آخر الموثقات

  • مغامرات كاتبة -2
  • مغامرات كاتبة -1
  • وجه السعد..
  • تركتني لظنيني..
  • الجانب الخفي من حياة أمير الشعراء أحمد شوقي
  • القلاع والحصون الإسلامية في سيناء
  • كيف تبدلت القلوب
  • وعيناك
  • يا كايدهم ….كلنا وراك
  • مصر لحمها مررر
  • إدراك الحكمة
  • قدوة في صمودك
  • الأوجاع الصامتة
  • بونبونايه بدون الكتاب
  • ظاهرة القبلات بين الرجال و النساء!
  • أمي القوية
  • ذكرينــي
  • شكرا لسيدنا يوسف
  • المهر كان غالي 
  • نختلف، ولا نحتد
  1. الرئيسية
  2. مركز التـدوين و التوثيـق ✔
  3. المدونات الموثقة
  4. مدونة سلوى بدران
  5. نفق بعيد في الذاكرة

1- رجل:

   ألقت على الجسد الهائل الذي يشاركها فراشها نظرة جانبية سريعة، وجسدها يلفظ الغطاء في سرعة وخفة. اعتادت على صوت تنفسه، الذي شاركها ستة عشر عامًا بلياليها،

لكنها لم تلتفت بمثل هذه القوة من قبل لتلك الحرب التي يشنها مع هواء الغرفة. كان الصوت كأنَّما يخرج من أعماقٍ بعيدة؛ يتقطع ويتوه في مسالكَ متشعبة، ثم ينطلق، يصارع الهواء بأصوات متعددة الإيقاع، حتى ملامحه التي ألفتها لسنين طويلةٍ .ونظرة الدفء من عينيه، التي كانت تتلاقي والشوق في عينيها، تبدلت تدريجيًّا، حين انطفات النظرة وغارت العينان، داخل الهالات السوداء.

   صار بحر عينيه هائجًا، وصارت نظرات عينيها تتوه كلما التقت بعينيه، فلم يعد لها به مرفأ، كانت تتكيء عليه يومًا، حين يغلبها اليأس والوحدة. برفق، فتحت باب الغرفة، فداعب وجهها الهواء الطازج؛ فانتعشت، وهي تغلق عليه الباب من جديد، حتى لايفيق. تركته يتصارع مع هواء الغرفة المغلقة وخرجت.

2- ابن:

   حين استدار ابنها إليها ليحييها بعد أنْ دلف من البوابة لداخل المدرسة، شعرت أنَّ قطعة من قلبها ترفرف بعنف، وتهفو إليه، وحين تطلعت لذلك الزغب، الذي يتناثر أسفل أنفه، غمرتها فرحة من نوع جديد، فرحة اقتراب لحلم يكتمل؛حلم كانت تتقاسمه مع أبيه، كما كانا يتقاسمان كشكول المحاضرات وسندوتشات الفول والطعمية، ويملآن قاعات المحاضرات بأحلام المستقبل المتوهجة. يحلمان بأن يحققا ما لم يحققه أحد، وأن يضربا الأرض بشبابهما، وآمالهما فينشأ البيت، ويأتي الولد، ويعيشان رغدًا لاينقطع، وحين أمعنت النظر في نظرات عيني ولدها، التي تمردت على عالمها الطفولي. رأت نهرًا من الأحلام، كان يسكن منذ زمن بعيني فتاة، كانت تبحث عن حلم جميل تحققه بيديها، ممتزجًا بإشراقة شمس، كانت تبزغ من عيني شاب، كان يقسم لها أن يطوع النهر،ويحقق لها الأحلام.

3 - بيت:

