لطالما تعلّقَ قلبُه بذاكَ المقهى، يلجأ إليه كلما ضاقَت به غربتُه عن أهله، طاولتُه الأثيرة، زبائنُه غريبي الأطوار، كلّهم غرباءُ مثلُه، يأتون لاحتساء القهوة، والابتعادِ عن ضجيج المدينة وما فيها، ليركَنوا بعضَ الشيءِ إلى أنفسهم وذكرياتهم.
أبو أحمد النادلُ الوحيدُ في المقهى، العارفُ بكلِّ شيءٍ عن الجميع، بحدسِه الذي لا يخونه...
أتى له بكوب قهوتِه الذي اعتاده، كان صوتُه حنوناً أبوياً، قلبُه طاهرٌ سليمٌ من الرياء و الحقد، صفاءُ نيّته هو ما جعل شاهينَ يتعلّق بذاك المقهى الشعبيّ النّائي، البعيد عن حياة التملّقِ والمصلحة التي يُبغِضُها.
وضع له قهوتَه على الطاولة وأمطرَه بدعواتِه، بلمِّ شملِه هو وعائلتُه، حينها أزاح أوراقَه وأمسك هاتفَه، وبدأ يقلّبُ صورَ أمه وإخوتِه، وهو يحلُم بأنْ يستيقظَ غداً على جلبة إخوته في بيته القديم.. كابوسٌ بالنسبة له صورُهم على شاشة الهاتف، وأمنياتُهم البسيطة، ووجوههم القلقة، وأخبارهم التي لاجديد فيها إلا الانتظار...
أثناء ماكان يغطُّ بنوبةِ سرحانِه أفاق على صوت حبات المطر تطرق النافذة، انفرجت أساريرُه بعض الشيء، فالمطر يعني له الكثير، لطالما قالت أمه إنّ المطرَ يغسل القلوب، لم يطل تفكيرُه، رنَ هاتفه مع اشتداد انهمار المطر، إنّها هي من بعد طولِ خصام، رمقه أبو أحمد بنظرةٍ فيها من الغمز، مع ابتسامةٍ رقص لها قلبُه قائلاً له: الله يبعث الخير.
لملم حاجاته من على الطاولة، وغادر غير آبه بوابلِ المطر، على أملٍ أن تُنعِم عليه بموعدٍ جديد.