يود الذهاب إلى مطار العاصمة لاستقبال ابنهِ الوحيد العائد من غُربتِه عن وطنه بعد طول غياب، فجلب تذكرته واستقل القطار.

انتظر قليلًا حتى موعد إقلاعه، وبعد دقائق انطلق القطار،

نظر حوله فوجد ازدحامًا شديدًا؛ وعيونًا تملؤها القصص والحكايات. أتاه شابٌ يافعٌ يبحث عن لقمة العيش عارضًا عليه مشروبًا مثلجًا في جوٍّ خانقٍ بالحرارة، وضعه أمامه وذهب ليكمل جولته في باقي العربات.

التقطت عيناه امرأةً طاعنًة في السن، تقف على قدميْها ومجموعة شباب بالقرب منها يتكؤون على مقاعدهم لا يلقون لها بالاً، وقدماها لا تقوى على حملها. أحد هؤلاء الشباب صوته عالٍ أحدث ضجيجًا في أرجاء المكان، أخذته حَمِيَّتُه تباهيًا بشبابه الغض، وفي آخر العربة ترصد عيناه فتاةً تجري اتصالاً هاتفياً بصوتٍ خافت وبكاءٍ مكتوم، تبكي في صمت كأنها لا تريد أن يشعر بها أحد، أو تلفت الانتباه إليها.

أزعجه فجأةً صوت صراخ أمّ فقد ابنُها وعيَه فالتم حولها الناس ليرَوْا ما به. يأتيه رجلٌ يهمس في أذنيْه ويظهر على وجهِه الخجل يطلب منه ثمن التَذْكرة؛ فهو لا يملك ثمنها، وفي لحظة تأملٍ يتسللُ إلى مسمعه صوتٌ جميلٌ يقرأ القرآن الكريم فإذا هو شاب أزهري مُعمم كفيف البصر لا يرى بعينيه جمال الحياة وقبحها.

ما زال الطريق طويلاً فأراد أن يستغل الوقت في قراءة كتاب اصطحبه معه من بيته .. انهمك في القراءة يسبح ما بين السطور إلى أن وقف القطار في محطته الأخيرة، واتجه بعد ذلك إلى المطار، وبَقِيَ منتظراً في صالتِه إلى أن وصل ابنه بخيرٍ وسلام فأقبل عليه بلهفةٍ شديدة واشتياقٍ أشدَّ.

احتضنه بقوةٍ وبشوقِ السنين

وقال له: "لا أريد من هذه الدنيا إلا أنت".