارج البلاد، كنت مقتونة ومبهورة به وبحديثه ولباقته، عرفته مرتبًا ومنظمًا للغاية، أحببته أكثر وتعهدت أمام الله أن أكون له نعم الزوجة، عدنا إلى أرض الوطن تغمرنا سعادة وانصرف كل منا إلى عمله، كنت أتصل به مرارًا آثناء اليوم فقط لأسمع صوته، بينما كان هو يتصل بي كلما سمحت ظروف عمله، قررنا معًا تأجيل الانجاب لفترة حتى نستمتع بحياتنا دون مسئولية أطفال وحتى أُنهي دبلوما خاصة بمجال دراستي كنت قد التحقت بها قبل معرفتي به.
كان القرار مشتركًا وعن اقتناع، ولكن آثناء سفر زوجي إلى أحدى الدول اكتشفت أني أحمل جنينًا، للوهلة الأولى سعدت بل طرتُ من السعادة، ها أنا ذا أحمل قطعة من حبيبي في أحشائي، قررت ابلاغه بالخبر السعيد فور وصوله إلى أحضاني، عاد حازم سالمًا وكنا في لحظة رومانسية فأخبرته بما أحمل، أخبرته أن جنينًا منه ينام الآن بين ضلوعي، فإذا به ينتفض من مكانه، يترك حضني، يخرج إلى الشرفة يعانق فمه سيجارة؛ فخرجت خلفه استطلع الأمر.
بعد محاولات ليست هينة أمهكني القلق خلالها أخبرني أنه لا يريد هذا الطفل، ليس الآن!
شرع يذكرني بما اتفقنا عليه، ويطالبني باحترام ما تعاهدنا عليه، أخبرني أنه غير مستعد لتحمل مشقة آبناء يأتون على غير إرادته، أنه يريد الاستمتاع بحياته وبي، يريدني بتفرغي الكامل له، فمازالت آمالنا في الحياة طويلة، فلما العجلـــة؟! يكفيه ما يعانيه من آثار جانبية لعملي ولدراستي، ثم إنه لا يحب أبدًا تغيير الخطط الموضوعة مسبقًا؛ لقد أعطاني مهلة أسبوعًا للتخلص من الجنين، أخبرني بحزم كإسمه تمامًا بأنه سيسافر أسبوعًا حتى يترك لي حرية اتخاذ القرار وتحمل تباعات تغييري للخطة، قال ما قال ثم حمل حقيبته وانسحب بهدوء!
كانت صدمة سحيقة بالنسبة لي، لم أتوقع أن يكون هذا رد فعله، أعلم أن القرار كان مشتركًا وأنه لم يجبرني عليه ولكن الحمل حدث رغمًا عني، فأنا لم أخطط له أبدًا ولم أسع إليه، لقد شلت الصدمة تفكيري لأيام كنت خلالها متقوقعة على نفسي، أسكن سريري لا أقوى على الحركة، لا تجف دموعي ليل نهار، لم أتوقف عن الاتصال بحازم لكنه أبدًا لم يـــرد.
فكرت في ترك بيت الزوجية كصرخة احتجاج اطلقها نحو حبيبي عله يعود ليسترضيني، فكرت في العودة لوالداي أخبرهما بما أحمل، لكني عدلت عن الفكرة خشية أن تتسع هوة الخلاف بيني وبين حبيبي وحتى لا أحمل والداي أعبائي وأشغلهما معي بمعاناتي... قررت أنتحدث مع طنط "نوال"، إنها أم وستفهم قطعًا ما يجول بخاطري، ربما استطاعت التأثير على ابنها، وقد كان.
كم كانت فرحتها بالغة عميقة حين عرفت أمر حفيدٍ أحمله تتمنى جدا أن تراه، ولكن العجيب أنها لم تستغرب موقف حازم أو حتى تعلق عليه، وعدتني أنها ستتحدث معه بهدوء لتمتص غضبه؛ فعاد لي الأمل من جديد في استعادة زوجي والاحتفاظ بجنيني.
فيا تــــرى هل ستبتســــم الحيـــــاة لـــــي أم أنها عصيـــــة متمردة؟!
إلى اللقــاء في الحلقــــة القادمــــة.