   ارتعش قلبها، وهي تفكر في ذلك الصبي، الذي تركته بداخل المدرسة، وهي تنكمش فوق المقعد الوحيد الذي وجدته خاليًا داخل الميكروباص، قبل أنْ يصارع الأسفلت، الذي تبعثرت فوقه أشعة الشمس الوليدة،ذلك الذي لم تعطِها الدنيا سواه، ولم تستطع هي أن تأتي للدنيا بغيره .كثيرًا ما تحكي له عن ذكريات الجامعة مع أبيه. تحاول أن تلحمه بزمن لم يعشه معهما، تخشى أن ينهزم الحلم في عينيه، وهو يرى أباه يغلق عالمه على حلم مَهِيض الجناحين، وهو الذي صارع الدنيا لسنين طوال، ولم يغنمْ منها سوى ذلك البيت القديم بالحي الشعبي، الذي يعيشون فيه، ولم يجد لولده مكانًا ليتعلم فيه، سوى مقعد بمدرسته تلك الحكومية، ويرى أمه، تتحايل على قسوة الحياة، بعمل الجمعيات مع زميلاتها في العمل، حين تلقي بالقليل من مرتبها في يدهن أول كل شهر؛ لتجمعنه لشهور طويلة، ويلقون به كل شهر مجمعًا، ليد إحداهن، ليكون نصيبها دائمًا أول المجموعة، حتى تستطيع أن تفي بطلباته، ودروسه الإضافية. تحاول أن تريه ملامح أبيه الحقيقية، وقت كان الحلم لا يزال يشاغله، ولا يستكين للمد، وعيناه على نهاية الطريق الطويل، يكاد يراه رؤيا العين، وكأنما هو على قمة جبل عالٍ، يتشبث بصخوره القوية، ولا يبالي بآلام جسده وعنقه. يتمنى أن يرتاح أخيرًا فوق كرسي الوزارة في المصلحة الحكومية، التي كان يعمل بها ليل نهار، ولا يكل، وحين أثقلته واجبات بناء بيت يجمعهما، بعد سنين انتظار، دفعته هي بفرح طفولي، وساندته كأم تعلم ابنها أول الخطوات. لم يقلقها وقتها قط، كونه بيتًا صغيرًا، بحي شعبي، بقدر ما أسعدها أن تلتحم أخيرًا بدائرة حياته، وأن ترى أول الأحلام يقف على قدمين، يتحول لوطن صغير، وسقف يجمعها برجل عمرها، ويخرج الحلم من رحمها للدنيا،ابن يجمعهما معًا، قبل أن تظهر أولى علامات المشيب.

4- كيان:

حين ألقت بنفسها على مكتبها الخشبي، في المبني الحكومي، الذي شكلت بخيالها لسنوات طويلة، عالمًا سحريًّا خاصًا بها، على طلاء حوائطه المتأكل، وزجاج نوافذه المغبر، شعرت أنَّ أنفاسها، وحالاتها النفسية المتقلبة، ما بين تلبد، وصحو، وفرح، وحزن، التي طالما بثتها للمكان، على امتداد السنين الماضية، كأنما ارتدت إليها، في موجات من الحنين، والألفة التي تغمر قلبها للمكان، بتفصيلاته الصغيرة، وحوائطه، وملفاته الصفراء المكدسة على الأرفف. تشعر بألفة مع رائحة الزمن، التي تنبعث منه، ممتزجة برائحة الغبار . أصبح المكان مع الوقت، جزءًا أصيلًا من حياتها، لا تستطيع الاستغناء عنه، يحقق لها نوعًا من الرضا، الذي تستند إليه في مواجهة الحياة. تنساب إلى أذنيها نفس المناقشات الحادة، التي تلوكها زميلاتها بالمكتب منذ أيام، حين اكتشفن أنَّ زوج زميلتها (ليلى) تركها وبناتها ليلقي ببقية عمره بين يدي امرأة أخرى، لا تتفوق على امرأته في شيء سوى أنها كانت زوجة لرجل آخر قبله. ينخلع قلبها شفقة على (ليلى)، وهي تفكر كيف لزوجها أن يهدم كونًا أنفق فيه عشر سنوات كاملة، ويهجر زهرات ثلاث لم يسعفهن العمر بعد؛ لكي يتفتحن، وزوجة شاركته جهدًا بجهد، ونفسًا بنفس في لمحة واحدة. تسمع زميلتها (نادية) وهي تتجه إلى (ليلى) تعطيها رقم تليفون أحد المحامين، ممن تعاملت هي معهم من قبل، وهي تضغط على نفس الجرح، ونفس الألم في صدرها. يخرج الألم من أعماقها في تنهيدة حارة وهي تتذكر زوجها الذي تركته نائمًا في البيت أسير عالمه الجديد، منذ أن تخصخصت الشركة الحكومية التي كان يعمل بها، منذ سنوات تخرجه، فمادت الأرض من تحت قدميه، ليجد نفسه، وهو الذي قامر بكل سنين عمره الماضية، وبجهده، وخبرته، وهو يحلم بالكرسي الذي سوف يرتاح عليه أخيرًا، والوقت الذي لن يحتاج فيه لأن يطأطئ رأسه للريح، ويهادن الكبار الذين يملكون مفاتيح اللعبة، حين تصبح كل المفاتيح في يديه. يفيق فيجد نفسه فوق رصيف الحياة من جديد، تتعب قدماه، وقلبه في البحث عن عمل، يناسب رجلًا في منتصف العمر، يحمل في جعبته، خبرات مثله، فتتورم قدماه، ويسكن قلبه الانكسار، والحزن، يألف عالم الإنترنت، الذي بدأه باحثًا عن عمل؛ ليصبح ملاذه الذي يلقي ببقية عمره بين يديه.

