بدأت باقي القيود في الانفكاك تدريجيا عن طريق التحكم عن بعد و أطلق سراح جسده فهو الآن حر طليق . لكنه لم يستطع النهوض مهما حاول إجبار جسده على ذلك فاستسلم لنداء سريره وأسلم نفسه إليه من جديد. نظر حوله فلم ير أحدا. لا يزال المكان خاليا إلا منه والأجهزة التي لم يعد بحاجة إليها. لم ينس الصوت الذي يرافقه كسراب لامع بلمعان المعادن. صاح بشدة مخاطبا المجهول.
_ ما الذي جاء بي إلى هنا؟ و كيف وصلت؟ وهل يمكنني العودة؟ وما الذي يؤكد لي أن كل هذا الهراء هو حقيقة وواقع؟
جاءه الصوت بالإجابة:_ نخبرك أولا بما لدينا ثم نأتيك بالأدلة الداعمة.
_وهل يحتاج الأمر إلى أدلة؟
_نعتقد ذلك.
رووا له القصة كاملة: أخبروه كيف عاود "الرامي أ " نشاطه من قلب المجرة و لسبب غير معلوم بدأ في التهام كل ما اقترب منه من نجوم فتهاوت فيه كالفراش الشريد، حتى ازدادت كتلته و جاذبيته بصورة لا نهائية و اتسع قطر أفق الحدث الخاص به ليبتلع كل المجموعات النجمية متعددة الأحجام حتى التي على أطراف المجرة بما فيهم المجموعة الشمسية...
ألقَوا عليه الخبر الصاعقة بصوتهم البارد: لقد اختفت درب التبانة.
بدا فاغر الفم مشدوها تائها غير مستوعب لكل ما يقال.
لم ينتظروا منه أي ردة فعل فهم على علم بما يختلج في صدره الآن من تشويش وألم و عدم تصديق.
أردفوا قائلين: نذكرك أن ما كنت تراه من موضعك على الأرض من نجوم يحتاج الضوء المنبعث منها إلى ملايين السنوات الضوئية ليصل إلى عينيك كي تراها. فما تراه عيناك قد لا يكون موجودا في الحقيقة، فربما يكون انفجر أو ابتلعه ثقب أسود فلم يعد له أثر . بل إن بعض التلسكوبات رصدت نجوما و مجرات على ابعاد تتخطى الأربعين مليار سنة ضوئية رغم أن الكون عمره من وقت الانفجار الكبير يقارب أربعة عشر مليار سنة ضوئية فقط. وبالطبع لم تتشكل المجرات قبل نشأة الكون، لكن الاتساع المستمر والتمدد الكبير للكون و تسارع مكوناته في الابتعاد عن بعضها سبب كل ذلك. لذا و من خلال تليسكوباتنا المتطورة والموضوعة على ابعاد مختلفة في الكون سنأتيك بالأدلة المؤكِّدة لكل ما سنخبرك به...
فجأة و بدون مقدمات تحركت جدران الغرفة بصورة تشبه الهولوجرام وهي تعرض صورا أظهرت الانفجار الكبير ثم نشأة الكون و بداية تشكل الأجرام المختلفة. كان المشهد بديعا لكنه لم يطربه أو يثير اهتمامه فهو لن يقدم أو يؤخر شيئا في الإجابة عن أسئلته. ثم من خلال الخط الزمني و على بعد خمسة وستين مليون سنة ضوئية شاهد تيرانوسورس ريكس يتقاتل مع أفراد من تيتانوصور و يوتارابتور وقد تسيدوا العصر الطباشيري في حرب شعواء أفنى بعضهم بعضها فيها.
وفي عام 1274 ق.م على الخط الزمني كانت معركة قادش تتم بكل تفاصيلها وعجلاتها الحربية على الضفة الغربية لنهر العاصي. و رغم انتصار الملك رمسيس الثاني على الحيثيين و هزيمة مَلِكهم مواتللي الثاني، إلا أنه بادرهم بصرخة مدوية تنذر بغضب عارم وانهيار نفسي شديد ونفاذ لما تبقى له من ثبات انفعالي: توقفوا.. لا أريد أن أرى المزيد. لا أصدق كل هذه التراهات. لعلها تقنية "ميتافيرس" تريدون أن تخدعوني بها خداعا بصريا...
بالتأكيد كان لايريد أن يرى الصور القادمة على الخط الزمني فهو يعلم جيدا أن القادم سيكون صادما و كاسرا للقلب. هكذا تهامسوا إلى بعضهم.
_ حسنا.. إن أردت التوقف فلابأس لكن الدليل معنا كما أخبرناك لنثبت صدق ما نقول إن نحن أكملنا ما بدأناه.
قال كمن لا حيلة له والألم يعتصره : حسنا. أعتذر منكم. فلتكملوا.
