عندما نذكرُ الإمام جعفر الصادق، تسرحُ العقول بخيالها إلى سعة وغزارة علم هذا الإمام الجليل في الفقه والحديث والتفسير وعلوم الدين واللغة؛ إذ كان له قَدَم صَدقٍ في مجال الفقه، وله مذهبه المعروف «الفقه الجعفري»، وله اجتهاداته الفقهية الخاصه به، وله استنباطاته القرآنية التي يتميز بها، ومَنْ درسَ في الأزهر يعرفُ ذلك.
ولكنَّنا لا نتحدث في هذا المقال عن أبي جعفر الفقيه، ولا عن أبي جعفر المتصوف، ولا باعتباره سليل بيت النبوة... ولكننا نتحدث عن أبي جعفر الكيميائي!!
نعم، لقد كان الإمام جعفر الصادق من علماء ورواد الكيمياء في زمانه، ويُعدُّ من أوائل الذين نهضوا بعلم الكيمياء في الحضارة الإسلامية.
ولقد ألَّف في ذلك الأستاذ محمد يحي الهاشمي العراقي كتابًا أسماه «الإمام الصادق مُلهم الكيمياء»، أثبت فيه أنَّ الإمام الصادق كان على دراية كافيه بعلم الكيمياء، وخواص المواد، وطبيعة الأشياء، وأنه قام بتدريس الكيمياء في مدرسته قبل إثني عشر قرنًا من الزمن، ومن تحت يديه تخرَّج مشاهيرُ الكيمياء وعلماءها، أمثال: هشام بن الحَكَم، صاحب نظرية (جسمية الأعراض) كاللون والرائحة والطعم، والتي أخذها عنه إبراهيم بن سيَّار النظَّام.
وذكر العديد من اكتشافات ونظريات الإمام الصادق في مجال الكيمياء، والتي منها:
1- تفنيد نظرية أرسطو للعناصر التقليدية، واكتشاف أن كل واحد من العناصر يتكون من عناصر كيميائية مختلفة، وفي هذا يقول الصادق: «أتعجَّبُ كيف يمكن لرجلٍ مثل أرسطو أن يقول أن العالم لا يوجد به سوى أربعة عناصر: الأرض، الماء، النار، والهواء!! إن الأرض ليست عنصرًا من العناصر، وإنما هي تتضمن العديد من العناصر. وكل فلز موجود في الأرض، هو عنصر».
2- كما وضع الإمام جعفر الصادق نظرية الجسيمات، التي وصفها بقوله: «ولد الكون من الجسيمات الصغيرة، التي لها قطبين متعاكسين. تنتج هذه الجسيمات الذرات، وبهذه الطريقة تأتي المادة إلى حيز الوجود، ثم تتنوع المادة، وهذا التنوع ناجم عن كثافة أو ندرة الذرات».
3- كما كتب الصادق نظريةً حول عتامة وشفافية المواد، وذكر أن المواد الصلبة والماصة تكون عاتمة، والمواد الصلبة والطاردة للماء تكون شفافة نوعًا ما، وذكر أيضًا أن المواد العاتمة تمتص الحرارة.....
كل هذا يؤكد على براعة الإمام الصادق في علم الكيمياء وانشغاله بها.
ويكفي دلالة على علم جعفر الصادق بالكيمياء أنه أستاذ (جابر بن حيان)، ذاك العبقري الفريد الذي دوَّن وألَّف نحو خمسمائة رسالة في علمي الكيمياء والصيدلة، وأشار ابن النديم لمعظمها.
ومن الجدير بالذكر أنَّ جابر بن حيان هو الذي وضع قواعد المنهج التجريبي لأول مرة، وأخترع العديد من الأدوات المستعملة في المختبرات اليوم، وهو الذي حضَّر حامض الكبريتيك، والنيتريك، وماء البروم، والماء الملكي....ولاحظ لأول مرة ترسيب كلوريد الفضة عند إضافة مادة نترات الفضة لكلوريد الصوديوم، مما ساعدنا هذا اليوم في تعيين وتقدير نسبة الكلور في مياه الشرب....لذا استحق جابر عن جدارة أن يُلقَّب «أبو الكيمياء».
وليس هذا الكتاب فقط مَن تناول هذا الموضوع وسلَّط الضوء على هذا الجانب الكيميائي في حياة الإمام جعفر الصادق، بل لديَّ كتاب آخر بعنوان «الإمام الصادق كما عرفهُ الغرب»، يضمُ مجموعة من الأبحاث التي أعدَّها مركز الدراسات العليا المتخصصة في تاريخ الأديان بجامعة استراسبورغ الفرنسية بمشاركة نخبة من علماء وأساتذة الجامعات الأوروبية والأمريكية حول الإمام الصادق ونظرياته وعلومه وأرآءه وتلاميذه.... وقد تُرجمَ هذا الكتاب إلى العربية بواسطة الدكتور نور الدين آل علي، وراجعه الأستاذ وديع فلسطين، وقدَّم له الدكتور محمد عبد المنعم خفاجى من علماء الأزهر الشريف بمقدمة توزن بميزان الذهب.
في هذا الكتاب ذكر الباحثون مجموعة من العلوم والمعارف التي كان يتميز بها الإمام الصادق، فذكروا علوم الطب والفلك والفلسفة والنباتات..... كذلك ذكروا نبوغه وبراعته في علم الكيمياء.
في هذا الكتاب تحدثوا عن نظريات الإمام الصادق في الضوء ونسبية الزمن، واكتشافه لعنصر الأوكسجين قبل لافوزييه، ونظرياته حول نشأة الكون وحركة المجرات وأشعة النجوم، ...إلخ. وتحدثوا عن حركة تدوين العلوم في عصر الصادق، ودوره في ترجمة العلوم والمعارف إلى العربية، وعن الجانب الفلسفي في حياة أبو جعفر الصادق....
كل ذلك يؤكد لنا أن الإمام أبو جعفر الصادق كان من العلماء الموسوعيين الذين جمعوا بين علوم الشريعة والطبيعة والحقيقة، مما يدعونا ذلك إلى التنوع المعرفي والاستبحار الثقافي، وألا نكون متجمدين منغلقين على أنفسنا، ولنا في آل بين النبي ﷺ أسوة وقدوة.