من الإستفتاءات المرسلة لي في الشأن الأسري :
لماذا تلعن الملائكة الزوجة التي تبيت هاجرة فراش زوجها ولاتلعن الزوج إذا فعل الشيء نفسه ؟
تفصيل السؤال :
تقول السائلة : هل إذا بت ليلة أتعبد لله ، أو لأنعم بالمبيت مع أولادي أو لأي سبب ، فهجرت فراش زوجي تلعنني الملائكة حتى أصبح ؟ ولماذا تلعنني الملائكة ولاتلعن زوجي الذي يهجر فراشي كثيرا ، ودون سبب متعمدا معاقبتي ؟
أقول : حقيقة هذا السؤال بهذه الصياغة فرض علي فرضا أن لاأحاول الإجابة عنه من محفوظاتي الإفتائية ، فالسؤال ظاهره استفتائي في شأن شرعي ، ولكن غير خاف مااستتر خلفه من مشاعر أنثوية موجوعة ، تستشعرالمظلومية والحرج فقط لكونها أنثى ،وتستشعر كذلك خطأ هذا الفهم ، وإلا لما سألت .
وأقول : نعم هناك خطأ وخطأ كبير ولكن في الفهم لافي النص ، فربنا الرحمن الرحيم هو الذي خلق الجنسين وأحاطهما بالعناية والرحمة ، وهذا الذي تعانيه هذه الزوجة الموجوعة ، لايمكن أن يتفق والرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء .
وبعد إعادة بحث هذه المسألة من جديد : تبين لي أن أصح الروايات في هذا الحديث ، التي هي رواية البخاري تكاد تكون مهجورة وغير مشهورة ، مقارنة بالروايات الأخرى المشهورة بهذا الشأن ، وأبرزها رواية " أيما امرأة باتت (هاجرة )فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح " وهي التي يكثر تردادها على المنابر وفي جلسات الوعظ ونحوهما.. .
ولكن ما هو نص رواية البخاري ؟
أقول نص رواية البخاري " إذا باتت المرأة (مهاجرة) فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح .
وبين اللفظتين " هاجرة " و " مهاجرة " فرق كبير.
فكلمة " هاجرة " اسم فاعل من " هجر " والأصل في اسم الفاعل أنه إذا جاء على صيغة "فاعل" من الثلاثي ، أفاد مجرد حدوث الفعل لاثبوته وديمومته .
وعليه ، ووفق هذه الرواية يكون مجرد هجر الزوجة لفراش زوجها ولو مرة أو مرات قليلة ودون ديمومة ، يجعلها من أهل هذا الوعيد الوارد في الحديث ، وهذا هو الفهم الذي يروج في هذه المسألة ، وهو فهم غير صحيح في نظري .
أما كلمة " مهاجرة " في رواية البخاري الصحيحة ، فهي اسم فاعل من هاجر الرباعي ، واسم الفاعل إذا جاء على هذه الصيغة أفاد معاني متعددة ، منها : التكثير ،والمبالغة، والتكلف ،والثبوت والدوام.
وعليه فيكون هذا الحكم قاصرا على الزوجة التي تداوم على هجر فراش زوجها وتثبت على ذلك حتى تهجره كلية ، فهذه هي المعنية بهذا الوعيد .
وبذا يتضح فارق مابين اللفظتين بالاعتماد على ماتفيده صيغة اسم الفاعل مبنى ودلالة، والتي جاءت اللفظتان "هاجرة " و" مهاجرة " وفقها في الروايتين .
يؤكد صحة هذا الفهم الذي أنجدتنا به لغتنا الجميلة البليغة أمران :
الأول :
تعريف المهاجر من ناحية المدلول المعجمي والشرعي : فالمهاجر هو من يترك منزله أو وطنه بعيدا إلى مدة تطول كثيرا ، وقد لاتعقبها عودة إذا استقر به المقام في المكان الذي هاجر إليه .
ومن هنا تفرق اللغة بينه وبين المسافر ، فالمسافر هو من يقطع مسافة ما خارج حدود بلدته ، يسفر بها أي يبكر ،ثم يعود إلى دياره وقد يرجع في اليوم نفسه .