لم يشعر بنفسه حين انهمرت دموعه دون ارادة منه و هو يرى على الخط الزمني صورته هو و زوجته معلقة على جدار إلى جوار صور عديدة مماثلة لأجيال متعاقبة.
كان ذلك اليوم هو احتفال بيوم مولد أحد أحفاد أحفاده. وهو يمثل بالنسبة لهم الجد السابع او العاشر، فلم يتمكن من حصر عدد الصور على الجدار. لم يهتم أن يرى أخر صور على الخط الزمني والتي تصف انهيار درب التبانة، فما شاهده كان أكثر بكثير مما يستطيع تحمله.
أدرك أنه لا سبيل للعودة إلى الأرض فنتيجة سرعته الهائلة في سفره الفضائي تباطأ الزمن كثيرا مع ازدياد السرعة ومن ثم فإن دقائق تمر عليه في موضعه الجديد قد تمثل شهورا و سنوات على الأرض و إن عاد فلن يجد أحدا ينتظره بعد مرور زمنا طويلا على اجيال كثيرة متعاقبة. فالوقت على الأرض أسرع من هنا بكثير بل قد يتوقف الزمان اذا بلغت سرعته سرعة الضوء على حين مروره بشكله التقليدي هناك حيث كان بيته واسرته واولاده.
قال والدموع تملأ صدره من الخارج والداخل، و تكاد تغرقه في هوة سحيقة من بقايا الشك المؤلم: ولماذا انا هنا؟
توالت الردود والإجابات المثيرة لتكمل الصورة وتجعلها أكثر وضوحا.
_لست وحدك هنا و لكنك تمثل جزءً من مادة المجرة، فما كان منها متتَبعا ومرصودا بتلسكوباتنا حافظ على جزيئاته وحالته الجسيمية واتخذ طريقا محددا إلى هنا، أما من لم يكن مرصودا فقد اتخذ صورته الأخرى الموجية و انحنى مع انحناء الزمكان وانهار داخل الثقب العملاق. عليك أن تشكر الله ان كنت أحد الناجين. اطمئن أنت لازلت حيا ولكنك كما أخبرناك في عالم موازٍ
_ ما الذي يجعلني أصدق كل هذا ؟
_ إليك الدليل الأقوى الذي سيجيب عن كل تساؤلاتك مجتمعة. لكن كن متأهبا للمفاجأة.
دق قلبه في أذنيه فكأنما طبول الحرب تؤهبه لمصير أصعب وأهوال لا يمكن أن يتنبأ بها خياله. فلم يكن قادرا على توقع المزيد أو ربما لم تكن لديه الرغبة في مزيد من المفاجآت المرعبة .
جحظت عيناه عندما انفتح الجدار و خرج منه أشخاص لم يحدد من هم في البداية، لكن كلما اقتربوا منه كانت ملامحهم تتضح أكثر حتى كانت المفاجأة التي لمعت لها عيناه.
_لا أصدق. هل أنا في حلم؟
نظر مليا بعين متفحصة ليتأكد مما يراه.
إنه محاضر الشفرات الوراثية في مؤتمر الأنثربولوجي في فيينا. وعجوز متجر الكتب في فينيسيا. و من كان ينفث الدخان الأزرق وصديقته في سالوتي لكن بدون سيجارته المحشوة. لا لا.. لا يمكن أن يحدث ذلك. لا أصدق ما أراه.حتى أنت هنا. بائعة كريم الؤلؤ؟!
اقتربوا منه و كأنهم يتذكرونه جيدا و يعلمون عنه كما يعلم عنهم. تأكد أنهم عانوا مما يعاني منه الآن حتى تأكدت لديهم كل المعلومات عن عالمهم الجديد.. حكى له المحاضر أنه فعلا من كان بكل المعالم التي زارها لم يكن طيفا من صنع الخيال فدراسة الحضارات من دعائم الانثروبولوجيا وهو حريص على دراستها . و كأن القدر كان يرتب لهذا اللقاء. كما تحدث ثنائي سالوتي و أخبراه أنهما كانا يرتابا فيه كما ارتاب هو فيهما. فقد كانت تلك السيجارة من جعلتهما يعتقدان أنه أحد أعين الشرطة و قد أرسلوه ليقوم بتوقيفهما متلبسين بتعاطي المواد المخدرة، اخبراه كيف لم يشعرا بالاطمئنان إلا بعد أن قام بمغادرة المكان، لكنهما لم ينسياه لحظة و دائما ما يتذكران ذلك اليوم.. أما عجوز متجر الكتب فكانت قصته أكثر غرابة. فنظاراته السميكة كانت لا تسعفه في قراءة القدر اليومي من الكتب التي أفنى عمره في جمعها من مختلف أنحاء العالم الأرضي لأشهر المؤلفين. فبتلك النظارات أو بدونها هو لا يستطيع رؤية أبعد من قدميه، فلم يره مطلقا حتى عندما أوصاه مالك الشقة المستأجرة أن يتتبع صوت خطوات الساكن الجديد و يخبره إن لاحظ عليه شيئا يثير الريبة. قاطعته بائعة كريم اللؤلؤ التابعة لورشة فن الباتيك في كوالالمبور . قالت له: كنت سخيا عند شراء قطعة الملابس المرسومة باليد بألوان القماش و لم تجادل في السعر. كما أنك كنت تحمل بيدك الكثير من الشوكولاتة خاصة شوكولاتة التشيلي الحريفة التي أحبها. فعلمت أنك إما أن تكون شخصا ثريا أو كريما و أنني لا يجب أن أفوت الفرصة لأبيع لك بعضا من منتجاتي التي استخلصها وانتجها يدويا فقد لاحظت أنك تقدر العمل اليدوي ..
