بين طرقات الأمل وعلي حافة الصمت والألم، بين دهاليز الحنين ومسارات متعرجة مسكونة بصور وذكريات لم تزل نابضة بضجيج صامت، ها أنا أخطو وحدي، أجاهد لأغض بصري عن عالم مظلم شوهته الخطايا والأثام، ما زلت أسير وحيدًا بينما ما زال طريق التيه طويلًا فلا نهاية له أو رجوع منه، كأهل الكهف مطارد يعتريني الخوف والوجل، شارد الذهن كل الحواس صماء لا ظل لي ولا صدى لصوتي، ما أسوأ الإنتظار عندما يكون ضبابيًا، عندما يكون سرابًا، عندما يكون سرمديًا كظل يكتسب وجوده من الشمس فما أن تغيب حتى يتلاشى بغيابها ليتسلل ويتوارى متخفيًا بالظلام، يتوشح خيبة الرجاء والأمل، حافيًا أسير فوق الأشواك، أشعر بنتوءات الحصي تحت أقدامي، تمزق روحي تعزف على أوتار قلبي لحن الوجع ليحتل كل حواسي من ثم يستوطن بالوتين كمحتل غاشم، تبًا لهذا الظلام لمَ يحيط بي من كل حدب وصوب وكأنه يسكنني، تبًا لتلك الأصوات التي تلاحقني تسبقني تحاصرني فلا أكاد أسمع سواها حتى وإن سددت أذني، لكنها مازالت تتردد بعنف داخل روحي كأجراس كنيسة أثرية لم تُقرع منذ ألف عام أو يزيد، تردد نفس السؤال من أنت؟ من أنت؟ من أي العوالم أتيت؟ أتوقف بغتة، ألتفت للوراء ليس لأجيب عن تلك الأسئلة، وكيف لي أن أجيب ما أجهله؟ فقط أتوقف حائرًا أشاركها نفس السؤال ونفس الحيرة من أنا؟
بل لماذا أنا هنا؟ من أين أتيت؟ إلى أين أذهب؟ هل أنا عابر سبيل؟ أم حُلم ميت على قارعة الطريق؟
أو ربما كنت أمل قديم تحول إلى وهم وسراب ، ربما ذكرى بعيدة استوطنت الخيال من ثم غادرت وذهبت للأبد إلى غير رجعة، أتراني فقدت هويتي أثناء البحث عني؟
هل كان مقدرًا لي أن أعود يومًا من حيث أتيت؟ ولكن من أين أتيت؟ حقا لا أذكر من أنا أو من أين أتيت! وأين موطني،
كل ما أذكره من الماضي السحيق بذاكرتي الخاوية هو ذلك الضوء الذى تسلل بداخي، شعاع يمتد بلا نهاية، مهلًا فما زالت ذاكرتي المهترئة تعج بالكثير من الهلاوس الضبابية، ما زالت حُبلى بببعض الحروف المتناثرة والكلمات الناقصة، بعض أوراق التوت المتساقطة والتي فشلت بمواراة سوءاتي، من بعيد تلوح لي تفاحة غير مكتملة وشجرة يابسة وامرأة حائرة تواسيني وتشاركني نفس الشعور بالخجل، نفس الشعور بالحسرة والندم.
هى امرأة تستعد لرحلتها الأولى معي وكأنها أول حواء وأنا أخر أدم.
الأن فقط فهمت، الأن فقط أدركت ولكن بعد فوات الأوان، حيث لا رجوع لموطني الأصلي، بدأت الخطوة الأولى وما زال الصوت يطاردني يلاحقني، يأتي من أعماق سحيقة، يتلذذ بنشوة الإنتصار، يردد برتابة تلك العبارة الأزلية والآنية، ما زال طريق التيه طويلًا، ما زال طريق التيه طويلًا.