والهجرة كذلك تفيد معنى التحول من حال إلى حال ، وقد تكون في المعنويات ، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " والمهاجر من هجر مانهى الله عنه "
الثاني :
التعبير بقوله صلى الله عليه وسلم " باتت " يؤكد كذلك هذا الفهم الذي ذكرنا ،لأن من معاني" بات " في اللغة : التحول من حالة إلى أخرى مع لزومها ؛ تقول بت أحب كذا وبت أكره كذا ،أو بت أعمل في وظيفة كذا ، فكأن الزوجة التي يصدق عليها هذا الوعيد الوارد في الحديث ، هي تلك التي أصبح حالها هو هجران فراش الزوج ، مع لزوم هذه الحالة دون عذر مقبول ، لاتفاق شراح الحديث على أن من لديها عذر مقبول من مرض أو نحوه لايشملها هذا الوعيد الوارد في الحديث .
هذا عن الشق الأول من السؤال .
أما عن الشق الثاني : أعني قول السائلة : ولماذا لاتلعن الملائكة الزوج الذي يهجر فراش زوجته كما تلعن الزوجة؟ فأقول :
هذا الوعيد الوارد في الحديث في حق الزوجة المهاجرة لفراش الزوجية ، ليس معناه اختصاصها وحدها بهذه العقوبة ، و أن الزوج المهاجر لفراشها لايستحقها نفسها ،لعدد من الأدلة أهمها مايلي :
أولا : أنه لايجوز تفسير أي نص جزئي في واقعة ما دون رده إلى الكلي، ونعني بالكلي : القواعد العامة للشريعة الإسلامية ومقاصدها ومبادئها الثابتة.
ومن ثوابت شريعتنا: أنه لافرق في ثواب ولاعقاب ببن رجل وامرأة ، فما يعد إثما من المرأة هو كذلك من الرجل ولافرق .
ومن ثم فهذا الوعيد الذي ورد في حق الزوجة المهاجرة ، هو من باب التحذير لصنف معين من الزوجات ، وهن اللواتي يكثرن من هجر فراش أزواجهن لأدنى تصرف ،ويطول هذا السلوك بهن حتى يصبحن " مهاجرات" بالمعنى الذي قدمنا.
ثانيا : لم يسمح القرآن الكريم للزوج بهجر فراش زوجته ، حتى وإن نشزت عليه ، وقد ورد النص القرآني صريحا في ذلك ، حيث قال تعالى في حق النواشز " واهجروهن في المضاجع " يعني يبتعد الزوج عن الناشزة في الفراش ،أو في السرير نفسه ، فيوليها ظهره كما قال المفسرون ، ولايهجرها خارج حجرتها حتى لايؤذي مشاعرها أمام من يساكنونها المنزل من الأولاد والخدم مثلا.
وهو مانص عليه صلى الله عليه وسلم في قوله "ولاتهجر إلا في البيت "
ثالثا: : إذا كان هجران الزوجة لفراش زوجها نشوزا ،فإن القرآن الكريم قد تحدث كذلك عن نشوز الزوج ، واذا كان نشوز الزوجة حراما لكونه يؤذي الزوج ، فكذلك نشوز الزوج هو حرام لأنه يؤذي الزوجة ، وربما يكون تأذيها به أشد لفرط حساسيتها ورقة مشاعرها ، وعليه فإن الزوج يعاقب بنشوزه كما تعاقب الزوجة بنشوزها ولافرق ، لأن تعمد الأذى حرام قولا واحدا .
وممن شددوا في ذلك : فقهاء المذهب المالكي تحديدا ، وعلى الأخص الفقيه أبا البركات /أحمد الدردير ، حين جعل هجران الزوج لزوجه في الفراش من سوء العشرة ، و لها حينئذ الحق في طلب التفريق للضرر ، قال وسوء عشرتها يوجب التأديب زيادة على التطليق .
الشرح الكبير ٣٤٥/٢"
أين التمييز إذن بين الزوج والزوجة في هذه القضية وأمثالها ؟ يبدو أن الموروث الفكري التمييزي أكبر بكثير من كل الجهود التي بذلت في سبيل إصلاح هذا العطب ، ولكن نحن ماضون في هذه السبيل ولن نعدم الأمل .