اقترب المغيب، ضوء الشمس يخفت شيئا فشيئا وتعلو أنوار الكهارب المعلقة بطول الشارع وفي السرادق المقام أمام الدار، تنتقل الوفود إلى حلقة الذكر وتهدأ الدار التي كانت تعج بالزائرين منذ الصباح في مثل هذا الوقت من كل عام، يترنح الرجال في حلقات مرددين بتناغم "الله حي"، يتخذ المقرئ مكانه ويبدأ في التلاوة، يصدح صوته بالآيات فتخشع أصوات الحاضرين ثم تتعالى في دبر كل آية بانبهار مرددين" الله الله الله ..فتح الله عليك يا شيخ"
يجوّد الشيخ متحكما في طبقات صوته العذب، يصدح بالآية متأثرا " وراودته التي هو في بيتها وغلّقت الأبواب وقالت هَيْت لك .. وقالت هِيْت لك ..وقالت هِيْتُ لك .. وقالت هِئْتَ لك .. وغلقت الأبواب وقالت هِيْتَ لك قال ما عاذ الله"
ليال ثلاث ينتظرها الغني والفقير في القرية على السواء، تُذبَحُ الذبائح ويُطعَم الطعام ثم تُقام حلقات الذكر لتطهرهم من رجس عام مضى؛ هكذا يظنون.
_السنة دي الذكر معمول عشانك
قال الحاج أنور لزبيدة ذات السبعة عشر ربيعا، تورد وجهها وأضاء بابتسامة رقيقة، قالت متعجبة
_" عشاني اني؟!"
داعب وجنتها بأنامل واهنة وهو يقول
_" علشان ربنا يطرح فيكي البركة"
طرفت عيناها وأسبلتهما بخجل، سكنت تحت دغدغات أنامله المرتعشة، تسري في جسدها قشعريرة شبقة، اتسعت ابتسامتها وأنامله تروح وتجيء مداعبة عنقها العاجي برفق، أغمضت عينيها وارتعشت شفتاها متشوقة لشيء آخر، أطلقت خيالها وانتظرت أن يتجاوز دغدغاته فيطفيء نيرانا اشتعلت في جسدها، سرعان ما أعادتها للواقع طرقات على باب الحجرة سمعت بعدها صوتًا أجشًّا يستدعيه، انتفض واقفًا كأنما جاءه ذلك الاستدعاء كنجدة ليهرب من حممها الهادرة.
خمسة أشهر منذ أن وطئت قدماها هذه الدار لم يرو لديها رغبة ولم يشبع لها نهم اشتياق، انتشلها من الفقر للغنى وكان الثمن جمالها.
رآها تجمع القطن مع الفتيات في الأرض الشرقية الواقعة في نطاق أملاكه التي لا حصر لها، مهرة جامحة تحتاج لفارس يعرف كيف يقود لجامها، له نظرة في النساء لطول خبرته بهن، رغم عقوده السبع ما زال يرى في نفسه فتوّة، عندما أغلق عليهما باب واحد علم أن ما يستطيع منحها إياه لا يروي ظمأ جموحها، لكن سطوة المال جعلته قابضا على زمامها، صبرت على ضعفه مقابل الإرث المنتظر. تعج الدار بالنساء وجعلها هي فوقهن، سيدة تجيد إعطاء الأوامر وتدبير المكائد لمن يساوونها مكانة لديه، طلّق زوجته الأولى عندما رغبها وأبقى على الثلاث الأخريات، تستمد كل واحدة منهن قوتها من أبنائها بينما تستمد هي قوتها من دلالها، وقفت على باب غرفتها تراقب الحركة التي لم تهدأ في الدار منذ الصباح، وفود تدخل خماصا وتخرج بطانا تسبقها دعوات لصاحب الدار وتلك التي أولَمَ من أجلها، تراه بين الجمع لا تهدأ حركته، يروح ويجيء مشمرا عن ساعدين مفتولين، يخدم الوفود تسبقه همة عالية، يحبه الحاج أنور لفتوته يربت على كتفه ممتنا، يقول مداعبا( عفارم عليك ياد يا صادق، موسم القطن الجاي هجوزك... شاور على أجدعها بنت وانا اخطبهالك)
يضحك بحياء ساذج، يقول ببلاهة( تعيش يا جدي)، تلمحها عيناه على باب الحجرة تسند بإحدى يديها على القائم وتضع الأخرى في خصرها، يطوف بذاكرته الحلم الذي لا يفارقه منذ أن قَدِمَتْ الدار ، هو وهي في غرفة نائية، تداعب أذنه أنفاسه المتلاحقة وتأوهاتها الغنجة، سرعان ما يثوب لعقله عندما يرى جده في حلقة الذكر، يهرع إلى هناك، يقف بين المترنحين يطوح رأسه يمينا ويسارا بقوة يريد طرد أفكاره، وما زالت عينا الواقفة على الباب ترقبه بنهم وما زالت أنفاسها في ذاكرته تلفح أذنيه.