_ لكن أمرا لا يزال يحيرني..
كيف تعرفون بعضكم البعض وبينكم حدود ومسافات؟
جاءه الصوت مستنكرا: لا يليق أن تتحدث هنا عن المسافات، لكن كما أخبرناك.. أنت هنا في عالم مواز، وما تفكر به من ذكريات تقوم بجلبه إلى عالمك. وقد أفادت الرقاقة الدقيقة في فلترة و تحديد الذكريات والمعلومات المفيدة لك دون غيرها لتتأكد مما آلت إليه الأمور هنا و تكون مستعدا ومتقبلا لأن تعيشه. لكن لا تنس أن ما تفكر به من سيناريوهات و قرارات مهما كان عددها، إن اخترت أحدها ستقوم نسخ منك بتنفيذ باقي القرارات في عوالم موازية أخرى. لتشمل كل السيناريوهات. فأنت ساهمت دون أن تدري في وجودك بيننا الآن.
_ هل أفهم أنني سأجد نسخة أخرى مني هنا في هذا العالم الموازي؟
_ ولم لا ؟ بل قد تكون نسخا و أشباها أكثر من الأربعين المعتادة .
_أنتم بالتأكيد من زرعتم هذه الذكريات واكملتم المعلومات في مخيلتي من خلال الرقاقة.
_ بالتأكيد حدث ذلك. كنا نريد مساعدتك لا التحكم بك كما اعتقدت.
قمنا بجمع كل المعلومات التي تخصك من شيفرتك الوراثية ومن تاريخك الماضي الذي استعدناه بواسطة تلسكوباتنا. وحددنا الأحداث والأشخاص على مدار حياتك التي يمكن أن يساهم وجودهم في تهيئتك لعالمك الجديد وقمنا بتغذية الرقاقة بكل ما تحتاجه من معلومات و ذكريات تفيدك.
والآن.. بقيت لك إجابة واحدة كنا وعدناك بها.
_ من أنتم؟
بالطبع لك هذا. نحن فريق من الكائنات الميثولوجية نتواصل مع أكوان و عوالم موازية منذ زمن بعيد ونكون فريقا مع العلماء من مختلف الكائنات و الأجناس لبناء عالم جديد. فالكون فيه أبعاد أكثر من الأبعاد الأربعة التي تعرفها و كل له مخلوقاته التي تشغله. وهنا نحن جميعا سنتعلم التعايش السلمي الراقي مع بعصنا البعض. على قاعدة التقبل و التعايش فهذا ما خلقنا له.
ارتجفت جفونه بسرعة و شخص بصره في لاشيء حتى خارت قواه و راح في غيبوبة جديدة لعلها تكون الأخيرة.
كان يموج في أمواج عاتية من النيوترونات و الكواركات. حاول النجاة و قاوم الغرق بشدة لكنه كان يغوص أكثر. كاد أن يستسلم لمصيره إلى أن شعر بيد حانية تُرَبت كتفه وتنتشله من تلك الدوامة المرعبة. فتح عينية ببطء ليجد أمامه المفاجأة الأكبر على الإطلاق.
إنها زوجته صبوحة الطلعة مشرقة الوجه ببريق اللؤلؤ.
ابتسم في راحة وتنهد بعمق فأخيرا اجتمع الشمل. أخيرا سيعيش حياته بصورة طبيعية بلا أحلام او خيالات. لكن فجأة غطى ملامح وجهه مزيج مزعج من القلق و الريبة. نظر إليها وابتسامتها تقتلع قلبه من موضعه لتعيد تثبيته من جديد في مكانه الصحيح. تساءل والفضول يكاد يعصف بما تبقى منه: هل هي زوجتي؟ أم نسخة منها؟ هل كان حلما؟ أم أنا الآن في عالم مواز؟..
لا أريد سماع الإجابة.
تمت.