  يتعود الدردشة مع الغرباء والغريبات منذ أن يفيق وقت الظهيرة، ليلقي بما يتبقي من عمره في المساء على المقاهي. ينهش قلبها الرعب، لو أدرك ولدها تلك الرائحة التي تنبعث من دخان سجائره في الفترة الأخيرة، وتجعله يبدو مثل الأسد الهائج، حين تلومه.

- ما الذي حدث لك يارجل؟!

  تصرخ لخياله الذي ملأ رأسها في تلك اللحظة، وتشعر وكأنَّما تبدل، فلم يعد هو يعرف نفسه، كما كانت هي تعرفها. تصرخ في وجهه، حين تراه مغيبًا، والدخان الذي ينفثه للهواء يحاصر روحه، ورأسه. تستحثه أن يقوم على قدميه من جديد، فالجنيهات القليلة التي يرميها ليديها، تلك التي يعطونها له أول كل شهر، منذ أن ألقوه هو ومن معه، خارج الحياة، أصبحت عقيمة، لا تكفي لسد فم واحد. يصرخ في وجهها، وتلمح زجاج عينيه غائمًا، وهو يلقي بسؤاله للفراغ.

ــ ماذا تريدينني أن أفعل؟ أتريدين لمن كان يحلم بكرسي الوزارة أن يصير سائق تاكسي؟

5ــ حلم :

  ألقت بالأكياس البلاستيكية السوداء، المملوءة ببعض الخضار، والفاكهة على أرض المطبخ. رمت بنفسها على أول مقعد في حجرة المعيشة، وهي تتحرر من الإيشارب، الذي يغطي رأسها، وتنزع الحذاء عن قدميها، وبعض حبات من العرق ضايقتها، وهموم صغيرة، وأحداث، ووجوه كثيرة رافقتها منذ الصباح. لفت نظرها سكون البيت للحظة، حتى استعادت وجه ابنها في الصباح، فتذكرت درس الرياضيات الذي قال إنَّه سيبدأه من اليوم. ينساب إلى روحها السكون، وينفذ بقوة لرأسها؛ فتستجمع بشدة ذلك المشهد الذي ألح على ذهنها فجأة، في تلك اللحظة، بكل تفاصيله التي كانت تبهجها، والحنين لذلك الزمن، ولأبويها وإخوتها، في تلك المرحلة من حياتهم، يلح عليها بقوة، كأنما تسمع صوت دبيب حذاء أبيها على السلم، في التوقيت نفسه الذي تعود فيه للبيت الآن، فتتسابق وإخوتها في النزول على السلم، يحملون عن أبيها الأكياس الورقية المملوءة بالفاكهة، والروائح تتسلل لأنوفهم، وأصوات صخبهم الطفولي تملأ أذنيها. تكاد تلمس نظرة الحنان الوقورة بعيني أبيها، وهي تعانق نظرات الفرح بعيني أمها، التي تتقن الانتهاء من إعداد الطعام في نفس توقيت عودة أبيها للبيت، وهي التي لم تتعلم الحساب التقليدي، وكأنما بداخلها بوصلة شديدة الحساسية. تقف طويلًا أمام كلمات الاحترام، والترحيب، والرضا التي كانا يتبادلانها، وتكاد تسمع ذلك الصخب المحبب، والكلمات المتداخلة، والفرح، والرضا، والدفء الذي تتلون به نظرات عيونها، وإخوتها لحظة اجتماعهم على مائدة الطعام معًا، ككل يوم. كانت تحاول بقوة أن تستجمع ذلك المشهد، الذي طالما تمنته، وهو يستعصي عليها، وكأنما يأتي من نفق بعيد في الذاكرة.

التعليقات علي الموضوع
لا تعليقات
المتواجدون حالياً

4006 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع